بتـــــاريخ : 11/18/2008 4:27:14 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1491 0


    هذه الزلزلة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. محمود موعد | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    الشاعر الكبير، الذي احتفل أمس بعيد ميلاده الخامس والستين، تؤرقه مشكلة منذ وقت غير قصير. إنه يجلس إلى طاولته في غرفته الصومعة، يستفزه بياض الورق إلى الكتابة، فيخط خطوطاً قلقة هنا وهناك. ويستعصي عليه ما يريد أن يقوله حقاً، وهو الذي لم يستعص عليه أمر يود كتابته في يوم من الأيام.‏

    أكثر من أربعين عاماً طوالاً تفيأ الشاعر الكبير ظل الكلمات منذ بدايات الخمسينيات، كانت تتراءى له، على قرب، مدينة فاضلة، مدينة سياجها العدل، وفي قلبها توزّع الثروات على الجميع. ويجد مواطنها، فيها سقفاً وطعاماً وأمناً. كانت قريبة، بل في متناول أحلامه، وما عليه إلاّ أن يهزّ شجرتها، بكلماته الكبيرة، المحبة، الصادقة حتى تتساقط ثمراً شهياً. كان يشيد بناءها حجراً فحجراً، بمواجد روحه، وغنى أفكاره، وتألق صوره، فتصل كلماته إلى قلوب الناس، وتهزّ أعماق الجماهير.‏

    كتب عن الفقراء، البائسين، المشردين، الحالمين برغيف الخبز والحب. كتب عن الوطن وعبق ترابه، وعن ضريبة الدم يدفعها العشاق في سبيله عن طيب خاطر. كتب عن الغزو الخارجي والنزف الداخلي. كتب عن فلسطين الجرح الفاغر فاه في خاصرة الوطن. كتب عن حلم الوحدة. كتب عن الجماهير صانعة المعجزات في كل مكان.‏

    أغلق عليه السجن مرات، وتشرد خارج الحدود سنوات لم يكلّ ولم يملّ. بقيت الشعلة تتأجج فيه سنين طويلة. لم ينس مع ذلك، أن يكتب عن الحب بكل ألوانه، وعن الطبيعة في شتى تجلياتها. وشيئاً فشيئاً اتسعت رؤيته، وتعمقت تجربته، فانساب قلمه ليناً يتشبث بمدينته التي أحبها، حاراتها، روائحها، بيوتها، شخصياتها، مواقف ضُمت عليها. وداعب هذا القلم: الأمل المطلّ من وراء اليأس، وألم الشعارات التي تغنى بها يوماً ورآها تستنفد أغراضها، والحلم المتشبث بنسغ الحياة تحت كوابيس الحياة اليومية اللاهثة.‏

    لم يكلّ ولم يملّ ولم يسقط القلم من يده...‏

    فما الذي يجري، اليوم، داخل الشاعر الكبير؟ وما الذي يجعله يتردد في الكتابة، ويخط عبارات لا تستقيم؟ وعم يحاول أن يكتب؟‏

    بدا له، وكأن الأمر قد حدث فجأة، أنه أسرف في النظر خارج ذاته، وأنه أسرف في رفع صوته، وأن القادة السياسيين الذين آمن بهم، وشحن نفسه بأفكارهم ووعودهم، خدعوه، وأن الأدب ليس له الدور الذي كان يظن. فجأة يدرك الشاعر الكبير أنه أغرق نفسه فيما ليس جوهرياً في الحياة، أو أنه، بالأحرى، وهبه، أكثر مما يستحق، جهده وأعصابه ووقته، وأنه كان يجب أن يلتفت إلى جوانب أخرى. أدرك الآن، ربما بسبب السن واقتراب الرحيل، أن ما هو جوهري ينبثق، فجأة في كيانه، وأن الوقت يطارده وهو يحاول أن يكتب عنه، ليقول آخر كلماته التي لم يقلها بعد.‏

    ما يشغل الشاعر الكبير الآن هو معجزة الحياة ذاتها، فعلى الرغم من الظلم، والقهر، والمجازر، والأوبئة، والموت، فهو ما يزال يعيش، وتجري في عروقه دماء الحياة، أليس هذا رائعاً؟‍‏

    إنه ينظر، يسمع ، يحس، تستمر فيه الحياة. هذه الحياة التي يمكن أن تنطفئ في أية لحظة، ونتيجة أي خطأ، كأن يكفّ القلب، فجأة ولأمر ما، عن خفقانه. هذه الحياة، التي كان يمكن أن يهبها عن طيب خاطر فيما مضى، تبدو رائعة وجديرة أن تعاش. إنه ينام، يحلم، يستيقظ، يشمّ، يأكل، يحب، يفكر، يتخيل، أليست هذه الحياة، في ذاتها، معجزة؟ أليست جديرة بأن يكتب عنها؟‏

    ومعجزة الحياة في الطبيعة والكون؟‏

    هذه الأرض التي يعتريها الموات، فيجردها من كل حياة في ظاهر الأمر، فتخفي في أعماقها حياة جديدة، تحتضن في رحمها العشب والزهر والثمر شهوراً في انتظار أن تتفجّر في اللحظة الآتية ألواناً وروائح وأشكالاً وطعوماً لاحد لجمالها وروعتها. وهذه البحار المدوّية وما تنطوي عليه، هذه الصحارى الشاسعة، هذه الكواكب والأفلاك، هذا الفراغ الهائل، هذه الحركة السرّية في الأنساغ وفي خلايا كل شيء، هذه الأحاسيس التي تتفلتُ، فلا يُقبض عليها.‏

    مما لاشك فيه أنه كان قد أغفل أشياء كثيرة، وهاهو ذا يقف على حافة هاوية سحيقة، تنادي أعماقه، تشدّها نحو لجج من الأحاسيس لم يعرفها من قبلُ أو لم يولها الاهتمام الذي تستحقه، وتجعله يترنحّ تحت وطأة دُواركوني.‏

    هل أصابته لعنة عصيّة على الفهم؟ هل هي دورة الحياة الطبيعية؟ هل هو الاستثناء من بين آلاف البشر؟ مهما يكن من أمر فإنه لن يعود كما كان. لن يجد، بعد الآن، في جوانحه ثقته المعهودة، ولن يعرف قلمه، بعد اليوم، لغته المطمئنة. إنه يقف على حافات الكلمات، لا يدري ما يختار منها، لتعبّر عن هذه الزلزلة. ما ستكون النتيجة؟ أإلى هذا الحد تستعصي عليه الكلمات لتبوح بهذه الأفكار والمشاعر التي لا تحدّ؟‏

    لايهم، يكفيه أنه، الآن، يقوم بآخر مغامرة له قبل فوات الأوان، وليكن ما يكون!‏

    وهاهو ذا، وقد نامت زوجته وولداه، وحيد مع الليل يجلس إلى مكتبه، وأمامه ورق أبيض يستفزه، وبيده القلم يرتعش بانفعالات وعوالم لا يتسع لها الكون!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()