بتـــــاريخ : 11/18/2008 5:45:01 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1236 0


    الأخرق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ظافــــر الـنجــــــار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الأخرق ظافــــر الـنجــــــار

     

    لايدري لماذا يرتبك كل هذا الارتباك عندما يدخل إلى مكتب معلمه لشأن أو لآخر.‏

    جسده الفتيّ، والذي هو موضع زهوه، يتحوّل هناك إلى كتلة رخوة غير منضبطة، وحركات خرقاء.‏

    حتى أن المعلّم وصفه ذات يوم بالأخرق.

    يومئذ، وعلى الفور، تضاحك مساعدوه بضحكات رسميّة مناسبة للموقف.‏

    وانتشر اللقب الجديد بسرعة كبيرة، حتى السابقون بنيل ألقاب مشابهة أو أسوأ، استقبلوه بمرح متكلّف، معتبرينه ضربة معلم حقّاً، وراحوا يتأمّلون زميلهم الأخرق بفضول، لكأنهم يرونه للمرة الأولى. ويستغربون كيف أنهم لم يكتشفوا خرقه رغم مثوله أمام أنوفهم، بل إن أحدهم، وكان يلّقب بالصعلوك، تجرأ على غير عادته وقال له بعد فترة من التأمّل الغبيّ الذي يحاول أن يتذاكى:‏

    حقّاً إنك أخرق!‏

    وراح يغرغر بضحكة بليدة، مما استجرّ سلسلة من القهقهات المجّانيّة، التي لا يُعرف لها باعثاً على وجه التحقيق.‏

    ... ودوّت الصّفعة، حادّة شرسة، وبسرعة فاجأت حتى صاحبها، وجرى خيط متقطّع من الدم من فم الصعلوك، مع همهمات غامضة وذاهلة، وسط دهشة الجميع.‏

    استيقظ الأخرق إثرها على أسف داهم وحارّ يأكل عينيه، وراحت نظراته تتعثّر وترتطم بالعيون المحدّقة به، إلى أن استقرّتا بعتاب وجل على وجه الصعلوك المتشنّج، والذي كان بدوره يتأمّل وجوه الآخرين لكأنه يسألهم: ماذا أفعل؟‏

    لكنه ما إن رأى الدم حتى بدأ يغمغم: دم؟! دم أيّها السافل؟! وراح يعربد ويتحرّك في مكانه كنابض مكسور، يستعدّ لوثبة فات أوانها.‏

    تمنى من كلّ قلبه أن يمسكوه قبل أن يضطر لإستجرارالمزيد من الإذلال، في معركة خاسرة مع الأخرق. لكن عينيّ الأخرق الواجمتين شجّعتاه على المغامرة.‏

    - تعال إذاً.. على أحدنا أن يدّق عنق الآخر.‏

    قال ذلك، ووثب وثبة متردّدة، أمكن لجمها من قبل الآخرين بسهولة. فانطلق لسانه يقذف الشتائمْ اللاذعة والسّباب من فوق أكتاف زملائه، ويتوعّد ويتهدّد الأخرق، الذي كان قد وضع يديه في جيبي بنطاله، وخرج.‏

    كان ثمّة شعور ممضّ بالخزي، يكوي الأخرق، وهو يتذكر كيف يبتلع الإهانة هناك، ليتقيأها هنا على وجه زميله.‏

    وفكّر: سيغفر لي الصعلوك.. أعرف ذلك...‏

    وابتسم، وهو يتصوّر وثبة الصعلوك المتردّدة، التي كانت تهيب بالآخرين أن يلجموها قبل أن تضطر للجم نفسها.‏

    ".. لا أحد يولد صعلوكاً أو أخرق." غمغم بذلك، وراح يسترجع صورة الصعلوك، التي لم تستطع أن تضيف لبراءة الطفولة المطموسة سوى الخوف المتراكم، الخوف من كل شيء، وبالتالي الإنقياد السهل لأيّ كان، ولو ضدّ نفسه، كطريقة وحيدة للدفاع عن تخوم غير معروفة لذات منتهكة باستمرار.‏

    وتذكّر بمرارة كيف أنه هو نفسه على طريق الصعلكة.‏

    وفكّر بأسى: اليوم أخرق... وغداً الله وحده يعلم ماذا يمكن أن يصبح.. قد تكون ثمة خراقة، لا أردي كيف أصف هذه اللّعينة.. دائماً تنتظرني هناك... في المكتب الفخم.. في عينيّ المعلم الباردتين.. في وجهه المترف السمين.. في كل ما يمت إليه بصلة... مراراً فكّرت بالإبتعاد.. ولكن إلى أين؟‏

    أمام عيني فاطمة أزهو كالطاووس.. أثور لأتفه إهانة يمكن أن توجّه لي. "الكرامة تعادل الوجود يا فاطمة." وتومئ عيناها بحب أن: نعم.‏

    "لكنه الخبز يا فاطمة"‏

    - قهوة يا أخرق.‏

    "الصوت اللعين يتسلّل من الغرفة الأفعى.. سأجهد لئلاّ أبدو أخرق... أيّ عمل تافه هذا؟!‏

    قالوا: أنت محظوظ، وصدّقتهم، بل إن أحدهم قال موبّخاً إياي على تضجّري، ومشيراً إلى خطورة شأن عملي: حاجب الأمير أمير" حاولت أن أقتنع بذلك، متجاهلاً أن التعبير الصحيح هو"كلب الأمير أمير." لأكتشف فيما بعد، وبوضوح، أن كلب الأمير هو مجرد كلب لا أكثر.‏

    - القهوة يا حمار...‏

    صوت المعلم جاء ثانية ليثقب رأسه. أحس بطنين حادّ ينخر صدغيه، وبدأ وجهه يلتهب.‏

    كانت القهوة قد بدأت تفور وتندلق، وكانت يداه المرتجفتان تتحركان بخراقة.‏

    أخيراً نجح فقط بإطفاء النار. ومضى بأصابعه الملّوثة إلى مكتب السيد المعلم.‏

    لم يكن يعرف على وجه التحديد ما الذي يريده.‏

    وعلى الأرجح كان ينوي طلب إعفائه من عمله هذا بأيّ ثمن، ولو بشيء من الرجاء المكسور.‏

    لكن دواراً عاصفاً أطلّ من فرجة الباب، ومن وراء الطاولة، ومن عينيّ المعلم، واختلطت الكلمات والصور. لا أحد يدري بالضبط ما حدث، لكن الصراخ المسعور للمعلم، وهرولة مساعديه، أوحيا بأن كل شيء محتمل وسرت رعدة بين الجميع، واستنفرت كل أعصاب الزملاء الذين احتشدوا من بعيد، وراحوا يصيغون السمع، ويسترقون النظر، ويهمهمون، في حين كان الصعلوك يفرك أصابعه بعصبيّة واضحة، ويجرجر جسده المضطرب من زاوية لأخرى ويدمدم: المعلم ليس صعلوكاً عادّياً.. ليتني قلت ذلك للأخرق.‏

     

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الأخرق ظافــــر الـنجــــــار

    تعليقات الزوار ()