لم يتقدم إليها، ولم تتقدم إليه.. فربما اختلف شكله قليلاً.. وربما اختلف شكلها أيضاً.
سنوات عشر.. مرت حتى الآن، مسافة طويلة، فصلت بينهما منذ لقائهما الأول. هناك في أحضان الطبيعة.. في تلك البقعة التي تسكنها الينابيع.. ويحتلها الشجر المثمر.. وتملأ جنباتها أشجار الصنوبر والسرو والحور والصفصاف.
بقعة يتوسطها جدول رقراق، يمتد بين بساتينها المنبسطة في حضن الوادي.. وتمتد البساتين حتى تصل إلى قمة الجبل، رافقها في جولة طويلة بين الحقول، أمسك بيدها.. وقطع معها الغدير، ضحكت كثيراً، وشاركها ضحكاتها.. حين تبللت ملابسها.. وعلقت الرمال الناعمة بين أصابع قدميها.. تسلقت معه الجبل المؤدي إلى مغارة. يسكنها أحد الشعراء الهاربين من الصخب.. ولا يأتي إليها إلا كل من له ولع بالمغامرات وتسلق الجبال.
تفصد العرق من جبينها الأبيض العريض.. وملأت السعادة قلبها. وهي تتسلق الجبل العالي، مدفوعة بحب الاستطلاع لرؤية ذلك الشاعر المجنون.
وحين وصلت الجماعة إلى قمّة الجبل.. اضطروا جميعاً للإنحناء والاعتماد على حواجز جبلية.. لكي يصلوا إلى المغارة، التي بدت واسعة من الداخل، محاطة بسقف صخري قاس.. وعلى الأرضية الممهدة، استقرت طاولة خشبية صغيرة.. صف حولها عدد من الكراسي المنخفضة.. التي حيكت مقاعدها من خيوط نباتية لينة.. هي أقرب للقش.. وربما أخذت من أعواد القصب المزروعة في أماكن متفرقة من تلك البقعة..
في الجهة اليمنى من المغارة تربع موقد صغير، ركب من تقابل حجرين متساويين في الحجم والارتفاع.. تفصلهما كومة من الرماد المتفحم.. عليها وضع إبريق لصنع الشاي قد جلله السواد من كل أطرافه.
في اللحظات الأولى، فاجأها برود الشاعر.. الذي ما لبث أن ابتسم ابتسامة ودوداً.. وحين ابتدأ الحديث، خرجت ألفاظه رقيقة، وبرقت عيناه بوميض من الترحاب..
وضع الشاعر في الموقد أعواداً جافة.. ثم رش عليها "زيت الكاز" ورما فوقها كبريتا مشتعلاً.. فالتهب وأضاءت وجوه الحضور.
وحين وزعت أكواب الشاي ذات اللون العقيقي بدأ حديث السمر.
انبجس النور من خارج المغارة.. ووصل عبق الزهور البرية إلى أنوف السمار مع النسائم العليلة المحملة بالدفء..
الوقت كان بداية الصيف، وشمس أيار، أتت حميمة.. بأشعتها الفضية.. التي تسللت وصافحت وجوه الملتفين حول المنضدة المنخفضة.
في صدر المغارة ركّز سرير حديدي.. ستر بفراش مبرقع بألوان شتى.. وغطي هذا الأخير بغطاء من نوع رخيص توسطته وسادة.. أما الغطاء الصوفي فقد طوي ووضع في أسفل السرير.
رشفات الشاي ظلت تتردد في أرجاء المغارة مصحوبة بحوار ممتع.
نظر إليها بعينين واسعتين جميلتين.. فاستراحت لنظراته الدافئة كدفء الربيع.. واستسلمت لتلك النظرات وكأنها طفلة صغيرة، تتقبل كل ما يقدم لها من هدايا.
نظراته المشبعة بالحنان أشاعت في قلبها الفرح.. فشعرت بجمال المكان وسحره.
والمغارة.. أعادتها إلى حياة الإنسان البدائي.. الذي مارس رجولته على المرأة التي تشاركه المغارة.. حين أعلن قوته بقسوة تصحبها الرهبة والرغبة.
وكأن تلك المشاعر البدائية قد انتقلت إليها.. فأحست فجأة بكثير من العاطفة.. وشيء من الخوف.
في طريق العودة، حيث تقوم الذرا الجبلية المنبسطة.. بدأا.. الهبوط معا إلى السهل الممتد في أسفل الهضاب..
قدم لها أزهاراً برية ليلكية وصفراء.. وأهداها غرسات ذات شفاه مفوفة تشبه البنفسج والنرجس.
صمتا وهما يقطعان المسافة المؤدية إلى الوادي.. وحديث رائع دار بين قلبيهما.. لم يصل إلى أفراد المجموعة..
سافرت، وتركته هناك.. وهي تحمل في صدرها تلك الساعات الغريبة الغنية بالعطاء.
والآن.. تراه من جديد أمامها.. رددت اسمه وهي تتأمل وجهه الأسمر النحيل.. وتراقب ارتعاشات شفتيه الرقيقتين وهو يحادث أصحابه.
ما زالت في ربيع أيامها.. ووصل هو إلى منتصف الخريف.. الأبواب الموصدة تساقطت الواحد بعد الآخر.. الأسوار المرتفعة اختفت أيضاً.. والبيت فتح على مصراعيه.
الحراس ناموا.. والعوائق المزروعة على الدرب، ذهبت إلى غير رجعة وانتقلت إلى حيز الاحتمالات.. فربما تسللت إليها أشعة الشمس الدافئة... وربما هبت عليها عواصف هوجاء.
ربما عشق بيتها ضوء القمر.. ربما.. وربما..
وقفت التساؤلات متراصة متدافعة أمام نوافذ القلب المشرعة، تنتظر الجواب.
إنه هو.. غاب فجأة كما ظهر.. ملول، يرفض الرتابة الحياتية.. ويدفع الآخرين معه للتجديد.
يرفع فجأة رايات الفرح الخضراء، ثم يعقبها دون مقدمات برايات الانتظار القاتمة.
قالوا: إنه عاصفة.. وهو النسيم العليل.. يذكر بأنفاس الربيع العبقة، ثم يفاجئ بعاصفة ثلجية باردة...
قادر على التبدل والتغير.. يضيء قلوب الآخرين، ثم يشيع بها الظلام.. ساعات قليلة تفصل بين النور المشع والظلمة الحالكة.
وها هو من جديد.. ينتصب أمامها بابتسامته المنتصرة. يمسك بيدها. ويأخذها مهزومة إلى دياره المرصعة بأوراق الورود المتوجة بألوان مرحة.
أخذها بين ذراعيه.. قبلها.. استنشق عبيرها.. فتح مسامات جسده، وأدخلها إلى هناك.
تسطحت، شفت، تداخلت في مساماته، التصقت، وقد شدها إليه ضوع رجولته الواثقة.
لحظات.. مسروقة من الخلود.
تمنت عليه، وتمنت على نفسها.. وتجسدت الأمنيات.. عذبتها أفكارها.. عصفت بها رغباتها.. ألجمها تردده، وقيد مشاعرها الخوف من المجهول.
هو يؤمن باقتناص اللحظة.. وهي تؤمن بضرورة استمرار الحلم.
أرهبتها صفعات اليقظة.. وأغرقتها بمئات الضربات الموجعة.
عالم جديد، وجميل.. توالد، وتنامى بسرعة، جاوزت حدود الزمن.
ليل طويل.. وغفوات ممزقة ومتلاشية.. ونوم بلا رحمة.. هاجمها نور الصباح.. أيقظها بعنف.. اقتلعها من فراشها وهي تئن وتتأوه.
مساحات جسدها تنادي، اسم واحد تردد في خلاياها المتعبة.. اسم لا تمله.. تعيده وتعيده.. وفي كل مرة يكتسب هذا الاسم نغماً جديداً ويعلو كلحن شجي.. فتبتسم وتغضب.. حدثته عن أمنياتها، وحدثها عن الفرص الكثيرة المتاحة لهما.
سألها عن معنى الانجذاب.. وحدثته عن ساحته المغناطيسية. سألها عن معنى الجاذبية.. فحدثته عن أسرار الطبيعة.. وعن الأرواح الشاردة والعالم الأثيري وعن الأمور التي يصعب تفسيرها.
وشرحت بإسهاب كيف ينجذب الإنسان إلى بعض الأشخاص وينفر من بعضهم الآخر..
ابتسم في خبث ظاهر.. وبادلته هي ابتسامة صادقة.
قال: أنت امرأة رومانسية..
وقالت: أنت إنسان واقعي.. بعيد عن الخيال.. وتتماشى بسهولة مع قانون الرياضيات.
أجابها بمرح ظاهر: أنا واقعي.. ولكن لا مناص من قليل من الرومانسية، حتى لا أصل لدرجة الجمود.. وأنا لست قاسيَ القلب كما تحسبين.
قالت: أنت تخاف جموح عاطفتي.. لذا تضع العراقيل أمامي.. أقوم أنا بعملية مد.. فتعيدني إلى الصواب بعملية جزر.
-كلما رأيتك أكثر.. تجلت أمامي أحاسيسك الرهيفة.. فأنت تخفين رقتك وراء ستار من القسوة.
-أخشى على أمواج عواطفي أن تهجر شواطئها.. وتطغى حتى تغمر المساحات كلها.. أخاف عليها، فأقولبها، واعلبها.
وفي ساعات خالدة، أطلق ينابيعها لأرتوي، وأسقي من حولي.
قال لها: إنك امرأة غريبة. أصدقاؤك كثيرون، يأتون إليك محملين بمشاعرهم.. وربما يجذبك الحب إلى عدد منهم.
قالت: لا.. واحد فقط يملأ خيالي، ويسكن قلبي.. والآخرون أصدقاء أحاورهم حواراً إنسانياً غير قابل للانتهاء.
-ما نوع عطائك للحبيب؟
-سؤال عجيب.. من يسكن قلبي.. أتح له امتلاكي.. يراني نبع عطاء.. ويغرف مني ما شاء له الغرف..
-سعيد أنا بهذا الحوار..
-أتمنى.. ألا ينتهي.. فهو يسعدني أكثر مما يسعدك.. قال لها بعد تفكير طويل: النساء يردن الكثير، ولا يكتفين بالقليل.. وهن يرغبن في امتلاك كل شيء.
-الفارق بيني وبينهن.. أنني أكتفي بالقليل القليل.. فأنا اختزن الكلمات الصادقة. وأرسم على صفحات قلبي البسمات المحبة.. وأخط صور الحبيب في عقلي ووجداني.. لذا لا أحس نفسي فقيرة أبداً..
-حديثك.. يفاجئني.. نحن الرجال، نتذوق النساء، ففي كل أنثى نقف على طعم جديد.
قال بثقة كبيرة: -الأنثى الحقيقية، لا تعلن عن أنوثتها إلا أمام رجلها، الذي تختاره بنفسها.
-قالت بسخرية مرة: مسكينة تلك المرأة.. فهي ستحس بالوحشة الطويلة في طريق بحثها عن الحبيب.
-ومسكين ذلك الرجل.. لأنه يضيع الحب الحقيقي في لحظة اغتراب عن قلبه.. حين يمر بنزوة عابرة.. تحمل أسباب موتها. وأنا لم أتمن يوماً أن أكون رجلاً..
-أما أنا.. فسعيد جداً لكوني رجلاً.. سيد بيتي.. وسيد نفسي.. وسيد المجتمع.
-وأنا سعيدة جداً لكوني أنثى.. عذبة.. تغني نشيد الحب الخالد.. نشيد الأمومة الرائعة.. ونشيد البيت الغارق في السعادة.
مسحورة، جلست في زاويتها، ذاهلة.. استندت إلى وسادتها.. سارت كالمنومة.. عقدت لسانها الدهشة.. أخذتها الجنيات إلى عوالم سحرية.
رقصت، غنت.. أطفأت لهيب الشموع.. استسلمت غير آسفة لصدر حبيبها، رددت أغنية العالم.." رجل وامرأة" كأسان من الخمرة المعتقة، شفاه عاشقة وجنة عدن جديدة.
ابتدأت فصلاً جديداً في "مسرحية الحياة".
ارتفع الستار.. وانكشف عنها وعنه.. يعيدان بحيوية قصة بدء الخليقة.. آدم وحواء جديدان، ظهرا في ملابس عصرية.. حملا مشاعر عرفها الإنسان مذ رأى النور.
سمعا تصفيق الحضور.. شاركهما الجمهور نبضات قلبيهما ملتفين.. ظهرا على المسرح.. متعانقين.. وقد تداخلت أطرافهما تداخلاً يصعب التمييز معه بين حدودهما.. وقفتهما معاً حملت معنى الخلود.. معنى التكامل والانسجام.. برزا كتمثال من الدفء والحنان والاستسلام للحلم.
انتقلت عدوى الحب إلى المشاهدين.. انطلقت عقيرتهم بالغناء.. إحياءً لهذا المشهد الإنساني الرائع..
الستار، ظل مرفوعاً.. وظل العاشقان يرددان معاً أغنية الحياة، أغنية الخصب.. وفي كل مرة.. كانت تكتسب وقعاً جديداً.