إلى كل الأصدقاء الذين رويت
لهم هذه الواقعة، وطالبوني بكتابتها.
دأب رئيس الهيئة الإدارية وأعضاؤها، على القيام بزيادة للوزير، بغرض التعارف وعرض المطالب والمجاملة، وذلك في أقرب وقت ممكن، إثر فوزهم في الانتخابات التي كانت تجري مرة كل عام.
وفي أحد الأعوام الخوالي، فزت عضواً في الهيئة الإدارية، وتقرر أن يذهب الرئيس والأعضاء لمقابلة الوزير التقليدية، في الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم الذي تم فيه الاتفاق على الموعد.
ولسبب ما، وصلت إلى مبنى الوزارة متأخراً خمس دقائق، فدخلت وصافحت الوزير ومستشاره ورئيس الهيئة الإدارية وأعضاءها الزملاء، وجلست في المقعد القريب من الباب.
كان المستشار جالساً خلف مكتب الوزير، والوزير جالساً على كرسي مشابه لكراسينا، ومجاور لطاولة المكتب، ويتحدث عن رواية رائجة في الولايات المتحدة الأميركية، ويسرد ملخصاً لها، لأنه قرأها وأعجب بها، أو لأنه قرأ ملخصاً لها فأعجب به أيضاً، قاصداً من ذلك، الإشارة لنا إلى أن الأدب الجيد يثير اهتمام القراء، مما يجعل الكتاب رائجاً، والكاتب ثرياً، على غير ما يحدث في بلادنا من قلة رواج الكتاب، وقلة ثراء الكاتب!
كانت أجواء اللقاء جدية أكثر من المألوف، ومكهربة لسبب من الأسباب. لكن الوزير بقي ملازماً لمقعده، وممعناً في الاستحواذ على الحديث كله، باستثناء جمل قصيرة ما كان يمكن أن تنتهي المقابلة دون أن يقولها الرئيس. وقد استغربت من انضباطيتي الفائقة في ذلك الصباح، إذ ليس من المعتاد بالنسبة لي، أن لا أنفجر في الضحك، عندما أجد نفسي محشوراً في وضع رسمي كهذا، أو في مأتم لفقيد تأخر أجله أكثر مما ينبغي، أو أكثر مما هو متوقع، حيث تقرأ في وجوه المعزين حزناً كاذباً، لا يلبث أن يتلاشى بمجرد أن تشم أنوفهم الهواء الطلق خارج بيت العزاء.
في هذا الجو العبوس، فتح الباب المقفل علينا، وأطل منه رجل متوسط العمر، نحيف القوام، يحمل في يده علاقة ملابس فوقها بذلة مغطاة بالنايلون الشفاف. ظننت لأول وهلة، أن الرجل فتح الباب بالخطأ، أو أنه دخل إلى مبنى الوزارة بالخطأ، غير أنني أدركت أنه ما جاء إلا لأمر في نفسه، حين لمحته يشخص ببصره نحو المستشار، الذي بدوره أشار له بيده أن يذهب. بالفعل ذهب الرجل والعلاقة والبذلة، وأقفل الباب خلفه، واستمر الوزير في الحديث عن الرواية الأميركية، دون أن يطرأ أي تعكير لصفو الجلسة، أو تثور أية أسئلة في الأذهان.
وعندما تمكن الرئيس من الفوز بفرصة لشرح المطالب الرئيسية التي يحملها، ورد عليه الوزير بأنه سينفذ الممكن منها، نهضنا جميعاً، وشرعنا بمصافحة الوزير والمستشار مودعين. إلا أنني لاحظت أن الوزير لم يبرح مكانه، فبقي واقفاً أمام الكرسي، ولم يتحرك خطوة واحدة نحو الباب على سبيل المجاملات المعروفة.
كنت آخر المصافحين، فبقي الوزير ممسكاً بيدي، وقال لي إنه يريد أن يراني على انفراد، ودعاني للبقاء في مكتبه، فتجاوبت مع رغبته، وأنا في حيرة مما يريده مني رجل، ليس بيني وبينه إلا كل خير.
وما أن جلست، حتى شرع الوزير يخلع ملابسه، (يا للهول!)، فتخلص من الجاكيت وألقاه على أحد المقاعد، ثم شرع ينزل حمالات البنطلون (يا للفاجعة!)، وهو يقول لي:
- أريد منك أن تقوم بعمل يبهر الناس!
شعرت بسخونة في رأسي، وقلت وأنا أجاهد في لملمة ظنوني:
- وما هو هذا العمل؟
فك أزرار البنطلون (طاب الموت!) وقال:
- مسرحية.
وأضاف وهو يلهث ويقوم بإخراج رجله اليسرى من البنطلون:
- مسرحية كوميدية.
كان يرتدي لباساً داخلياً ذا ساقين ضيقين ممتدين إلى تخوم ركبتيه، وكانت تبدو على وجه معاليه، علامات مكابدته الكبرى في إخراج رجله من البنطلون، إذ تأرجح في الهواء، ثم اتكأ على طرف الطاولة كي يحمي نفسه من السقوط مكعبلاً على الأرض. ومما زاد في مكابدته، أنه لم يخلع حذاءه ذا الرباط العابر في ثمانية ثقوب متقابلة، لكنه بدا مغتبطاً حين نزع نصف البنطلون رغم العوائق التي تعترضه.
واستنشق هواء ملأ رئتيه، وقال:
- مسرحية كوميدية تجعل المشاهدين يموتون في مقاعدهم من شدة الضحك!
استغربت طلباً كهذا، لأن الكاتب لا يعمل بالضغط على أزرار معينة في رأسه، فنظرت إلى المستشار، ووجدته منشرحاً، مما جعلني أشعر بغيظ منه، وأتهمه في سري، بأن قلبه لا يعرف الرأفة، ومع ذلك قلت:
- حاضر يا معالي الوزير.
قال الوزير، وقد شرع في الشق الثاني من المكابدة:
- وأول الذين أريدهم أن يفقعوا من الضحك، هو دولة الرئيس
هززت رأسي مؤيداً هذا الهدف السامي وقلت:
- حاضر يا معالي الوزير.
رفع الوزير رجله في الهواء، وشد البنطلون، مما أخل بتوازنه، فقفز عدة خطوات على الرجل العارية، جعلته يبدو مثل بطة تهم بالعوم في الماء.
غالبت الذعر الذي تملكني، وقلت:
- لكنني يا معالي الوزير لا توجد لدي أية فكرة لمسرحية من هذا النوع
كان في تلك اللحظة بالضبط، قد حالفه التوفيق في نزع بقية البنطلون عن رجله اليمنى، فصارت هيئته العامة قريبة الشبه بالبجعة، من حيث انتفاخ الجزء العلوي من جسمه المغطى بالقميص، ومن حيث اعتماد هذا كله على ساقين رفيعتين، الأمر الذي يجعل المرء يشعر بالدهشة لعبقرية الإنسان الذي يستطيع أن يقف على اثنتين فقط، دون أن يصاب بحالة هبوط اضطراري
قال وهو يبتسم، ولا تظهر عليه أية علامة من العلامات التي ترافق الأفعال الناشزة:
- أريد أن تكون الأحداث في مقهى شعبي. فالباشا لا يعرف هذا الجو. وبإمكانك أن تجعل عامل المقهى يضع الصينية المملوءة بطلبات الشاي والسحلب على أطراف أصابعه.. هكذا..
وقام بتأدية الدور الذي يتخيله، محاولاً تبسيط المشهد لي، لكنه لم يلاحظ، أن قميصه أثناء ذلك، امتلأ بالهواء، وصار كالشادر أو المنطاد. إلا أنني كنت في حالة إحباط واكتئاب نفسي، لم تجعلني أفكر من قريب أو بعيد بالضحك واكتفيت بالقول:
- حاضر يا معالي الوزير.
دخل الرجل الذي ظهر أثناء المقابلة، ومعه العلاقة والبذلة، وتقدم بما يحمل، ووضعها قرب معالي الوزير. وعندئذ فهمت أسرار ما يجري، فقلت وأنا أتنفس بارتياح، وأمسح آثار العرق الذي تصبب من مسامات وجهي:
- سأكتب نصاً وأعرضه على معاليك.
قلت هذا بغرض الحصول على فرصة لرؤية الشارع، وودعته وهو يكابد في إدخال رجليه في البنطلون. ووصل المستشار معي إلى الباب، وهمس لي قائلاً:
- عندما دعا معاليه الأخوان للدخول، انفجر بنطلونه، فبقي ملازماً لمقعده، إلى أن أحضر السائق البذلة من بيته
وأضاف مبتسماً:
- ولكن، ألا ترى معي أن ما حدث اليوم سيفيدك في كتابة المسرحية؟