بتـــــاريخ : 11/18/2008 5:35:44 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 996 0


    من سفر التكوين

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ظافــــر الـنجــــــار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    هو-‏

    صديقتي تدير ظهرها في محاولة للنوم، لن تستطيع، أعرف ذلك.‏

    منذ لحظات كانت تصغي إليَّ، وأنا أسرد لها ما اتفقنا على تسميته "اعترافات".‏

    ترقد أمامي كرجل دين. وأجلس قبالتها كمذنب يحتاج للبوح حاجته لارتكاب المزيد من الذنوب.‏

    مراراً اعترفت لها، ودائماً تغفر لي.‏

    ربّما لم تغفر تماماً، ربما تعاني من ظلال الاعتراف، وربّما لا زالت تفكّر مثلي بعوالم الكلمات التي لا تُقال عادة.‏

    أو لعلها تستحضر بدورها، وعلى طريقتها، صورة للمرأة -موضوع الاعتراف- تلك التي تقف الآن ملء ذاكرتي حتى لأكاد أراها تماماً كما كانت منذ عشرين سنة!‏

    يومَ تسللّتْ إلى عالمي بهدوء.‏

    جرّتني بحذر إلى عوالم لا أعرف عنها شيئاً، أحاسيسي كانت تسبقني بتوق ورهبة وكثيراً ما تنفصل عني وتشتعل. كان وهجها يصدمني، يشلّ حركة وعيّ، ثم أستفيق كالأبله لأستعيد بشكل ضبابيّ الكلمات والحركات المراوغة، والنظرات الملتبسة التي تتسلّل وتوغل في التفاصيل، فتضبطها النظرات الأخرى، تصطدم هذه بتلك، تتكسّران.‏

    أسمع بكل مسامات جلدي صوت ارتطامهما.‏

    ونغرق في بحبوحة من انعدام الوزن. والصمت المكثّف اللّزج يروغ في حلقينا وعيوننا. وينساب ناسجاً حولنا غلالة عنكبوتيّة غير مرئيّة، فتستشعر أحاسيسنا موجات ناعمة من الخدر اللذيذ، تتسلل مع الدم إلى كل خلايانا.‏

    لم أستطع إلا أن أتركها تضبط نظراتي التَّعبة وهي تستريح على تفاصيل جسدها، وكنت واثقاً أنها تريد ذلك.‏

    ويأتي صوتها المبحوح متعباً يتوكأ على شفتيها الكسولتين:‏

    عيناك تعريانني.‏

    - أنا؟! جاء استنكاري واهناً كستارة ممزّقة لا تستطيع حجب وجه فائر.‏

    وذهلتُ حين امتدّت يدها تتناولني كقطعة حلوى! كان العالم هشّاً ورخواً ومختلطاً، وكنّا نجهد لإعادة صياغته على المستوى الشخصيّ.‏

    "أكانت تجربتك الأولى؟‏

    -بلى‏

    - أكانت متزوّجة؟‏

    - أجل.‏

    - كم بقيت تراودها؟‏

    - بل هي التي راودتني.‏

    - ألم تفكّر بها من قبل؟‏

    - جعلتني أفكّر بها.‏

    - ألست آسفاً؟‏

    - لا."‏

    لا أذكر تماماً، متى وكيف انتهت علاقتنا، بقينا نهرب إلى الأمام، والشعور بالحصار يطاردنا، وبقي جسدانا ينفلتان إلى عوالم مسكونة بالأحاسيس الهاربة.‏

    أكثر من مرّة، وعلى تخوم اللحظات المسروقة، اعتقدتُ أن عينيّ تخونانني، تحدّثان الناس، كل الناس، بدقائق ما يجري.‏

    وتتّسع الأحداق.. تصبح الدهشة بحجم الفضيحة:‏

    - أنتَ يا سعدان؟؟! وأنتِ أيتّها السيدة الفاضلة؟؟!‏

    وتنهال الحجارة.‏

    رأيت لحمها المهروس بأمّ عينيّ، ثم لم أعد أرى شيئاً كان دمي يركض كجرو حول جسدي المثقوب بالرصاص وبالنظرات الحادّة.‏

    وإثر كل مرة. نلملم جسدينا ونلتقي من جديد.‏

    "- طريقنا مسدود أليس كذلك؟‏

    - نعم مسدود.‏

    - لماذا لم نفكّر بذلك من قبل؟!‏

    - بل لماذا نفكّر بذلك؟"‏

    ... وحده الطريق المسدود اتّسع لنا، فحشرنا جسدينا فيه، واسترحنا إلى حين.‏

    "..- وبعد؟‏

    - لا أدري."‏

    .. دائماً كنّا نهرب من هذه الـ "وبعد؟" لكن الأرض لم تكن واسعة، كان لا بد من التوقّف، فتوقفنا.‏

    "هل أحببتها؟‏

    - لاأدري.‏

    - ألا تزال تحبّها؟‏

    - ليس حبّاً.. لا أدري ماذا أسميّه..‏

    - وماذا عنها الآن؟‏

    - الآن تكرهني بعمق، لاتريد أن تصدّق أن ما حدث قد حدث. تريدني أن أموت وتموت معي الحكاية."‏

    ...أكاد أراها الآن مليئة بشعور الذّئبة الجريحة، وجسدها المنفصل عنها يوغل في الاغتراب واللعنة، تكاد لا تعرفه، بل ولا تريد أن تعرفه، من زمن بعيد وهي تحمله بكل أثقاله وضناه، أخيراً وضمن طقوس كالدّبق أصبحت ملك أحدهم. دائماً كانت تقول كلمات لاتريدها، وتوافق على مواقف ترفضها.‏

    وبقيت رائحة جثت كلماتها ورغباتها المدفونة في أعماقها تزكم أنفها، وبقيت الأسئلة التي تُدفن حيّة باستمرار، تترك فراغاً كبيراً فيها وحولها.‏

    - هـــــي -‏

    يارب.. الخلخلة في كل مكان. وهذا الجسد الملعون يطفو في الفراغ حتى وهو في فراش زوجي:‏

    مراراً أحسّ بالاختناق. أشياء ما تضغط على عنقي حتى في الحلم!‏

    وأهرب إلى الكنيسة. ألتفّ بشرنقة من صلاة حفظتها عن ظهر قلب.‏

    هناك من داخل الشرنقة لمحت صبيّ الكنيسة.‏

    ربما لم يكن يتجاوز السادسة عشرة. كان غارقاً في صلاة مختلفة، وبوجه مختلف. مع ذلك لم يكن مع الله. كان متوحّداً مع ذاته. ووجهه الرائق ينضح بالسؤال. دائماً كان هناك. المكان نفسه والصلاة نفسها. والوجه نفسه.‏

    مراراً قدّرتُ أنه مجرّد لوحة زيتيّة لفنان رائع، وهبها للكنيسة تكفيراً عن ذنوبه.‏

    منذئذ، وهذه اللوحة جزء من كنيستي، وجزء من طقوسي، وواظبتُ على الصلاة.‏

    هل كانت صلاتي نوعاً من الهروب؟‏

    لا أدري... كل ما أدريه أن الصلاة كانت ضرورية بالنسبة لي.. كانت تردم بعض الفجوات في ذاتي التي لم أستطع الإحاطة بها يوماً.‏

    مرّة انتابتني قشعريرة وأنا أكتشف أنني بدأت أتعمّد العبث بكلمات الصلاة. مثلما أتعمّد مخالفة الطقوس. أصبحت استمرئ تزييف الواقع وتزييف الأحداث، أرسمها بشكل مختلف، وكما أريد.‏

    لم تكن الرسوم منضبطة ولا واضحة، كانت ضبابيّة وغير منسجمة. مع ذلك أحتفظ بها أراكمها في ذاكرتي، وأخفيها عن الجميع.‏

    ويراودني القلق.‏

    أحياناً أقول: لا عليك يا امرأة.‏

    وأحياناً أصرّ على تكثيف نفسي في كذبة ما. قد يضبطونني وأنا أكذب فأتألم.. لماذا يصرّون على ضبطنا؟!.‏

    آه كم أنا متعبة.. متعبة.. يارب كيف ابتليتني بذلك الشيطان؟!‏

    في غمرة صلاتي بحثت عنه، اكتشفت أن الكنيسة ناقصة بدونه، كان ثمة فراغ، وأمعنتُ في الصلاة.‏

    شعرت بخوف غامض، لم أستطع الإمساك بيد الله، ولم يقترب الله أكثر ليمكنّني من يده.‏

    كان ثمة مسافة تفصلنا، مسافة ما، بحجم الصبيّ، نعم بحجم صبيّ الكنيسة.‏

    وبحثتُ عنه بالطبع. ولكن كشيء يخصّ الصّلاة، ويخصّ الكنيسة.‏

    لكنه كان شيئاً مختلفاً.‏

    أجل... كان مجرّد آدمي هجر الكنيسة وإلى الأبد. ذلك ما اكتشفته متأخراً.‏

    في البدء، وكالممسوسة توجّهت بكليّتي إلى وجهه الرائق، فتململ واختلج.‏

    اعترفت له بذنوب لم أرتكبها، وغفر لي.‏

    لم أشعر بالحرج، كنت كمن يتعامل مع حلم. وبالتالي لم أجد ضيراً في الاسترسال حتى النهاية.‏

    مراراً وددت لو أسرقه، لو أهرب به، حاولتُ لم أستطع.‏

    فيما بعد اكتشفتُ جنون المحاولة، مثلما اكتشفت كم كان الحلم خادعاً.‏

    من عاش خيانة الحلم ولو لمرة واحدة؟؟‏

    -هــــــــو-‏

    كمهرة جموح لا زالت تندفع نحو آفاق مسدودة. ثم ترتدّ، تجترّ خيبتها، تنكفئ كفرس عجوز مطأطأة الرأس، وعيناها المثقلتان بالحلم المكسور تتعريّان وتفضحانها ضمن شبكة العلاقات العنكبوتيّة.‏

    وعواؤها المكبوح ينزّ من جلدها، ينسلّ من فراش زوجها، ويختلط بهلاميّة الحلم، كرقعة سوداء في ثوب أبيض.‏

    ... لم يعد الرجوع ممكناً.. المجنونة.. لماذا لا تريد أن تفهم ذلك؟!‏

    حتى صديقتي لا تريد أن تفهم، ولا تزال تدير ظهرها في محاولة للنوم.‏

    منذ حين كنت أعترف لها، كانت تقاطعني حيناً لتعبّر عن دهشتها، وحيناً لتستوضح، وأحياناً تهزّ رأسها موافقة. قد تشرد عيناها، تنفلتان باتجاه ما، وتتحدّثان على طريقتيهما.‏

    ربما لم تصدّقني تماماً، وربما لم تسمعني تماماً، ولها الحقّ بذلك. فجميعنا نرفض التصديق أحياناً، بل وحتى السّماع، ذلك أننا نتدخّل دون وعي منّا، لنلوي عنق الحدث أو الحكاية إلى الاتجاه الذي نريده نحن.‏

    لعلّها الآن تصوغ الأحداث بشكل آخر، لعلّها تفكر بطريقة خاصّة، بشيء ما، بحدث ما، أو بنهايات أقلّ دراميّة، أو أكثر... من يدري؟؟‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()