بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:41:46 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1092 0


    حديث القرية

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : عبد الرحمن سيدو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    الشمس.. ترسل أشعتها العمودية الحارقة...؟‏

    تتجعد وريقات التوت والزيزفون وتذبل أغنياتهما. تحتقن الدماء الخضراء في شتلات القطن الغضة، وبكسل يسيل الماء الهزيل في الساقية المحاذية للقرية، تلتجئ العصافير فاتحة مناقيرها الصفراء الصغيرة إلى الأوكار المفتوحة في أعالي الجدران المبنية من الطين الممزوج بالقش... وبين البيوت الواطئة، المسقوفة بالبردي والطرفة والقصب، يتأفعى الدرب المترب، ويتسلق الغبار المدى الفسيح مغطياً صفحة السماء الزرقاء وقت تعبرها قطعان الغنم والماعز وهي آيبة من السهل الواسع المكتظ بسيقان القمح والشعير..‏

    -استندت ميرام إلى جذع شجرة التوت العتيقة أمام بيتها، ترقب الأغنام التي تنقل أقدامها السوداء بوهن، فاتحة أشداقها من شدة الظمأ، ومتجهة إلى البئر الوحيدة هناك شمالي القرية يتقدمها /مصطفى/ الراعي على حماره الأبيض، مصحوبة خطواته برنين أجراس الكباش والتيوس... تلف موسيقى الأجراس جوانح ميرام يطربها الرنين الواثق، المتطامن فتغمض عينيها بالتذاذ... راح (عفدي الآغا) يرقبها متشهياً (الصدر الممتلئ، الساقين المفتولتين، الجدائل الشقر التي تتأرجح على عجز مكور، القامة الهيفاء) وأخذ يطبطب على كرشه الدالق بتحرق...ويحاذي مصطفى الراعي ميرام.‏

    قامة طويلة صلبة، وجه أبيض كخبز الرقاق، تستريح على كتفه عباءة سوداء مدربة بخطوط بيضاء، ويتدلى من نطاقه الجلدي خنجر فضي كبير، تشع من عينيه الصقريتين إشعاعات ندية رطبة و حنونة... كل ذرة فيه تنطلق بالجسارات (أسرت ميرام لنفسها) وابتسمت بنشوة... رمقها... وجه شفيف تجد نفسك داخله إذ تحدق، حشيش أخضر مندى يستلب الروح، عينان تومضان في القلب ألفة وتفيضان في الدماء حليباً دافئاً، تسري في جسده تيارات، تتردد أصوات في رأسه، طفل هو الآن يرتمي على نبع ماء صاف، يصعد البيادر والنوارج، يغوص في السنابل والأفياء الظليلة، ويتمتع بالغزلان البرية وهي تجري صوب الشمس، يبتهج لصياح الديكة وهي تخترق غبش الفجر، يعوقه دوار.. الأشجار تحمله، طيور الباشق تحوم وترميه في جمهرات البقول واليقطين....‏

    يحييها ضاحكاً وغامزاً" ها ميرو تعالي ساعديني في رعي الأغنام". باندفاع تدخل يدها في عنق الدلو المطاطي وترقده داخل السطل، تريحها فوق رأسها المغطى بشال وردي مقصب، تجتاز سور البيت المبني من عيدان القطن اليابس والطرفة، تدخل بين الأغنام، وتسير بغنج طفلي.. ينتثر منها أريج الأزاهير.. فيصيح "مصطفى" متأججاً.‏

    (بوركت أيها البئر الرائع، يا واهب الحليب للضروع، والخبز للرعاة، والمواعيد للعاشقين....)‏

    هنيهات.... تلكزه ميرام .... لقد وصلنا... ها هو البئر..... ينزل عن حماره، كان القطيع قد توقف... صرخ الآغا عفدي سأنالك يا ابنة الشحاذين، ترفضيني أنا، وتقبلي بـ مصطفى الراعي...؟؟‏

    حول البئر تجمع الرعاة والنساء، أصوات متنافرة، أحدهم يغني، اثنان يتعاونان في سحب الماء بالدلاء، وفي طرف انفردت بعض الفتيات تتبادلن آخر الفضائح في القرية "عفدي آغا" أغار على زوجة بستانيه (موسى) ليلاً، اغتصبها، وداس على بطنها قائلاً: اذهبي إلى الطين.. يا زلخي اذهبي، أما (موسى) أكملت أحداهن مستهزئة، فكان يغازل بغلته وغرقن في الضحك....؟‏

    تناولت /ميرام/ طرف ثوبها، وشبكته بخيط القنب الذي يزنر خصرها، وصعدت سوار البئر المخدد من احتكاك الحبل والأمراس، تبعها مصطفى قابلها، وأخذا يتبادلان استجرار الماء طوقتها الوجوه المرهقة، المبقعة بالخطوط الموبرة، المتداخلة أسفل العيون الملفوحة بالوهج الحار والعرق الدبق، وخلف سور أحد البيوت القريبة غاب عفدي الآغا.. تعالى الصراخ وتولدت الشتائم بين الرعيان، ونشب عراك صغير لسبب يعرفه الجميع... ضربت إحدى العجائز على صدرها قائلة: (ابن الحرام مصطفى هذا .. كم هو جميل)..؟‏

    كان الدلو المطاطي يهبط ويصعد، يمتلئ ويفرغ، بالماء ومنه، ينسكب الماء في الجرن الحجري ويتابع سيره في جدول مبطن بحجارة ملسة صقيلة، رؤوس بيض.. شقر.. سود.. رمادية..تروي جوفها بالماء العذب البارد وتهزها بانتشاء، فتصطفق الآذان الطويلة مرسلة طبطبات نظيمة، تركض الدجاجات، وتمص الماء من مواطئ الأقدام الحافية، وتهرول عائدة إلى فيء سور قريب، يرفع كلب رأسه عن قدميه الممدودتين في الطين ويغفو....‏

    يجري الماء وسيلانه من الجرن إلى الجدول إلى الأجواف الظمأى، تمتزج الأنفاس في الصدرين، تنتش بعض حبات العرق المتلألئة على وجهيها، وكلما التقت نظراتهما، يؤج فيهما الشوق، فيبوحان ببعض كلمات الحب الذي ضمراه طويلاً، وبحرارة تدندن ميرام... عذبة مياهك وقوية أيتها البئر القديمة... لا تندمي... إنك تبادلينه بالحياة" معها يردد الرعاة والصبايا.. فيصرخ مصطفى متأججاً "أعطني حبك يا ميرام.. يا راعيتي الصغيرة... لن تندمي... سأمنحك قطيع الغنم هذا ... وخنجري... وعصاي المليئة العقد كأغصان الحياة... ".‏

    الغناء يعلو، يفيض حول البئر، تثغوا الحملان، تمأمئ الجدايا، ترن أجراس الكباش والتيوس، يتقافز الحضور راقصين ومغنين، يفور الحليب في العلب الخشبية المعلمة بحروف كبيرة، يتمدد الكحل في المآقي، يتوهج التنور ويمتلئ بالأرغفة المنضجة المسمسمة، يتصاعد مع البخار شذى السماق من الخبز تتفجر بحة ناي وتورق في الدماء، يزهر الدراق، تتدفق أنغام البزق شجية، تشتعل روائح الريحان والطرفة، تتهشم السنابل بين أسنان النوارج، ينتش البنجار والبابونج في سطوح البيوت المتربة، وينام ضيف متعب على فراش نظيف مد على السطح، تتكشف الأرض عن آبار أخرى....‏

    طلقة... اثنتان.. ثلاثة...؟؟‏

    /مصطفى/ الآن ثقوب تنفر منه الدماء، مرمي بكل قامته على أرض البئر...‏

    تختلط الدماء بالماء البارد، تنكب ميرام عليه، تتضرج بدمه، تتجمد بعض الدماء مشكلة أزاهير رمان ودراق ويقطين...؟‏

    خلف السور قام عفدي الآغا، ركب حصانه واتجه إلى القصر...؟‍؟‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()