اللقطة لا قيمة لها بمعزل عن سلسلة اللقطات، التي تبني المشهد، كذلك المشهد لا يعطينا صورة كاملة عن العمل، إلا عبر ترابطه مع بقية المشاهد مع العمل الدرامي.
إن كل جملة في القصة القصيرة تشكل "لقطة"، وكل فقرة أو مقطع يعتبر مشهداً يغطي جانباً جزئياً من القصة ككل.
2- هنالك صلة قرابة بين الجنسين: القصة والنص الدرامي، ولا يمكن نفي العلاقة الحميمية بينهما، ولكن ماهو نوع هذه العلاقة؟
القصة القصيرة ليست نصاً درامياً.. ولا دراما مسرحية أو تلفازية بل هي دراما غير مباشرة، مسرحها الذات المتلقية، بالاستماع أو بالقراءة. والمتلقي هنا له دور كبير في صنع الدراما والمشاركة فيها كبانٍ إيجابي لها في شتى مراحلها.. إنه يؤدي دور المؤلف والمخرج والممثل والسيناريست والمونتير وسوى ذلك من وظائف، لا يمكن ممارستها حيال العمل الدرامي المعروف. بذلك تتخذ الدراما القصصية أشكالاً بعدد قرائها. إن المستمع أو القارئ هنا يتمثل القصة، ويعالجها عبر التخيل، بالتحليل والتركيب، وإعادة إنتاجها بصيغة درامية متخيلة. إنه، أي القارئ، يتخيل الحدث والشخصيات والصراع والمكان والزمان، ويعايش الموقف والنتائج، ويتخذ منها موقفاً نفسياً وذهنياً، بينما الدراما توفر على المتلقي هذا العناد كله. وتقدم له القصة جاهزة، لكأنها تحدث أمام عينيه وحواسه، وإدراكاته مباشرة. بذلك تتخذ الدراما شكلاً واحداً محدداً سلفاً.
3- وإذا كانت القصة ليست نصاً أو عملاً درامياً، فالعكس غير صحيح، ذلك لأن كل نص أو عمل درامي هو قصة، كما تجمع التعريفات: "الدراما قصة قصيرة، أو هي قصة تروى بالصور". و" النص الدرامي هو قصة مكتوبة بطريقة يمكن معها تنفيذها بالتشخيص أو التصوير" أي أن النص الدرامي هو روح الدراما، هو برنامجها ومخططها على الورق، والخطوة التي تسبق مباشرة التنفيذ. وقد تتداخل وتتوازى معه أحياناً..
إن النص الدرامي معني بالتعبير عن أدق التفاصيل، وعن كل مامن شأنه توضيح خطوات العمل المزمع تجسيده، بينما لاتتقيد القصة بتلك الشروط، ولا تخدمها هذه الحرفة، إنها غير ملزمة بتقنيات الكتابة الدرامية، بل لا يجوز لها أن تسقط في هذا المطب الذي ليس من شأنها، ولا يدخل في إطار وظيفتها.
4- تمتاز القصة بكونها مادة أدبية، قابلة للمعالجة الدرامية، لأن القصة قاعدتها أي عمل درامي من الناحية النظرية. وبالمقابل تستطيع القصة أن تفيد من تقنيات النص الدرامي إلى الحد الذي لا يسيء لتقنية القصة، ولا يمسّ خصوصيتها، وتوجد نماذج قصصية قصيرة قليلة استخدمت "السينارينو" جزئياً.. وبنجاح، في تعمير القصة، فازدادات قوة وجودة وجاذبية.
5- إن الدراما هي تعبير بالتشخيص أو بالصورة، أما الأشكال الأدبية المقررة والمسموعة، فهي تعبير باللغة ومفرداتها، وفي عصرنا هذا نواجه ثورة إعلاماتية، وثورة اتصالات، تجتاح حياتنا، وتغزو بيوتنا وذواتنا، وتعيد ترتيب وتشكيل البنى الأخلاقية والنفسية والفكرية والفنية، بقوة إغراءاتها.. وتلبيتها للحاجات الفردية والاجتماعية. المتزايدة. ولكل ثورة إيجابياتها وسلبياتها، فهي سلاح ذو حدين حدّ مفيد، وآخر ضار، ومن هنا تبرز أهمية التمييز والاختيار لنتمكن من السيطرة على منجزات الثورة ونوجه حركتها، بدلاً من أن يحدث العكس. وأكثر ماتتجسد به الثورة إياها في التطور المتعاظم لدور الاتصال والإعلام المرئي، الذي يشكل التّلفاز أداته الرئيسية الأولى والحاسوب أداته الثانية.. والنجاح في الربط بين الأداتين عبر شبكة الانترنيت العالمية ، التي تستخدم الأقمار الصناعية للربط بين مناطق العالم في شتى مجالات الاتصال والتواصل البشري.
6- في هذا العصر ذي المزاج المتقلب، والتبدل والتطور المتسارع، والإنجازات التقنية- العلمية الخارقة. يواجه الأدب بأشكاله المألوفة.. المقروءة خصوصاً تحدياً كبيراً، يحس به كل أديب ومشتغل في الأدب، هذا التحدي يتجسد بأشكال التعبير المرئي عبر التلفاز..والحاسوب. هكذا تدخل تلك الأشكال الساحة.. كمنافس فتي وقوي لأشكال التعبير الأدبية التي سادت عقوداً وقروناً من الزمن دون منازع. ودون أن تواجه ضغطاً كالذي تواجهه، هاهي تعاني من التراجع، وتقلص دائرة نفوذها، وحضورها الاجتماعي، مقابل تزايد نفوذ وحضور التعبير المرئي، واتساع دائرته ليعم كل فرد وبيت فما الذي يحدث؟ وماهو مستقبل ذلك الصراع والتحدي؟..
7- بالنسبة للمسرحية، من الواضح أنها تراجعت حيال الدراما المرئية. ولكنها تحاول التكيف مع الوضع الجديد، من خلال إمكانية تصويرها وعرضها تلفازياً، ومن ثم إيصالها إلى الجمهور العريض. ودخولها الشاشة الصغيرة، يتيح لها غزو كل بيت.
8- أما الرواية، فهي أكثر أشكال التعبير تأثراً بالغزو التلفازي والوضع الجديد.
قبل عصر التلفاز، كانت الرواية هي التلفاز، الذي يعرض ويصف ويحكي ويمتع ويحرض العقل والخيال، وينمي القدرة اللغوية عند الجمهور.
ولهذا كان لها شعبيتها الواسعة، وحضورها القوي بين الناس.
أما الآن فقد ساء حظها، واتجه الناس إلى الرواية المتلفزة بعد معالجتها درامياً. أو إلى الدراما التي تسود الآن عبر المسلسلات والتمثيليات والأفلام السينمائية المتلفزة (أي المعروضة على الشاشة الصغيرة). ومهما تكن قيمة الرواية، فإن هذا لايساعدها على الانتشار، وفرض النفوذ، والحضور بين الناس كما كانت تفعل سابقاً، كما أنها تجد صعوبة في الإفادة من وسائل الإعلام المقروءة، حيث تضيق تلك الوسائل عن عرض الرواية، إلا في حالات قليلة تعرض فيها الرواية على حلقات. ومع هذا نجد أن هذا التقليد يتقلص يوماً بعد آخر.. حيث تميل الصحف والمجلات إلى ترشيد استخدام وشَغل مساحاتها لتغطي سائر أشكال التعبير المقروء، ومنه أشكال التعبير الثقافي-الادبي-الإخباري.
هنا يجوز لنا التساؤل عن مستقبل الرواية، وقدرتها على مواجهة التحدي. والاحتفاظ بالقارئ المثابر، القادر على تكريس وقت طويل لقراءة رواية، وقت قد يمتد لأيام.. فهل هذا ممكن؟
9- إن التلفاز والحاسوب يسطوان أكثر فأكثر على شتى أشكال التعبير، ويؤديان وظائفها بشكل متقن. إنهما يؤديان دوراً يتسع ليشمل المعرفة العلمية والأدبية والفنية. يغزوان كل مجالات النشاط الاجتماعي، كالتعليم والتربية والترفيه والإخبار والقصّ والدعاية.. وغيرها كثير. مما يجعلهما أهم أداتين في عصرنا.. لأنهما يسهمان بقوة في إعادة بناء وتربية الإنسان وتشكيل الأذواق، والتأثير في البنى السلوكية والفكرية... وحيال هذه القوة الجبارة، لانملك إلا أن نحاول السيطرة عليها ونتحكم بها ونوجهها بما يحقق لنا الإفادة منها، والتكيف مع مناهجها وتحاشي كل ماهو سلبي منها، ولابدمن الاعتراف بسلطتها المتعاظمة.
10- نعود إلى القصة القصيرة. كواحد من الأجناس الأدبية المقروءة أو المسموعة. لنقف على وضعها ومستقبلها في حلبة التحدي التعبيري الجديد.
إن القصة القصيرة فن أدبي مرن جداً، حساس جداً، وشديد التأثر بسائر أشكال التعبير، التي يتعايش معها، وسنرى أن حظها من البقاء، ومقاومة عوامل الشيخوخة والنفي كبير جداً، وأنها تملك قابليات للتجدد، والتكيّف مع الظروف والشروط الجديدة.
11- تفيد القصة القصيرة من سائر أشكال التعبير والمعرفة. فهي تؤسس بعض فنيتها على منجزات العلوم، لاسيما الإنسانية منها، مثل علم الاجتماع وعلم النفس، والمنطق. وقد مكنها ذلك من توسيع آفاق تطورها، وقدرتها على اصطياد الأعماق، بما فيها من كنوز والإحاطة بالشخصية والحدث والواقع إحاطة باطنية وظاهرية معاً، بحيث تجعل من اللامرئي المتوارى، مرئياً واضحاً، واستطاعت كذلك أن تستخدم آليات رصد وعرض وبناء جديدة، مما جعلها تتخطى الترتيب المدرسي، والنظام التقليدي لبنيتها.
12- والقصة القصيرة تفيد من المسرحية، الرواية، الرسائل، السيرة، الحكاية، الخبر، "السيناريو" والصحافة بتنويعاتها التعبيرية.. ومن لغة الرسم والموسيقى، والشعر، وكل أشكال التعبير السائدة.
13- إن طول القصة القصيرة، وزمن قراءتها، لا يأخذ من المستمع والقارئ إلا وقتاً قصيراً (من بضع دقائق.. حتى نصف ساعة تقريباً)، أي أقل من الزمن الذي تستغرقه مشاهدة حلقة من مسلسل تلفزيوني.
هذه الميزة تتفوق بها القصة القصيرة على الرواية وسواها. إن القصة يمكن أن تلقى على الأسماع، بينما لا يمكن للرواية أن تلقى في قاعة أو مركز ثقافي، بسبب طول المدة.
والقصة القصيرة لها حظ أوفر في النشر والانتشار على صفحات الصحف اليومية والمجلات، لأنها لا تحتكر مساحة كبيرة، وهذا غير متاح للرواية، إلا استثناءً.. وعلى شكل حلقات. ونشر القصص القصيرة تقليد صحفي، قلما تهمله صحيفة أو مجلة سواء كانت سياسية إخبارية أو اجتماعية أو فنية.. أو حتى متخصصة، لأنها لا تأخذ سوى حيز صغير أولاً، ولأنها تلطف المجلة أوالصحيفة ولأن لها جمهورها ومتذوقيها. إن قصة تنشر في صحيفة يعني أنها تصل إلى جمهور عريض، لأن نسخ بعض الصحف قد تتجاوز عشرات بل ومئات الألوف. ولقد باتت مادة صحفية دائمة الحضور... كذلك يمكن القصةَ القصيرة أن تذاع، وهو مايحدث في إذاعات عربية ودولية...
14- إن المزايا المذكورة تجعل من القصة فناً لطيف المعشر، خفيف الظل. فالقارئ يستطيع أن يختار مكان وزمان قراءتها. بينما لا يملك هذا الخيار حيال مسلسل أو مسرحية لها مواعيدها وأمكنتها المحددة.
القصة المنشورة في جريدة، مثلاً، يمكن المرءَ أن يقرأها ساعة يشاء وأنّى يشاء: في البيت: الحديقة العامة، المقهى، المكتب أو مكان العمل. في حافلة.. في الطائرات.. في أي مكان آخر، وفي أي وقت صباحاً.. ظهراً.. مساءً.. في منتصف الليل...الخ..
تلك الميزة تجعل العلاقة بين القصة القصيرة والقارئ... ودية.. ديمقراطية، لأنها لا تثقل عليه، ولا تفرض عليه مكاناً ومواعيدَ وشروطاً للتواصل، ولاترهقه ولا تزعجه. إنّها ليست ضيفاً ثقيلاً ومملاً.
15- تتوجه القصة القصيرة بشكلها ومضمونها إلى الآخرين، لتلبي حاجة عندهم، ولتحقق غرضها لديهم، ومن أجل تحقيق هذه المعادلة، ونجاح وظيفتها، تستخدم القصة كل ما يتوافر لها من مقومات فنية، وأساليب تقنية فكرية وأدبية، للاستيلاء على القارئ والظفر به.
16- إنك تدير ظهرك لحديث ممّل. ولكنك تنجذب لحكاية طريفة وشائقة.
وقد تسمع نكتة مرتين..من شخصين مختلفين، وبأسلوبين مختلفين أيضاً. فتجد أن تجاوبك ورد فعلك يختلفان بين الحالة الأولى والثانية، إذ تشعر بفشل العرض وبروده عند أحدهما، بينما تشعر بنجاح وحيوية العرض عند الآخر. مع أن الفكرة هي نفسها...
17- وهكذا القصة، تحقق النجاح ، وتفرض سلطتها على الآخرين بقدر ماتثير فيهم الفضول والإحساس بالجمال والطرافة في الشخصية والموقف، والمفاجآت المثيرة، والسياق الرشيق، الذي لايتيح لعقل القارئ ووجدانه أن يتراخيا.. ويتأففا.
كثيراً مايقول لك شخص: "هات من الآخِر" وهذا يعني أنه غير مستعد لتضييع وقته بكلام فارغ.. لا يعينه. كل إنسان يود مواجهة المواضيع والأحداث باختصار، وبإيجاز لا يخلّ بالمعنى. وتلك مسؤولية القصة القصيرة، أن تضعك دائماً أمام الجديد والطريف والجميل والمختصر... أمام منعطف تلو آخر، ومفاجأة تلو أخرى... وتأخذ بيدك، وبكل نعومة ولطف، في رحلتها الممتعة لاكتشاف الأسرار والمناطق المجهولة، والنتائج المحتملة. على القصة القصيرة أن تسرق القارئ، وتغزو عقله وقلبه، وتثير مالديه من رغبات وحب، فينسى نفسه.. ويتبعها، ويستغرق في سياقها.. ليشبع ذائقته ويحقق مزاجه، ويلبي فضوله، وحاجته لاستطلاع كل طريف وطارئ من حوله.
18- وأهم فكرة يجب أن يتخذها القاص سنّة له، هي أن المعيار الفني للقصة وجد لخدمة القصة وتمكينها من الوصول بنجاح أكبر إلى الجمهور. إنك إذ تقص تستخدم كل مامن شأنه اجتذاب اهتمام، الآخر الذي تتوجه إليه بالقصة وشدّ انتباهه، فإذا فشلت.. فهذا يعني فشل أسلوبك، وفشل فنية قصتك.. والنتيجة هي خسارة الآخر ورفضه متابعتك.
إن فنية القصة هي حلقة الوصل بين القاص والمتلقي، وعليها يتوقف نجاح أو فشل العلاقة إياها... وحتى ينجح القاص في تحقيق التوازن داخل تلك العلاقة -المعادلة. لابد أن يتمتع بالموهبة، ويتسلح بالثقافة والخبرة والتجربة، ويؤمن بأن المتلقي مؤشر حقيقي ملموس لنجاح أي قصة.
19- يلاحظ تقصير واضح في مجال البحث الأدبي المتعلق بالقصة القصيرة على الرغم من قيمتها وأهميتها ودورها، ومكانتها الكبيرة بين الأجناس الأدبية الأخرى. ونحن نفتقر إلى دراسات وندوات وبحوث جادة وكافية حول القصة القصيرة. تقع مسؤولية ذلك على الجميع: أدباءَ، نقاداً، أساتذة أدب عربي، وطلاب دراسات عليا. ولابد من الوقوف على أسباب غياب الاهتمام بالقصة القصيرة نقدياً وسواء داخل الجامعات ومؤسسات البحث الأدبي أوعبر المؤسسات الثقافية والإعلامية المقروءة والمسموعة.
فلا ندوات.. ولا محاضرات.. ولادراسات أكاديمية أو غير أكاديمية تتناول فن القصة القصيرة، في أي جانب من جوانبه.. وإني لأتساءل: هل مردّ ذلك إلى كون القصة القصيرة هي ذلك الفن المتمرد؟ المتمرد على الناقد وعلى نفسه معاً؟!؟
20- يمكنني القول: إن القصة القصيرة هي بنت العصر، وأؤكد أنها ستظل وبالقدر نفسه بنت المستقبل، وعادة راسخة من عاداته الثقافية الأدبية.. وإن التطور العاصف.. الذي لن يتوقف، سيظل يوفر المناخ الأفضل للقصة القصيرة، وسيمنحها المزيد من السلطة والنفوذ، ويوفر لها فرص تجديد شبابها، وزيادة حيويتها وتأثيرها في الحياة الفردية والاجتماعية. وهذا كله يدعو إلى التفاؤل، والاطمئنان على مستقبل القصة وريادتها الأدبية