بتـــــاريخ : 11/17/2008 7:34:32 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1227 0


    تقرير داخلي عن

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : شوقي بغدادي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    لا يُمكن أن تكون بريئة، تضحك على مَنْ؟ تضحك عليّ وأنّا الذي يضحك على الناس جميعاً؟!.. وإنْ لا؟!... فلماذا هذا الوقوف الطويل أمام المرآة تتجمّل وتعيد تسريح شعرها في اليوم أكثر من مئة مرّةٍ، لمن كلّ هذا؟! إذا كنت لم أستفدْ من وظيفتي شيئاً - وقد استفدتُ منها أشياء كثيرة- فلا أقل من هذه القدرة على اكتشاف التناقض في أقوال المشكوك في أمرهم أمامي وهم يتظاهرون بالبراءة وماهم بأبرياء.‏

    شخص واحد فقط استطاع مرّةً خداعي، ولكن ليس لفترة طويلة، وربما كان هذا عائداً إلى صِغَرِ سنّه -ستة عشر عاماً- ولكن سرعان ما اكتشفت حقيقته من خلال بعض الجمل البسيطة التي تفوّه بها أمامي ولكن بشكل متعثّر متهافت، وبعد "كام كفّ" حسمت الأمر، ووضعت حدّاً لتمثيله وخداعه.‏

    أنا شخصياً لا أثق بأحد، ولي الحق في أن أشك بهذه المظاهر من التجمّل، والتزيّن، والتعطّر المبالغ فيها، لقد قلت لها رأيي ألف مرّة... أنا أحبك هكذا بلا أية رتوش.‏

    أنا لا أحب المناظر الاصطناعية.. ولكن مع من تتكلمّ. كانت تعرف أنها جميلة أكثر من اللازم، كما تعرف أنها صغيرة بالنسبة لي -أصغر مني بثمانية عشر عاماً- ولكن ما أهميّة ذلك مادمت أشعر وأنا في الرابعة والثلاثين من عمري أن رجولتي في ذروتها، ولكن ما الفائدة. إنها تصنع كل هذا بالتأكيد لشخص آخر لابدّ أن اكتشفه قريباً...‏

    أسألها ماذا صَنَعْت في غيابي، فترفع رأسها دائماً بحركة استغراب طفليّة وهي تقول: "وماذا أصنع عادة سوى القيام بأعمال البيت ثم انتظار عودتك!.. "يالدهاء المرأة!.. غير أنها لا تعرف أنني أكثر دهاءً منها. أقول لها:"ألم تزوري أحداً من الجيران؟".. فتفتح عينيها السوداوين الساحرتين على سعتهما، ويفترّ ثغرها ذو الشفتين المليئتين الحمراوين بلا ماكياج عن أسنانها الناصعة البياض والمصفوفة بإتقان مدهش كي تقول: "أنت تعرف جيّداً أنني وعدتك بألاّ أزور أحداً في غيابك.."..‏

    هكذا يقولون دائماً أمامنا متظاهرين بالبراءة، ثم نكتشف بعد ضغوط بسيطة أنهم زاروا، وقابلوا: وتحدّثوا في المحرّمات، وعقدوا اتفاقيات لتخريب البلد.. يالخداع البشر!.. ولهذا السبب قرّرت أن أقفل الباب عليها بعد خروجي دون أن يمنعني هذا من أن أطرح عليها هذا السؤال من حين لآخر: "لابدّ أنك تضجرين في غيابي. ألم تزوري أحداً، أو ألم يزرك أحد من الجيران؟.". فتقول على الفور:"ولكن الباب مقفول عليّ فكيف أخرج أوأستقبل؟!". فأقول:"في إمكانك أن تصنعي نسخةً عن المفتاح.."، فتقول:"ولكن كيف أصنع ذلك والمفتاح دائماً معك!"...‏

    المهم أننا نتجادل طويلاً دون جدوى، وحين تروق الأحوال وآخذها بين يديّ فوق سريرنا العريض أنسى كل شيء. أنسى الدنيا ومافيها. ولكنني فجأة أتذكّر. ثمّة إحساس لا أدري كيف صار يتولّد لديّ في تلك اللحظات التي يُفترض أن تكون أروع لحظات الحياة. فتاة صغيرة جميلة، ذاتُ جسدٍ غضٍّ بضٍّ يشعل النار في الموتى.‏

    كيف تزوّجتها إذن؟!.. يا إلهي.. من يستطيع أن يراها دون أن يبيع ماتحته ومافوقه كي يدفع مهرها على الفور... أنا موظف حقاً، ولكن عندي دخول إضافية كثيرة، كما أنني أملك بيتاً، وامتلاك منزل في هذه الأيام أمر ليس بالهيّن. حياتي معها ليست عسيرة. وطلباتها ليست كثيرة، وعندما خطبتها من أهلها -وكانوا جيراننا- لم يوافقوا إلاّ بعد أن هدّدتهم بشكل غير مباشر. لقد كانوا أذكى من أن يرفضوا شخصاً مثلي قادراً على أن يضرّ وينفع. كنت أراها تكبر أمامي منذ الصغر بسرعة مذهلة. وعندما صارت في الصف الثامن بدت امرأة مكتملة ناضجة. وفجأة أخرجها أهلها من المدرسة بعد رسوبها في الكفاءة، كان يجب أن تتزوّج إذ دخلت في السن الخطرة، وكان شباب الحي يحومون حولها، ولكن من دون أن تعبأ بأحد. كانت سمعتها كالمسك. أنا واثق أنها لم تعرف رجلاً قبلي. ولكن بعد زواجنا بأشهر بدأت أفكاري تتغيّر حيال تصرّفاتها الغريبة. لنأخذ مسألة الهاتف مثلاً... يرنّ الهاتف مرّةً ومرّتين، وثلاث مرّات، فإذا أجبتُ أنا لم أسمع صوتاً على الطرف الآخر، وإذا أجابت هي تقول على الفور: غلطان... أو غلطانة.. ليس هنا بيت الفواخيري.. أو ليس هنا بيت الزنبركجي.. مَنْ هذه الأُسر العجيبة التي تتشابه أرقامها مع رقمنا؟! ولهذا غيّرت نمرة الهاتف أوّل الأمر، وطلبت إبقاءها خارج الدليل، وما أكثر الأوقات التي كنتُ أدخل فيها عليها بغتةً متسلّلاً فأضبطها تتحدّث على الهاتف مع إنسان ما فما أن تراني داخلاً حتى تُغلق الخط بكلّ هدوء. كنت أسألها مع من تتكلمين، فتجيب على الفور: مع فلانة أو علاّنة من الرفيقات، أو مع أهلها، وحين أتحقق من الموضوع، أكتشف فعلاً أنها كانت صادقة. لكن لماذا لا تكون متفقة أصلاً مع هذه الرفيقة أو تلك أو مع أختها مثلاً على أن يُجبن على تحرّياتي بجواب واحد مُطمئن: كنا نحكي مع سلمى!... أو كانت سلمى تحكي معنا!.. وعندما استفحل الأمر بالنسبة لي قفلت على الجهاز ولم أعدْ أفتح عنه القفل إلا بعد عودتي إلى البيت. وحين ثارت شكوكي من زيارتها لبنات الجيران أواستقبالها لهن في غيابي صرت أقفل عليها باب الدار. صحيح أنها كانت تشكو وتحتجّ على شكوكي، وكثيراً ماكانت تبكي.. يالدموع العاهرات!.. هل كانت تعتقد أنه من السهل خداعي ببعض الدموع الكاذبة!.. إن النساء غبيّات حقّاً حين يعتقدن بأن للدموع تأثيراً على الرجال المحّنكين.. نحن لا نصدّق دموع الرجال في عملنا فكيف نصدّق دموع النساء!...‏

    غير أنها صارت فيما بعد تستقبل كل تصرفاتي كقَدَر لا مفرّ منه، فما عساني أصنع كي أمسك عليها الدليل الحاسم!‏

    وأخيراً خطر لي أن أطلب مراقبة هاتفي لمدّة أسبوعين فرفعت عنه القفل، ولكن النتيجة جاءت لصالحها مئة في المئة... ومع ذلك فقد عدت إلى إقفال الجهاز احتياطاً وحسماً للشكوك. هل يمكن أن تكون بريئة؟... مستحيل.. أنا واثق أنّ في حياتها سرّاً ما.. سرّاً سوف يدمّر حياتنا الزوجية، وإلاّ فلمن كل هذا التجمل والتعطر والتزيّن؟!... ولماذا كل هذا الشرود حين أخاطبها، وهذا التمهّل حين أستعجلها، وهذه الغبطة أو هذا الهمّ حين لا يكون ثمة سبب واضح مفهوم لغبطتها العجيبة أو لهمّها المفاجئ.‏

    وهكذا صرت أقتنص من الدوام الوقت الكافي لزيارة الدار بشكل مفاجئ متذرّعاً بحجّةٍ من الحجج، أو أطلب إجازة وأبقى طائفاً محوّماً حول الدار كي أمسك بالدليل الذي يريحني، ولكن دون جدوى.‏

    مرّة واحدة فقط رأيت شاباً يهبط على الدرج لم أره في حياتي، وهو يسوّي من هندامه، فلحقت به ولكن سرعان ماضيّعته في الزحام، بنايتنا تقع في "الميسات" وهي مؤلفة من أربعة طوابق، وكلنا يعرف بعضنا بعضاً فماذا كان يصنع ذلك الشاب في تلك الساعة من النهار التي يخرج فيها جميع الرجال من دورهم...‏

    طرقت كل الأبواب وادعيت أن أحد زملائي الذين لا يعرفون عنواني جيّداً قد ضربت له موعداً في هذه الساعة فهل دقّ عليكم الباب أحد؟!.. أو هل خرج من عندكم أحد؟!.. ولابدّ أنهم استغربوا سؤالي، ولكنني لم أعبأ بهم. كان يجب أن أعرف من هو ذلك الشاب الأنيق الوسيم الذي كان يهبط الدرج وهو يسوّي هندامه في تلك الساعة من النّهار. وعندما سألتها أنكرت أن يكون أحد دقّ علينا الباب.‏

    في المدّة الأخيرة صارت تُسرف في زيارة أهلها كما صار أهلها يسرفون في زيارتها، ولم يكن في استطاعتي منع ذلك نهائياً. قلت في نفسي بادئ ذي بدء: لابأس... يجب ألاّ تشعر بأنها سجينة تماماً وإلاّ حقدت عليّ. فتساهلت في الأمر، وأُعطيت لأُمها فقط نسخة عن المفتاح محذّراً إيّاها من تركه مع ابنتها. إلاّ أنني لم أستطع السكوت حين صرتُ أرى كلّ يومين تقريباً لدى عودتي إلى البيت أمّها أو أختها. وحين كانت أمها تذهب بها إلى زيارةٍ لأهلها كانت تدوم الزيارة أكثر من ثلاثة أيام.‏

    لم أمانع في بادئ الأمر، فأنا واثق بالأمّ على الأقلّ. وهكذا صرت أزورهم معها، أو أكلّف أحد العناصر المهرة لدينا بمراقبة بيت الأهل في حال غيابي. ولكن للصبر حدوداً كما يقولون. فكان لابدّ أن أصطدم بهم أخيراً حين رجعت عن تساهلي وقررّت أن أضع حدّاً معقولاً لهذه الزيارات المتبادلة. فسايروني بعض الشيء، حتى جاء اليوم الذي كان لابدّ من انفجار تلك الأزمة فيه حين رجعت إلى البيت فلم أجدّ أحداً، ثمّ عرفتُّ أن زوجتي "حردانة" عند بيت أهلها. وهناك تكاتف الجميع معها. وكان لابدّ من ملاينتهم قليلاً خوفاً من الفضيحة، فعدتُ إلى قراري بعد أن وصل الأمر إلى حدّ المطالبة بالطلاق.‏

    أنا قادر طبعاً على تهديدهم وإيذائهم، غير أنني لا أريد أن أخسر زوجتي أيضاً فأنا مولع بها حقاً، ولا يمكن أن أعرّض حياتي الزوجية للدمار مادام الأهل قد وجدوا الشجاعة على مجابهتي إلى هذا الحدّ. كنت لا أريد في الوقت نفسه أن يصل الأمر إلى زملائي ورؤسائي فأنا أعرف جيّداً أن حسّادي كثيرون، وأنّ هناك أعداءً لي يتربّصون بي الدوائر للإيقاع بي وتجريدي من نفوذي، وأن فضيحة عائلية كهذي كافية كي يستغلّوها لتشويه سمعتي بأنني غير قادر على الإمساك بمقاليد الأمور في بيتي، فكيف في وظيفتي الحسّاسة.‏

    وهكذا توصّلت مع أهلها إلى حلّ وسط في مواعيد محدّدة للزيارات المتبادلة.‏

    ولكنّ الذي يحيّرني الآن هو أنها لم تعد تشكو على الإطلاق. وأنّني كلّما حاصرتها بأسئلتي تتشاغل عني صامتة دون جواب، أو تكتفي بالنظر إليّ بهدوء مثير وهي ترسم على وجهها الماكر الجميل ابتسامة عجيبةً لا تُفسِّر..‏

    ثمّة شيء جديد في نظرتها الآن.. شيء جريءٌ، قاسٍ، مراوغ لا يمكن الإمساك به.. شيء يشبه مافي نظرات النساء الخبيرات اللواتي نحسب أنّهن ملك أيدينا، حتى إذا فتحناها لم نجد سوى قبض الريح...‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()