-" أيْيْيْه...! أيتها الياقة الناصعة! أعتذر، أعتذر منك. هذه هي رقبتي الرفيعة. حتماً كنتِ، باتّساعك هذا تحيطين برقبة أغلظ منها بكثير. يعني قرابة ثلاثة أمثالها...".
ثم تلمّس سالم الطايع، بأصابعه المحرشفة، ياقة قميصه المقوّاة بالنشا. وجدها ملساء. مصقولة مالكرآة نفسها.
-" أف ..! ما هذه الصلابة"؟
وتواردت عليه، أيضاً، خواطر أخرى... تساءل عن تلك "العقدة"، التي كانت تربط بها هذه الياقة: حتماً كانت جدّ فاخرة من أية المحال ابتيعت؟ من (نوفوتيهات) الصالحة الراقية؟ أم استوردت خصّيصا من مدينة (باريس)؟
-" أعتذر. أعتذر منك. أيتها الياقة، إن بقيت عندي عاطلة، من تلك "الزينة"، أو إذا ما ربطتك بـ"عقدتي" الباهتة البالية":.
وبلع سالم الطايع ريقه. رأى أن رقبته المعروقة، قد انتفخت، أمامه، عاد وبشّ وجهه. ولكن ظلّت الياقة أكبر بكثير، من هذا الحجم المصطنع!
-" أوفتتْ...".
صفر بين شفتيه.
-"كم كانت ثخينة تلك الرقبة"!
ثم أخذ يحرّك جذعه، وهو مازال ينظر إلى صورته في المرآة.صمّم على ألاّ تساوره أية افكار، في الندم على اقتناء هذا القميص، الذي اشتراه على عجل، وهو عائد من عمله، إلى البيت.
ولو رتَّب عليه عجزاً، في موازنته الشهرية، مقداره خمس وثلاثون ليرة.
ولكن وجده فضفاضاً جداً، يتّسع لثلاثة أجسام مثل جسمه.
- واهْ...! ياللجثّة الضخمة، التي كانت تسكن فيه.
كم كانت كبيرة تلك الكرش، التي حضنها؟ حتماً، قد نتأت إلى الأمام، كبطن حُبلى، في الشهر التاسع، من كثرة ما كانت تحشى به، من فراريج. و... و..."!
وراح، الأخ، سالم الطايع، يتخيّل من خلال القميص، الذي يغمره، بقيّة أجزاء تلك الجثة: المنكب العريض. والصدر المارج. والجذع الممتلئ العامر. و...
زمَّ شفتيه. وأوشك أن تدمع عيناه حزناً، على ما حلّ بهذا القميص، عنده، من بؤس وتعاسة، لماذا باعك صاحبك الأول. أيها القميص المنكود؟ مازلت جديداً. كأن قطع خيّاطك، تواً، آخر خيط فيك. ولونك أبيض، يسطع كالثلج وقماشك" ساتين" ممتاز. يالحظك العاثر! أنا أجزم أنه لم يضعك على بدنه أكثر من مرتين- اثنتين- أهكذا يستبدل بقية ثيابه؟ عسى ألاّ يستبدل نساءه وصديقاته، أيضاً.
وكاد يقرط شفته السفلى، حين فطن:
-" أ. أ.. يجوز أنه استبدلك، أيها المسكين، بناء على طلب إحداهن. هن من طبعهن الرغبة في التبديل، والتجديد...".
واستدار قليلاً، أمام المرآة. بانَ له فوق الثدي الأيسر جيب:
-ماذا كان يضع هنا؟ قل لي أيها القميص. لاتكتم علي:
مناديل مطرزة؟ دراهم؟ دفاتر" شيكات) آه، لو عشت، عنده، أكثر. وتنعّمت بروائح العطور، التي كان يدلقها عليك، حين كان يقوم بضمّاته الشبقية، لفاتناته.
أيْيْيْه...! كم اطّلعت على أسرار، يا ملعون؟ وتنصّت على همهماتٍ، تحت الضوء الخافت؛ حيث ينطلق البوح في سحر العتمة، على أبعد مدىً... ولكن، لابأس. كنْ دافئ الفم. حافظاً للغيبة....
ثم حنى سالم الطايع رأسه. وراح يتشّمم ذلك الجيب بأنفه. شعر كأنه ينشق- حقيقة- منه بقايا الطيوب.
فهزّته نشوة جارفة. ولايدري كيف دَسَّ يده داخله.
عاد وتحسّر:
-" لو وجدت شيئاً فيه: قطعة نقدية، من ذات ( أمّ طربوش) " أو من ذات ( أمّ مئة). لا فرق. كلاهما مقبول عندي. ولكن ذلك الرجل الدنق لم ينسَ شيئاً"!
وحين أراد سالم الطايع أن ينزع القميص عن جسمه. ويعلّقه على جدار غرفته اللاطئ. أحسّ بما يشبه الكلمة تصبّ على معصم يده اليسرى:
-" أتضربني، بكمّك، أيها القميص؟ أي تودّ أن تنتقم مني؟ أنا لا أحمل، بيدي، ساعة. ولا في جيبي كذلك.
فطنت بساعة صاحبك. آ.... آ... ماذا كان نوع تلك الساعة؟ (رادو)؟ أم (لونجين)؟ وماذا كان نوع معدنها؟ فضة؟ أم ذهباً؟ ياهْ...!! كم برقت مشعشعة كنور الشمس، وهي تحسب الوقت له! أجل يحقّ لك أن تعتب عليّ. بل يحقّ لك أن أن تحزن وتأسف.
وأن تبكي أيضاً. تُرى لمَ جار الزمان عليك، بعد كلّ ذينك العزّ والدلال....؟
-إيْيْهْ...! هذه د"نيا" . ياقميص. إنها لاتدوم-(دوام الحال من المحال)- هكذا كان يردّد جدي طايع.
على أية حال .كفكف أحزانك على هذا الجدار. وتخفّف من همومك حتى الصباح. غرفتي، وإن كانت مظلمة، كغرفة منفردة في قبو، فهي مريحة نوعاً ما. مريحة بصمتها.
وببساطة أثاثها : طاولة خشب. كرسي عتيق.فراش إسفنج.. نعم ماذا تريد أن يكون أثاث غرفة رجل أعزب يعمل أجير اً. أجره كفاف يومه. على كلٍّ، لا تكن نزقاً. أنا، معك، إن علاّقة من خشب الصندل. ليست كعلاّقة من مسمار صدئ. والمبيت داخل خزانة مصنوعة من خشب" الزان". ليس المبيت على جدارٍ عارٍ رطب.
باختصار:
الحياة، عنده، غير.
بالمناسبة، أيها القميص. ليتك تعلمني بسرّ حياةذاك الرجل. كيف اغتنى؟ لأ عرف كيف يثرو الناس، ويغتنون. وما هي الوسائل لذلك؟
هو هل ورث عن أبيه أطياناً ودكاكين وأرصدة (بنوك)؟ أو تخرّج من الجامعة. ثم تسلّم مديراً لمؤسسة تجارية، أوصناعية، وفاض الخير؟ أنا، يا حسرتي. وصلت، في تحصيلي العلمي إلى شهادة "فك الحرف". وكتابة اسمي مثل خربشة دجاجة.
ويْيْهْ...! اني قد ثرثرت معك كثيراً. أيها القميص. لا تؤاخذني. أجل لا تؤاخذني. بالتأكيد فتّقت لك جروحك.
لذا أعود واعتذر منك للمرة الرابعة... أ...أ..... أتدري أنني اتخذت قراراً؟ وهو أنني سأعيدك، غداً، إلى صاحب" البالة" كفّارةعن نفسي، لعلك تحلّ في بيتٍ غير بيتي.