بتـــــاريخ : 11/18/2008 5:34:14 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1380 0


    زيارة خاطفة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ظافــــر الـنجــــــار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    بالرغم من مساعدتنا المخلصة، لم يستطع أبي مقاومة الموت فمات.‏

    قال له أخي الصغير: إذا أردت أن تموت.. اترك لي "جزدان المصاري"‏

    ضحك أبي حتى دمعت عيناه، وتساءل وهو يتعثّر ببقايا ضحكته: ومن يملؤه لك بالمصاري؟‏

    بدا أخي دهشاً وممتعضاً من سؤال أبي، الذي رآه غامضاً جدّاً. لكنّه تفاءل بضحكته المشفوعة بقطعة نقديّة صغيرة.‏

    ... قالت أمّي وهي تجفّف أنفها وعينها: اسأل عمّك أن يتدبّر أمر شراء الكفن.‏

    ابتلع عمّي بقايا دموعه. وقال منرفزاً: لا أصدّق أن أخي مات ولم يترك خلفه كومة من المال.‏

    خلعت أمّي بصمت قرطها الذهبيّ من عيار /12/ وعهدت لي ببيعه وشراء الكفن.‏

    في اليوم التالي قالت أختي الصغيرة: أنا صرت يتيمة. وعيناها تسألاني عن معنى كلمة "يتيمة".‏

    قلت لها، وأنا أرسم ابتسامة ما: تعالي لأحكي لك حكاية الثعلب والعصفور. وتساءلت في سرّي:‏

    تُرى.. من هذا المتذاكي الذي أراد أن يفلسف لها قصّة اليتم؟!‏

    وتذكّرت أنها البارحة، لم تنتبه لقصة الموت كلّها، وبقيت تلعب مع الأولاد طيلة فترة الجنازة.‏

    وعند المساء سألتْ: متى يعود أبي؟‏

    في أمسيات عدّة تكرّر السؤال، ودائماً نراوغها حتى تنسى. أخيراً سلّمت بموته، لكنّها لم تسلّم بعدم عودته. بل تناديه أحياناً بثقة، وتشكونا له، وتبكي، إلى أن نسترضيها.‏

    ... قلت لزوجتي: أريد أن أزور أبي.‏

    تأمّلتني بهدوء، وأومأتْ برأسها موافقة.‏

    سافرنا مع الأولاد. الطريق عرفني مباشرة. كنّا صديقين، وها هو يفتح لي صدره ويبتسم مرحباً، فابتسمتُ له بودّ، وتذاكرتُ معه المشاوير.. الرحلات القصيرة.. والمغامرات السريعة. ".. هل تذكر خيباتنا؟"‏

    لم أعر انتباهاً لزوجتي التي اتّسعت عيناها وهي تتأمّلني بريبة.‏

    ولاحت القرية من بعيد، بدت كعجوز تثرثر مع نفسها، وتعدّ الصباحات على أصابعها، مؤرّخة لغياب أبنائها الذي طال، رغم وعودهم بأن يرجعوا، ومع اقترابنا شعرت بجدرانها الطينيّة القديمة، بأزقّتها الترابيّة، بشمسها وهوائها، وهي تتحوّل إلى صدور حانية، تضمنّي وتقول: يامرحبا.‏

    فرح غامض وحادّ وخزني، وسرق لغتي وأنا ألتقي بالناس الطيبين.‏

    أخيراً حللنا في بيت أحد الأقرباء، حيث لاوجود إلاّ لعجوز وحيدة.‏

    سنديانة قديمة وأصيلة عجوزتنا هذه، تعرف كل ألوان الحزن والفرح، تشمّ رائحة الماضي والأقرباء، وتبكي.‏

    "أحمد مات.. ويوسف بالحبس.. وخالد بالجيش.. وفاطمة رحلت مع زوجها إلى الخليج.. وأنا ماعم اقدر موت."‏

    ثم لا أدري كيف لملمت حزنها، واعتذرت عن دموعها، وراحت تحدّثنا دفعة واحدة عن كل شيء، وتعدّ الشاي، وفار الماضي، تربّع في عينيها المكرمشتين، كصبيّة ريفيّة تبهرك بدائيّتها وإلفتها.‏

    لم أستطع متابعة أحاديثها إلا بإيماءات مخاتلة. حيث كنت أشرد مع ذاكرتي إلى أيام زمان.. أيام كانت عيون الريف مجبولة بالإلفة العميقة والعشق المحروق، تراهما يرشحان من خلال نظرات سريعة وحيّية، يخطفانك إلى عالم مسحور، ويغريانك بمغامرات قاتلة. تاريخ كامل ينفتح على مداه. بلغة طفليّة مدهشة، تحمل من الرسوم والحركات أكثر بكثير مما تحمله من الحروف والأصوات، فأجري مأخوذاً بين أطلاله، أتتبّع الطفل الذي كنته، المراهقَ المشاكس وهو يحنّ للهرب بعيداً بعيداً، بحثاً عن عالم يتّسع لأحلامه الغامضة وعواطفه المبكّرة.‏

    ويعود "الأستاز" -كما يدعوني أبي ساخراً.. والذي يسهّل الحروف اللثويّة دائماً-‏

    يعود منكسراً، ليشكو للطريق، وينتظر أن تسرقه جنيّةٌ ما، إلى عوالم زاهية كالحلم. إلى أن تخزني نظرات الصبايا العائدات من الحقول، فيطفر الحب من العيون. أراه، وأشمّه وأتحسسه بكل وجودي.‏

    ثم أقطف تلك النظرات، أخبّئها وأهرب بها.‏

    وفقط عندما أصبح وحيداً معها، نتحلّل من حكمة الآباء والأمهات، نخلع القرية عن جلدينا، ونتشيطن بلا حدود.‏

    .. نظرات زوجتي لا تكفّ عن وخزي. أنتبه لها، فأراها مرتبكة ومُوزَّعة بين إلفة المكان ووحشته، بين فرحي الغامض وضجرها. فأخبّئ عينيّ لئلا ترى البقيّة وتغار.‏

    ".. لن أزوّجك بفتاة من المدينة.. ابنة المدينة تسرق زوجها." ذلك ماقاله أبي لأخي الأكبر.‏

    غافلتُه، ورحت أحلم بفتاة من المدينة، تسرقني إلى الأبد. أخي الأكبر تزوّج من القرية. لكن المدينة سرقته مع زوجته وأولاده:‏

    وتزوّجتُ من المدينة، فاحتفظت بي، ثم نسيتني. وحتى الآن لا أدري لمن أنتمي!!‏

    ثمة أرض لي لم أجرؤ على بيعها رغم قفرها وجفافها.‏

    ".. من يبع الأرض يسهل عليه بيع أمّه." هذا ما قاله أبي حانقاً بوجه عمّي عندما فكّر بالبيع والهجرة.‏

    كانت السماء أقلّ عطاء من قبل، لكنّ ثقة أبي بها غير محدودة!‏

    أحياناً يحاورها، يعاتبها، وأحياناً يوبّخها:‏

    وأتطلّع بدهشة إلى السماء التي لم أسمعها تجيب على أبي ولو لمرّة واحدة، مع قناعتي بأن علاقة خاصّة وحميميّة تربط الاثنين ولاشك.‏

    -هذه شاي أمّك وجدّتك.. هذه شاي بالزّوفا."‏

    تقول العجوز.‏

    -يا ربّي ما أطيبها!" أقول وأنا أتلمّظ.‏

    زوجتي ترشف من كأسها، تتذوّق الشاي بحذر، ثم تنقل نظراتها بحياد كاذب بين وجهي ووجه العجوز، وبين إبريق الشاي المطليّ بالشحّار والسقف الخشبيّ الواطئ، وضحكة مكبوتة في عينيها.‏

    زوجتي الغريبة عن القرية، لن تستطيع فهم ما نفهمه في هذه اللحظات القرويّة الصرف. ليكن.. إنها تحترم مشاعرنا وهذا يكفي.‏

    طفلتنا ريم مبهورة باتّساع هذه الدار العربيّة، ومعجبة بالأرضيّة الترابيّة، وهي لا تنفك تنكش هنا أو هناك وتتنقّل كالنحلة من مكان لآخر، تلعب وتدافع الأشياء، السطل، الطست، وابور الكاز، وتطارد الدجاجات.‏

    - ريم.. اهدأي أيتها الشيطانة‍ ! صاحت زوجتي‏

    - بسم الله الرحمن الرحيم.. بالله عليك اتركيها "هذه البنت حبّة بركة.. اتركوها تبارك داري.. من زمان لم أر أطفالاً من لحمي ودمي." ومسحت العجوز عينيها.‏

    ... ابنتنا الأكبر مها تململتْ، وتطلّعتْ إليّ.‏

    عيناي منحتاها صلاحيات مطلقة، فتسللّت بتحفّظ، وراحت تجبل التراب بالماء، وتصنع عروساً، وتكلّم الدّجاجات كما تكلم أترابها.‏

    - ستلوّث ثيابها! قالت زوجتي باستياء.‏

    - ملعون أبو الثياب. قالت العجوز تضمّ زوجتي إلى صدرها المهدّم.‏

    ... في الطريق إلى المقبرة. وقف أبي يعاتبني‏

    "هجرتم الأرض؟!"‏

    "ضاقت الأرض يا أبي"‏

    "وتركتموني وحيداً!"‏

    "لن ننساك. "‏

    هزّ برأسه أسى وغاب دون أن يصدّقنا. تتبّعته بإصرار حاملاً له باقة أزهار صغيرة وحنيناً كبيراً.‏

    كانت البيوت المهجورة، والتي أعرفها بيتاً بيتاً، تطلّ عليّ من خلف موت فظيع وتبتسم!‏

    "عشرون سنة فعلت كل هذا؟! من يصدّق؟!" نظراتي المجنونة قبّلت كل حبّة تراب، وهربت مُبللة إلى المقبرة. قلت لزوجتي:‏

    - أترين ذلك الشاهد.؟ لقد تآكل.. لكنني أعرفه.‏

    نظرت زوجتي إلى حيث أشرت، وثابرت على صمتها. وهناك توقّفت أتأمّل الآية القرآنيّة وقد أكلت الأيام بعضها، وقبّلتُ الشاهد. ووضعت باقة الزهر. وقفت زوجتي إلى جانبي، وتمتمت بخشوع: ليرحمه الله. ثم تطلّعت عيناها إليّ بتضرّع وقالت: لنرحل.. بالله عليك. في حين مدّت ريم يدها الصغيرة إلى إحدى الزهرات، وعيناها تستميحانني وتبتسمان.‏

    - لا يا بابا.. سأشتري لك غيرها.‏

    "... دعها." قال أبي بامتعاض. وأردف:‏

    "خذيها ياريم.. إنها من جدّك."‏

    وبقيت ريم تتطلّع إليّ بإصرار وشيطنة.‏

    وشدّتني زوجتي من يدي.‏

    الوداع يا أبي.‏

    ".. ليحفظكم الله."‏

    بعد بضع خطوات.. انتبهت إلى أن الشيطانة ريم، جاءت بكل باقة الأزهار، وأختُها إلى جانبها تساومها على زهرة!!‏

    تطلّعتُ باستياء شديد، وفكرت بصغعها.‏

    ".. اتركها يا (أستاز) إنّها مني." قال أبي ذلك بعتاب حنون.‏

    لم تفهم زوجتي سرّ تبدّل موقفي، وانطفاء غضبي مع ذلك قالت مهدّئة: أطفال!‏

    وأسرعتْ خطوها، ضاغطة أكثر على يدي، ونظراتها القلقة تحثّنا على الإسراع، وتتلمّسنا واحداً واحداً، لكأنها تنفض عنّا غبار الموت!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()