آخ لو كان لي جناحان قويّان لأطير خلفه كقذيفة، وأركله بكل قواي، وأرسله مع سيارته إلى جهنم.
كنت أمشي على الرصيف، ولا أذكر كيف ومتى جذبني زفت الشارع هذا، الحقّ على تلك الكلبة. أخذت ما تبقى من عقلي واختفت. مع الإعتراف بأن عادة الشرود هذه ليست جديدة عليّ، مع ما تسببه لي من إرباكات وشتائم.
أذكر جيّداً كيف كان المعلم يشدّني من أذني ويقول:
انتبه يا....
حتى أبي -رحمه الله- لم يتوان لحظة عن تأنيبي كلما شردت، بدايةً كنت أستاء، أحزن، ثم أَلِفت الأمر، بل بتّ أمدّ لساني خلسة لأبي وللمعلم ولشتائمهما، لأعود بعدها إلى شرودي، وإلى أحلامي التي سرعان ما أجد من يتسلّط عليها ويفسدها، لتتحول إلى ما يشبه الكوابيس... ويوقظني صوت أبي أو المعلم أو السائق وهو يزعق في وجهي: انتبه يا...
لست بصدد الشكوى، بل لست واثقاً من أن أحداً سيسمعني حتى النهاية، إضافة لكون ذلك غير مفيد البتّة، تجربتي علمتني...
- انتبه يا...
أعوذ بالله، دائماً تصفعني هذه الـ "انتبه يا..."
اللعنة على تلك الكلبة التي لخبطت أمري، واللعنة على هذه الشوارع التي لا نهاية لها.
شارعان فقط كنت قد حافظت عليهما، وحفظتهما غيباً، فمن المعمل إلى بيتي، ومن بيتي إلى الفرن، كل الشوارع الأخرى شطبتها من خارطة عمري.
في الشارعين المذكورين قدماي تجرّانني بسهولة، سواء أحضر عقلي أم لم يحضر...
"... كيف اختفت تلك الكلبة؟!"
كنت أقف باطمئنان مع الكتلة اليومية للواقفين أمام الفرن، يحشرونني، أحشرهم، ونتقاسم ضجر الانتظار وقسوته، حيث لا أحد يستطيع مقاطعة انتظار الخبز.
أَلفنا ذلك، بل وأَلِفنا أن يتبادل البعض، ومن فوق رؤوسنا، الشتائم والكلمات القذرة والإشارات الساقطة، وقد يتشاجرون، فينفرط عقد نظامنا الهشّ، في محاولة لتفادي الضربات الطائشة.
هناك تعرّفتُ عليها.
في الواقع لم أتعرّف عليها، لكنه التكرار، المهمّة اليوميّة التي جعلتنا نعرف بعضنا دون حاجة لمعرفة الأسماء أو الألقاب...
طويلاً نقف، وطويلاً أشرد. "... أهدم حيّنا القديم بأكمله، أبنيه من جديد، وكأجمل ما يكون، أعيد صلاتي بالعالم، أستبدل نظام بيع الخبز، أستبدل أنظمة كثيرة أخرى بأجمل وأيسر..." إلى أن يدفشني هذا، أو ذاك فأنهدم، وينهدم كل ما بنيت، لأبقى فقط مع هذه الكتلة البشريّة الرخوة، ومع انتظاري، إلى أن وقفت تلك المخلوقة أمامي.
إحساس ما راودني بأنها مارست خلسة هروباً أنثويّاً ما. وشعرت بأنها تحتمي بي، تسلم ظهرها لي، وتقف شبة متوجّسة، فهجست: أرجو ألا تكون حمايتها مكلفة." مع تذكّر أنني من زمان حجرت على نبلي وشجاعتي. حيث أنني تورطت أكثر من مرّة، ودفعت أكثر من ثمن، ثم تعوّدت أن أحجم، أن أهرب من المشاكل، ومن إلحاح وجداني في عالم بلا وجدان.
أغمض عينيّ وأقول: ليتحمّل الله مسؤولياته!
ثم استغفر الله، وأمضي مع شيء من الشعور بالخيبة والإنكسار... المخلوقة استقرّت أمامي باطمئنان، في حين انهمكت عيناي بدراسة تفاصيل ظهرها..
".. شابّة بشعر كستنائيّ مرسل حتى الكتفين، وروب بسيط نظيف وطويل، مقلّم بالأبيض على أرضيّة سماويّة، و...."
حاولت أن ألجم المزيد من نظراتي التي بدأت تتخابث، مذكّراً نفسي بأننّي تنطّحت لحماية هذه الأنثى، مما يُلزمني بشيء من الشهامة، وبكثير من العفّة.
ثم فكّرت بأن ذلك يمكن أن يكون مجردّ ادّعاء فارغ لا أصل له، ومن ثم لا حاجة لأن أجعل من نفسي حارساً دون كيشوتيّاً بليداً.... أفكار وتصوّرات وتساؤلات وأحاسيس عدّة، اصطرعت في دماغي، ثم سقطت جميعها عندما احتكّ جسدانا.
اضطربت، وتسمّرت في وقفتي.
"مجرّد صدفة لا أكثر." حاولت تأكيد ذلك لنفسي، لكنني، ودون أن أدري رحت أتصيّد الصدف، أو على الأصح أصنعها.
تململتْ في البدء بما يشبه الإحتجاج، ثم لفحتني عيناها بشيء من العتاب، فأفهمتها عيناي بأنني مثلها ضحيّة ملابسات لا ذنب لي فيها، وهدأت الأنثى.
لا أدري بالضبط كيف عبرنا جسر الصدفة، كيف تركنا أحاسيسنا تحرق شيئاً فشيئاً كل تحفّظاتنا، فاللّعبة راقت لنا أخيراً. بدت أكثر من مسليّة وسط كل هذا الضجر.
إذ صار انتظارنا أقلّ وطأة.
قد تسبقني أو أسبقها بقليل إلى محطة انتظارنا اليوميّة تلك، تشدّنا رائحة الخبز والشهوة الحرام.
ودائماً تتلكأ، أتلكأ، نضبط خطواتنا إلى أن تيسّر لنا أن تقفَ وأقفَ خلفها مباشرة، أشمّ رائحة الشعر الكستنائي، وأتأمّل الروب السماوي البسيط المقلّم بالأبيض، وأختلس الإلتصاق بها، وأغمض عينيّ "... أطير بها ومعها نحلّق كسنونوتّين في سماء ربيعيّة صافية، ومن الأعالي ننزلق بأجنحة رهيفة، إلى أكمة ما، إلى خضرة تعبق برائحة المطر الثمل والأرض الشبعى، في عالم رحب وجميل وشفّاف..." إلى أن تكسر الأرغفة الساخنة ذاك العالم.
اليوم عطل فنّي طارئ أغلق الفرن ليوم واحد.
أشرت لها أن تعالي نبحث عن آخر. ومشيت شادّاً إياها بعيني المحرورتين.
تبعتني بخطى مرتبكة بادئ الأمر، ثم بخطوات أكثر ثقة. لا نستطيع السير سويّة، فهذه البلدة تستطيع تحمّل كل شيء، حتى أن تصفعها على قفاها، لكنها لا تستطيع أبداً أن تتحمّل رؤية رجل وامرأة يسيران سويّة كعاشقين.
لا يهم.. فها نحن نسير، وها هي الطرقات تتعرّج.
وهاهم الناس يطأطئون رؤوسهم ويسيرون بلا عيون، والسيارات تشفط وتوزّع الشتائم.
ما لنا ولهذا؟ علينا فقط أن نجد عشّاً ما، وليكن جداراً مهدّماً، مقبرة، مأوى ما، بضعة أشبار من أرض الله الواسعة تكفينا.
... حتى الآن هذه الشوارع والأزقّة اللعينة لم تفضِ إلاّ لشوارع وأزقّة أخرى.
".. إلى أين؟" قالت عيناي وأنا أتطلّع خلسة إلى الخلف. وخزتني عيناها بذات السؤال الملحف: إلى أين؟
فهربتُ بعينيّ إلى الأمام. إلى البعيد المزروع بالبيوت المتراكبة والأزقّة المليئة بحياة رتيبة وباردة. وخطر كلب أمامي. كان وحيداً مطمئنّ الخطوات. رمقني بعينين كسولتين، وتابع سيره.
رماديّ اللون ببقع بيضاء تميل للدكنة المغبّشة بسبب اتّساخها الواضح، ربما كان يتمرّغ منذ قليل مع كلبة ما فوق مزبلة ما، من يدري؟
رمقني ثانية، فها أنذا أسير خلفه تماماً، وخلفي تماماً تسير المرأة.
نبح الكلب بهدوء وراحة بال. وتابع طريقه. تفقّدتُ المرأة ثانية وثالثة، وعيناي تقولان لها: ".. طوّلي بالك.. سيفرجها الله."
كانت ثمّة علاقة ما تنسج خيوطها ما بيننا مع كل خطوة، وكان التعب قد أخذ ينال منّا. مع ذلك قررّتُ أن ألحق هذا الكلب إلى آخر الدنيا.
كان الكلب يحرّك ذيله بلا مبالاة فجّة، وما أن اقتربتُ منه أكثر حتى هرّ ورمقني بنظرة شك.
أردت أن أطمئنه، أن أتودّد إليه. عجّلت خطوي قليلاً، فنبح مغتاظاً ونفر. راح يهرول بتثاقل، وعيناي تشدّانه دون جدوى إلى أن توارى عن الأنظار، وتطلّعت إلى الخلف. عيناها لم تعودا تفوران بالشهوة أصبحتا كابيتين وضجرتين.
".. لا عليكِ... يلزمنا قليل من الصبر."
ومشيت على غير هدى.. في حين بدأ اليأس البارد يتسلّل إلى عظامي، بل بدأ الشكّ يتسّرب إلى دماغي فيما إذا كنّا آدم وحوّاء فعلاً، أم مجرد حيوانين ضالّين لم يتكيفّا بعد مع كونهما حيوانين، ومع قدرهما بكل هذا الضياع.
وتحرّكت عيناي إلى الوراء باعتذار كسير.
فانطفأ وجهي، وتدلّى فكّي الأسفل دهشة.
"اختفت كلبتك أيها السيد"
وقفت هنيهة أتأمّل بحنق، الأشياء، الأزقّة الضيّقة، الأطفال المتّسخين، الشمس اللاهبة، الجدران الملطّخة، الكتابات السريّة المكشوطة، والحفر الصغيرة الشائهة في خاصرة الإسفلت، وهذا الأفق الفارغ الفارغ.
ثم ابتلعت ريقي بصعوبة، ومضيت من جديد، أبحث عن خبز اليوم، مع كتلة ما، في فرن ما