بتـــــاريخ : 11/17/2008 7:31:07 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 987 0


    فتاة عادية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : شوقي بغدادي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كانت الآنسة "فاطمة عوض" فتاةً عاديّةِ. "فاطمة" مثل ملايين الفاطمات ذلك لأنّه لم يحدث قط أنْ لفَتَتْ الأنظار إليها لأيّ سبب من الأسباب إلاّ في ذلك اليوم المشهود الذي سنأتي على ذكره فيما بعد.‏

    لم تكن فاطمة قبيحةَ حتى تلفت إليها نظر موظف الاستعلامات مثلاً حين تدخل مبنى الوزارة صباحاً، فيغمغم لنفسه كما يصنع حيال منظر الموظفات القبيحات:"لاحول ولا قوّة إلا بالله!..." كما أنّها لم تكن جميلة إلى الدرجة التي تجعل إنساناً مثله لا عمل له سوى مراقبة الناس ينصب ظهره ويشدّ حيله كما كان يفعل حين تمر به الجميلات من الموظفات وقد اشتعلت عيناه، وانفرجت أساريره كي يجيب على تحيّة الصباح بحماسة مابعدها حماسة: "ياصباح الفلّ والياسمين!"...‏

    كانت فاطمة تدخل وتخرج دون أن يرفع رأسه أحياناً، فهو كما يدّعي يعرف نوع المرأة العابرة قبل وصولها دون أن يُدقق فيها النظر. وإذا مارفع رأسه أحياناً لدى مرورها لم يكن يبدو عليه أنه يرى أحداً معيّناً. وحتى لو سُئل عنها هل دخلت أو خرجت فقد كان ممكناً ألا يتذكرها على الإطلاق.‏

    كانت فاطمة باختصار خير نموذج للفتاة العادية التي يمكن أن تصادف المئات والآلاف من أمثالها في جولة واحدة في المدينة. ومع ذلك فلابدّ من الاعتراف إنصافاً لها وللحق أن ابتسامتها كانت جميلة حقاً. ولعل السبب يعود إلى ترتيب أسنانها المدهش، وبياضها الناصع، وربما كانت هي الميزة الوحيدة التي جعلت شاباً ساخراً بطبيعته من كل شيء -مثل زميلها في الغرفة "غسان صالحاني"- لا يُدقق فيها النظر إلا حين تبتسم، وبخاصّة في وجود زميلتين جميلتين شقراوين مثل "منى فاضل" و"هالة محجوب" اللتين كانتا لا تأتيان إلى العمل إلاّ بأناقتهما الكاملة، فتغطيّان على وجود فاطمة عوض تغطية تامة. ومثله كان "مختار طبّال" شريكهم في الغرفة، والمشغول دائماً بزميلته "هالة" والخوض في سير الناس وفضائحهم معها.‏

    كان ثمّة عدّة حافلات صغيرة لنقل الموظفين، وكانت فاطمة تأخذ الحافلة الصغيرة المخصّصة لخط حيّ "الميدان" صباحاً من الشارع الممتدّ وراء القصر العدلي حيث كانت تقف في وقت مبكرّ ثابت لم يحدث قط أن تخلّفت عنه. ولم يكن أحد من رفاق الغرفة يركب معها إذ كانت تأتي سيارة "مرسيدس" خاصة بأسرة "منى فاضل" تقلّهم إلى بيوتهم الواقعة باتجاه آخر يمرّ بالصالحية و"أبو رمّانة" و"المالكي" وينتهي "بالمهاجرين".‏

    بدأ الحديث الذي يعنينا هنا بشكل مزاح أوّل الأمر، إذ شرعت منى فاضل تنتقد بين الجدّ والهزل أهل "الشام" لأنهم محافظون ميالون للحرص - وكانت تقول البخل- على الرغم من لطفهم الظاهري، والدليل -كما قالت- أنها منذ خمس سنوات- وهي الفترة التي مرّت عليها بعد انتقال أسرتها إلى دمشق- لم تتلقّ دعوةً واحدةً لزيارة عائلة دمشقية، مع أنها تعرف عدداً لابأس به من الفتيات الدمشقيات.‏

    كان جميع من في الغرفة غرباء عن دمشق، ماعدا فاطمة عوض، وغسان صالحاني، أمّا غسان - وهو بالمناسبة شاب نحيف البنية وأكثر الموجودين ثقافة كما يظهر- فقد تلقّى الملاحظة باهتمام وبدأ شبه موافق على اتهامات زميلته، غير أنّه فلسف المسألة كعادته معقّباً:‏

    - هذا صحيح.. لكنه الطابع السائد عادة في كل المدن الكبرى وليس في دمشق وحدها..‏

    أما الحسناء هالة محجوب التي كانت مشغولة بطلاء أظافرها بلون غريب بين الأخضر والأحمر فقد نفخت على الطلاء ثم قالت:‏

    - هذا صحيح مائة في المائة، فأنا أسكن هذه المدينة منذ عشرين سنة وليس لي فيها صديقة واحدة شامية وكل صديقاتي في أصلهن من حمص أو حلب أو اللاذقية.‏

    ومثلها صنع مختار طبال لكن دون أن يطلي أظافره، إلا أنه زاد على قولها مؤكّداً:‏

    - الشامي لا يدعوك إلى بيته إلاّ لمصلحة..‏

    بدا واضحاً أن ملاحظته كانت أقسى مما كان متوقّعاً وأن الحديث انقلب بسببها ممّا يشبه المزاح إلى الجدّ الخالص. وفجأة انتبه الجميع إلى وجود فاطمة.. كانت تحدّق فيهم بوجهِ شاحب وقد توقّفت عن العمل تماماً، وحين رأتهم ينظرون إليها كمن يترقّب رأياً مُهمّاً قالت لهم وهي تلفظ كلماتها واحدة واحدة:‏

    - أنتم مدعوون عندي في البيت على الغداء اليوم، وأرجو أن توافقوا جميعاً...‏

    وماكادت تفرغ من كلامها حتى تحوّل لون وجهها تدريجيّاً من صفيرة الليمون إلى احمرار الورد الجوري، وبدا المنظر مُذهلاً كأن عمليّة سِحرّية لا تُصدّق قد وقعت أمامهم، وأن عليهم احترامها والخشوع أمامها.‏

    كان "مختار" أوّل من ردّ على الدعوة إذ قال:‏

    - أنا شخصّياً موافق..‏

    ثم استدار نحو زملائه كأنه ينتظر منهم الموافقة على رأيه، وهكذا اندفع الجميع في حديث واحد أجمعوا فيه أخيراً على الموافقة لكن شريطة أن تؤجّل الدعوة إلى الغدّ، فهذا عنده ارتباط والآخر لا يريد إحراج أحد حتى لانت فاطمة فوافقت على التأجيل إلى الغد وبين المزاح والجدّ قال لها غسان:‏

    - لكن ألا ترّين يا آنسة فاطمة أن عددنا كبير يكفي أن تدعي منى وهالة.. أما نحن الرجال فيكفي أننا شهود...‏

    ومرّةً أخرى عاد وجه فاطمة إلى الشحوب ثمّ إلى الحمرة القانية وهي تقول:‏

    - هذا غير ممكن، فأنا لا أصرّ على دعوة الزملاء في هذه الغرفة فقط بل على دعوة حمولة حافلة كاملة ومن الجنسين..‏

    فهتف مختار:‏

    - لكن هذا يعني إطعام عشرين شخصاً على الأقلّ...‏

    وقالت "منى":‏

    -لا.. هذا كثير.. المسألة ليست مسألة تحدٍّ ومزايدات.. يكفي نحن الأربعة..‏

    وكانت هالة قد فرغت تماماً من استكمال زينتها، فأضافت:‏

    - ولِمَ لا؟! دعونا نذهب في مظاهرة..‏

    ومرّة أخرى احتدم النقاش غير أن أحداً لم يستطع في هذه المرّة ثنيَ "فاطمة عوض" عن موقفها الأخير.. لابدّ أن يأتي أكبر عدد ممكن وأهلاً وسهلاً بكم جميعاً، وثقوا أن المسألة غاية في البساطة وليس فيها إحراج لأحد.‏

    وهكذا تمّ الاتفاق على اختيار عشرة زملاء آخرين معظمهم من الغرباء عن المدينة، وأن يمضي الجميع معاً في حافلة واحدة إلى دعوة فاطمة عوض للغداء في منزلها الذي لا يعرفه أحد.‏

    وفي الغد، حين اعتذر بعض المدعوين، ثم انفجرت عجلة الحافلة التي كانت تُقلّهم في شارعٍ قريب من بيت أحد المسؤولين الكبار فصرخت النساء فزعاً واعترض الجمع رجلٌ مسلّح غاضب لم يسمح لهم بالوقوف قريباً من محرسه الظليل، حين وقع كلّ هذا على التوالي بدا كما لو أنّ مؤامرةً مدبّرةً قد أحكمت خيوطها حول "فاطمة عوض" لإحباط دعوتها. لكن المدهش في الأمر أن فاطمة كانت هي الوحيدة التي لم تعبأ بدويّ انفجار العجلة، إذ نهضت بكلّ هدوء وهي تحاول تخفيف وطأة الذعر بين زميلاتها وزملائها قائلة:‏

    - لا تخافوا... هذا صوت انفجار عجلة...‏

    كما لم يبدُ عليها أيّ اضطراب لدى تدخّل الحارس المسلّح بل واجهته بكلّ كياسة ولطف وانتحت به جانباً تشرح له الموقف، فهدأت ثائرته على الفور، وأمام دهشة الجميع رؤوه ينبري لمساعدة السائق بعد أن كان يهدّد ويتوعّد قبل ثوان. وهكذا تمّ استبدال العجلة بسرعة قياسيّة تابعت بعدها الحافلة سيرها وحين وصلت إلى ماوراء القصر العدلي نزل المدعوون وقد نقص عددهم فلم يبقَ سوى أحد عشر بينهم ستة رجال وخمس نساء لم تكن بينهن "هالة محجوب" التي انسحبت بعد انفجار العجلة وتدخّل الحارس المسلّح مباشرةً.‏

    بدأت المسيرة على الأقدام من وسط الشارع الممتدّ وراء القصر العدلي. كان الطقس معتدلاً إذ كان الربيع في أواخره والحرّ لم يبلغ أوّجه بعد. قالت فاطمة : "اتبعوني".. ثم سارت كأيّ دليل متمرّس أمام الجميع. وحين دخلت بهم زقاقاً جانبياً تغيّر الجوّ دفعةً واحدة من صخب الشارع الواسع إلى سكنية الأحياء القديمة وبعد خطوات توقفت فاطمة مشيرة بكامل ذراعها وهي تقول:‏

    - انظروا إلى هذه التحفة..‏

    فالتفت الجميع إلى حيث أشارت، فوجدوا لافتةً عريضةً فوق مدخلٍ جانبيّ لبيت عربيّ مفتوح كُتب عليها بالخطّ الفارسي: "مطبعة ابن زيدون". وإلى الأعلى كان ثمّة غرفة كبيرة تحتلّ الزاوية الشرقية من الطابق العلوي صُنعت كلّ جدرانها من الخشب المعشّق المحفور، وكان واضحاً بالرغم من تآكل بعض جوانبها أنها غرفة بُنيت بعناية خاصّة إذ كان في كلّ سنتيمتر مرّبع من تلك الجدران بقايا حفر على خشب حائل اللون حقّاً ولكنّه آية في الإتقان. وعندما هبطت عيونهم عنها تبيّنوا أن المدخل الرئيسي للمنزل كان يقع تحت هذه الغرفة تماماً إذ كان يتألّف من باب شامخ عريض من الخشب الثمين قد جلَلّه الغبار وزّينت مصراعيه مطرقتان ضخمتان توأمان من النحاس، ودعّمت جانبيه حجارة ضخمة منحوتة شبيهة بحجارة الأبنية الرومانيّة.‏

    وقف الجميع معلٌّقةً أبصارهم بالمشهد الجليل يُصغون إلى فاطمة التي كانت تقول:‏

    - هذا هو منزل فخري البارودي... لابدّ أنكم سمعتم باسم هذا الزعيم الوطني المشهور..‏

    فهزّ بعضهم رِأسه، وبدا بعضهم الآخر وكأن الاسم لم يكن يعني شيئاً بالنسبة لهم، فأضافت على الفور:‏

    - ماذا؟! ألم تسمعوا ياحضرات بفخري البارودي؟! ثمّ تابعت شرحها دون أن تنتظر منهم جواباً:‏

    - لقد باع الورثة البيت، وتحوّل كما ترون إلى مطبعة...‏

    أمّا خلف المنزل من الجهة الغربية والجنوبيّة فتقع حديقة واسعة يُقال إنها كانت مقرّاً لبيت القضاء، وأن مياه أحد فروع بردى كانت تمرّ فيها...‏

    تابعت فاطمة سيرها يتبعها الآخرون وقد خيّم عليهم الصمت وهم منسجمون مع حديثها:‏

    - هذا الزقاق يُسمّى "الشابكلية" وهو ينتهي عند هذه القنطرة الواطئة التي ترونها آخر الزقاق...‏

    كانوا قد وصلوا إليها، واضطر الجميع إلى الانحناء قليلاً كي يمرّوا تحت القنطرة، فأوقفتهم فاطمة هناك مشيرةً إلى جوانب المكان:‏

    - انظروا إلى نوع الحجر المنحوت الذي صُنعت منه القنطرة والأرضية. يقال إن هذه القنطرة واحدة من سلسلة من القناطر المشابهة التي تهدّمت مع الزمن، أو تداخلت مع البيوت وكان أحد فروع بردى يمرّ من فوقها، أما الآن فلا أثر للماء إطلاقاً.. تعالوا نخرج من تحتها..‏

    وتبعوها وهي تصعد درجاً حجرياً قديماً، فإذا بهم ينتقلون من عتمة الظلّ إلى بهرة النور في زقاق طويل كان يبدو واضحاً على جانبيه جهود الترميم التي كانت تُبذل لصيانة تلك البيوت القديمة، وإضفاء نوعٍ من الرواء والتجانس على منظرها الخارجي. إذْ كان معظمها مطليّاً باللون الأبيض، أما النوافذ فباللون البني الغامق.‏

    كان غسان صالحاني منذ بداية "المشوار" صامتاً مأخوذاً بهذا الجوّ الذي لم يكن يجهله بالطبع بصفته من أبناء المدينة، إلاّ أنّ سنين طويلة قد مرّت دون أن يزور هذه الأحياء القديمة فقد كان يقطن في "المهاجرين"، ولم يكن من هواة المشي على الأقدام. كان مأخوذاً بالمكان وبالفتاة نفسها التي تشاركه غرفة عمل واحدة منذ أكثر من عام. كانت وجنتاها تتوهّجان بحمرة خفيفة لا أثر فيها للمكياج وإنما كانت حمرةً صاعدةً من الأعماق مباشرة إلى الخدّين.‏

    كانت فاطمة تزداد جمالاً كلما أوغلت معهم في الأزقة التي تعرفها جيّداً وتتحدّث عنها باعتزاز حديث العارفين. كانت تسبح في مائها. وشيئاً فشيئاً وجد غسان نفسه ينسى تماماً أن زميلته منى فاضل كانت إلى جواره، وأنها كانت تُلقي عليه أحياناً بعض الاستفسارات، إذّ كان لا يجيب أو يكتفي بوضع سبّابته على فمه مشيراً إلى فاطمة داعياً إياها أن تشاركه متعة الإصغاء إلى تلك الفتاة العجيبة، المتحوّلة في نظره من شكلٍ إلى آخر حسب موضوع الحديث أو إطار المكان المحيط بشخصها وهي تقودهم بحماسة ورشاقة إلى أعماق دمشق.‏

    وماكادوا يوغلون في طريق "القنوات" حتى وجدوا فاطمة تقف في مطلع زقاق متفرّع إلى يمين الطريق تدعوهم إلى خوضه وراءها وهم يتجمهرون للاقتراب منها وسماع صوتها:‏

    - هذا الزقاق يدعى زقاق "التعديل"، وقد سُمّي كذلك باسم المسجد الذي ترونه أمامكم والمسمّى "مسجد التعديل".‏

    فقال لها غسّان وقد لفت انتباهه منظر آخر:‏

    - هل تعرفين يافاطمة لمن هذا البيت الكبير الذي تحتلّ واجهته قسماً كبيراً من مدخل الزقاق على الجانبين؟‏

    - نعم.. هذا بيت "يغمور" وهي أسرة عريقة، رحل معظم رجالها إلى الخارج أو إلى الآخرة، وليس في المنزل الكبير الآن سوى بعض النسوة الطاعنات في السن ينتظرن عودة الغائبين. هل تريدون زيارتهن؟! هذا ممكن جداً فهن سيدات لطيفات للغاية.‏

    ولكن أحداً لم يوافق على ذلك، وإنما اكتفوا بهذا الشرح، ثم عادوا إلى مدخل زقاق التعديل وغاصوا فيه وراء فاطمة التي كانت تقودهم دون أن تبتعد عنهم.‏

    كان الزقاق ضيّقاً، فاضطروا إلى المشي مثنى أو فرادى بعضهم وراء بعض مثل تلاميذ صغار خلف معلّمتهم، وبخاصة حين كانت تتقارب جدران طرفي الزقاق، فتتعانق النوافذ الخشبية، وتتلامس جدران الطين، ويخرج طفل من هنا، أو امرأة محجّبة من هناك، فتنظر إليهم بفضول أوّل الأمر، ثم سرعان ماتتابع طريقها غير عابئة.‏

    كان ثمة نوع من السكينة، والرطوبة، والظلال الموحية تخيّم على الأبواب والجدران والشبابيك والأرض، بل حتى على البشر الذين يمرّون بهم أحياناً. وشيئاً فشيئاً كانوا يزدادون ميلاً إلى الصمت والتأمّل وهم يتوغلون في الزقاق الذي كانت تتفرّع منه كما في رسوم المتاهات أزقةٌ أخرى ملتوية متشابكة غامضة، ولولا بعض التعليقات الضاحكة التي كان يُطلقها "مختار طبال" أو غيره من حين لآخر إذن لخُيل لمن يراهم أنهم مجموعة من السُيّاح الأجانب المبهورين بنوع الحياة، والتاريخ العريق اللذين كانت توحي بهما تلك الأحياء التي هجروها منذ أمد بعيد، أو أنّهم لم يعرفوها إطلاقاً.‏

    كان صوت فاطمة وحده هو الذي يذكّرهم برنين الواقع الحيّ الذي يواجههم، فيصغون إليها تشرح سبب تآكل في هذا الحائط أو وجودَ دعائم إضافية لقنطرة خشبية موشكةً على الانهيار، أو بروزٍ أكثر مما يجب في تلك النافذة، ولماذا كان ذلك الباب مفتوحاً على مصراعيه، وفيم هذه الضجّة المكتومة من هنا، وتلك الأصوات للأطفال طالعة من هناك حيث تحوّل أحد البيوت إلى مدرسة.‏

    وعند مدخلٍ خشبي مسقوف واطئ طلبت إليهم أن يتوقفوا. بدأ كما لو أن المكان فرعٌ لزقاقِ جانبيّ، ولكن سرعان ماتبيّن أنه مدخل مسدود، وأن عليهم كما قالت فاطمة أن يخفضوا رؤوسهم قليلاً خوف الاصطدام بإحدى العوارض الخشبيّة. وعندئذٍ لم يجد "مختار طبال" بُدّاً من أن يطرح سؤاله مستغرباً:‏

    - لقد كان ممكناً الدخول بالحافلة في زقاق القنوات إلى قرب مدخل زقاق "التعديل" وكنا اختصرنا كثيراً من المشي، فلماذا لم تطلبي من السائق ذلك؟!‏

    فأجابته فاطمة ضاحكة:‏

    - هذا صحيح. ولكن لو فعلت ذلك، إذن لما مررتم ببيت فخري الباردوي، ولما اضطررتم إلى إحناء رؤوسكم مرّتين، مرّة تحت القنطرة، ومرّة هنا...‏

    فضحك الجميع لما ظنّوه مزاحاً، إلا غسان صالحاني الذي لم يشاركهم الضحك، ذلك لأنه فهم كلامها على نحو آخر.. ياللفتاة الماكرة الرائعة!.. إنها تدّربنا بهذه الطريقة على احترام التاريخ.‏

    وتطلّع بطرف عينيه إلى فاطمة التي التفتت إليه فتلاقت عيونهما في نظرة خاطفة ولكنها كانت كافية للتعبير عن تفاهم خاص لم يلاحظه أحد غيرهما. وانفتح باب إلى اليمين، وقالت فاطمة:‏

    - تفضلوا...‏

    وجد المدعوون أنفسهم حين اجتازوا الباب محشورين في ممرّ ضيّق رطب، وسمعوا مُضيفتهم تقول:‏

    - هذا هو الدهليز كما يسمّونه في البيوت القديمة، وهذه الغرفة الواقعة وراء الباب تُسمّى "البرّاني". والآن اتبعوني إلى أرض الديار...‏

    وانفتحت أمامهم "أرض الديار" كما في القصص السحرية ساحةً سماويةً فسيحةَ الأرجاء تتوسّطها بركة ماء وتحيط بها أشجار الليمون والنارنج والأكيدنيا والدوالي المعرِّشة الممتدّة والمتدلية هنا وهناك، كما انتشرت أصص الزهر أنواعاً وألواناً، والنباتات المنزلية الخضراء، كان المكان نظيفاً مغسولاً يقطر منه الماء ويُنعش برطوبته القلوب والأجساد التي سخنت بعد المشوار الطويل. فشهق الجميع وكأنّهم يرون المنظر لأوّل مرّة في حياتهم. وحين سألت إحداهن عن اسم أحد النباتات، أسرعت فاطمة تطوف بالجمع حول أرض الديار وهي تُسمّي لهم الأزهار والنباتات وتشرح مزاياها وأساليب العناية بها كأي خبير متمرّس. ثم قطعت حديثها مع ظهور أهلها فبدأت على الفور مهمّة التعريف بهم:‏

    - هذا هو أبي..‏

    وأشارت إلى رجل طويل القامة في جلباب منزلي ضافٍ، يوحي وجهه الأسمر الدقيق الملامح بسكينة داخلية عميقة...‏

    - وتلك هي أميّ..‏

    وأشارت إلى امرأة ممتلئة، بيضاء البشرة، ذات وجه بشوش صبوح، يحيط به غطاء أبيض.‏

    - وهذا هو فوّاز طالب بكالوريا.. وهذه سوسن وهي في الكفاءة، أما هذه الحلوة "القموّرة" فهي فدوى الأولى دائماً في صفّها السادس الابتدائي، والوحيدة التي تشبه ماما.. أما الآخرون...‏

    والتفتت دونما كلام مبتسمة نحو أبيها وكأنها تنبّه باعتزاز ضمنيّ أنّ الآخرين كانوا كلهم يُشبهون أباهم. ثم أضافت:‏

    - هذه ليست الأسرة كلّها، فهناك أكبر إخوتي وهو متزوّج وساكن وحده، وأخت متزوجة، أما ترتيبي بينهما فأنا كبرى البنات، والثانية في الترتيب العام...‏

    واستريحوا الآن فقد أتخمتكم اليوم بالدروس والمعلومات وأثقلت عليكم وبقي أن أتخمكم بالطعام الطيب.. ماذا طبخت لنا ياماما؟! استريحوا هنا في الليوان...‏

    وفي دقائق توزّع الجميع يستريحون من عناء المشوار، وكان غسان قد اختار الزاوية الداخلية القصيّة في الليوان حيث استلقى ورفع رأسه وهو يتأمّل النوافذ والخشب المحفور وقد امتلأت نفسه بمشاعر جديدة عليه تماماً.‏

    ماهذا البيت الرائع؟! ومافاطمة هذه الفتاة العجيبة التي تعرف كلّ شيء!.. ولماذا تبدو الآن أجمل الموجودات!...‏

    كانت فاطمة قد أزاحت عن رأسها الغطاء مع دخولها ثم غابت قليلاً وعادت بثوب خفيف لطيف رُسِمَتْ عليه زهور كبيرة ملوّنة وقد نثرت شعرها على كتفيها، فامتزجت صورتها تماماً بهالة الزهور المحيطة بها وبدت فعلاً للجميع ذات جمال خاص ساحر غير متوقع.‏

    كانت تجلس هنا ثواني تلاطف هذا أو تلك، ثم تنتقل خفيفةً كفراشة إلى جوار شخص آخر دون أن تنسى أحداً من ترحيبها وملاطفاتها، ثم تغيب ثواني لتساعد أمها التي بدأت توزّع كنوزها مع أولادها بادئةً بأقداح "الليمونادة" المنعشة والمعطّرة بماء الزهر.‏

    لم تمضِ دقائق حتى بُسطت الطاولات وصُفَّتْ الكراسي ، وشرعت صحون المقبلات تتوارد، ثم "الجاطات" الكبيرة التي كانت تحوي مالذ وطاب من أنواع "الكبّة" النيّئة والمقليّة والمشويّة وباللبنية، وأنواع المحاشي كاليبرق مع السجق والكوسا وفتّة المكدوس، وكان الأب يشرف على التوزيع، والأولاد يتحركون بنشاط بين يديه، وحين رفض الجميع أن يبدؤوا الأكل إلا بحضور الأمّ، أقبلت عليهم وهي ترحّب بوجهها الصبوح البشوش قائلةً:‏

    - حلّفتكم بالله أن تأكلوا. لا تنتظروني... مازال عندي شغل...‏

    ولكنهم أصرّوا، فجلستْ على استحياء، وجلس الأب إلى جوارها إلاّ الأولاد فقد ظلّوا يحومون لخدمة الجميع، وهكذا افتتحت الوليمةّ...‏

    ***‏

    حين عاد الجميع إلى بيوتهم مساءً، لم يكن ثمّة شك في أنّهم تغيّروا كثيراً خلال هذه الساعات المعدودة من بعد ظهر ذلك اليوم الذي لن يُنسى. وكانوا جميعاً مدركين تماماً طبيعة هذا التغيّر. أما غسان صالحاني فقد بدا في صبيحة اليوم التالي إنساناً جاداً على غير عادته إذ مرّ الصباح بأكمله دون أن يُطلق من إبداعاته الساخرة أيّة نكتة أو تشنيعة. كان يسترق النظر طوال الدوام إلى "فاطمة عوض" التي عادت كما كانت فتاة عادية، ولكن هيهات.‏

    ذلك إنها لم تعدْ بالنسبة له فتاة عادية على الإطلاق.‏

    وعند انتهاء الدوام توقف أمامها مدفوعاً برغبة لا تُقاوم كي يقول لها كلاماً فكر فيه طويلاً:‏

    - أيّ نوعٍ من النساء أنت يا آنسة فاطمة! وأيّة مدنيّة تلك التي تنتمين إليها! لقد حيّرتني بالأمس وها أنت تحيّرينني اليوم. وأيّة فاطمة يجب أن أرى، ومع أيٍّ منهما يَحْسُن بي أن أتعامل!‏

    كان الآخرون قد وقفوا جميعاً استعداداً للخروج، أو على الأصحّ لسماع جواب الفتاة، وفي الوقت نفسه لا يدري أحد كيف امتلأت الغرفة بعشرات الموظفين، مِمّن حضروا وليمة البارحة أو سمعوا بها وكأنهم بإيعاز واحد جاؤوا كي يشاركوا في الاستماع إليها، وقد نهضت بكل هدوء فأحكمت رباط عقدة "الإيشارب" حول رأسها بحركة عفوية وهي تنظر إلى الحاضرين فرداً فرداً حين استقرّت عيناها السوداوان على غسان الذي ارتعش قليلاً في مواجهة تلك النظرة العميقة الثاقبة، وقد تلامحت من ورائها في الوقت نفسه ظلال ابتسامة محيّرة وهي تقول:‏

    - ليس هناك سوى فاطمة واحدة ياسيد غسان.. ولكي تراني كذلك.. يجدر بك أنت أوّلاً أن تقرّر أي غسان أنت، وإلى أيّ جانب من مدينتك تنتمي، وبعدها لن يبقى بيننا أيّ إشكال على ما أعتقد.‏

    قالت كلامها ثمّ خرجت على الفور، في حين كان الآخرون مايزالون جامدين كأنهم يفكّرون في مغزى ماسمعوه، وحين تحرّكوا وراءها كانت قد سبقتهم بمسافة كافية، حتى لقد خُيّل لموظف الاستعلامات وهو يراقبها تخرج وحدها ومن خلفها موكب الموظفات والموظفين أنه يشاهد مظاهرة غير مألوفة تقودها فتاة يراها لأوّل مرّة في حياته

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()