عموماً لا داعي للمناكدة... لأدعه يهرف.. سيندم.."
- إلى أين يا أبي؟
- ولم هذه النبرة؟! إنني خارج.. خارج إلى العالم.. هل تريدني أن أبقى متمدّداً كجيفة؟ أن أختنق بين هذه الجدران اللعينة؟!
- عيناك لا تساعدانك... وكذلك الروماتيزم... ثم إنك تعرّضت للضياع أكثر من مرة.
- لا عليك... لا عليك... المشي يريحني... ولن أبتعد كثيراً ثم إنني حفظت العالم غيباً.
- عالمك لم يعد موجوداً يا أبي.. وذاكرتك لا تفيدك بشيء... ألف مرة قلت لك ذلك.
"... هذا الغرّ... لأدعه يهذي.. لن يجرؤ على توقيفي كشرطي."
ومدّ خطواته المتئّدة مغمغماً بحنق: عالمي لم يعد موجوداً!
عالمي المجبول بالعرق والدم لم يعد موجوداً!! يشطبه ويشطبني لكأننا زوائد!!
... عندما اقتلعوا شجرة الصنوبر ودالية العنب، أحسّ بالقهر.. لم يستطع الدفاع عنهما.
"- أين تريدنا أن نبني؟! أننام في العراء تحت صنوبرتك وداليتك؟!"
"كل هذا العالم الواسع لا يتّسع للبناء... فقط مكان الصنوبرة والدّالية!!"
تخطى عتبة المنزل، ورعشت عيناه، كانت أشعة شمس نيسان الناعمة تداعب وجهه، ونفحة ربيعيّة رطبة تهبّ بلطف باعثة في جسده ارتعاشة لذيذة.
"... أيتها الجراء، يلزمكم الكثير لتتعلموا تذوّق الحياة... حبّها.. احترامها.. نحن لم نتعرف عليها ككلمات مكرورة باهتة ومستهلكة، عشناها، عشناها لحظة بلحظة، كبرنا فيها ومعها، والآن لا تنتظرون منا إلا أن نموت بضربة شمس، أو تحت عجلة في الشارع... أو.. أو ...
أولادنا يرثوننا قبل أن نموت.. آه، لماذا باتت الحياة أكثر قسوة وأقل عدالة؟؟"
مسح جبينه المعروق بأصابع مرتجفة، وحاول أن يتأمّل الأفق البعيد. ثمة غشاوة تلفّ العالم، تخلط القريب بالبعيد.
فرك عينيه وهجس: لا تخذلاني كثيراً.
كانت الأشياء تهرب بألوانها، بأحجامها، بتفاصيلها.
وفكّر: لن تستطيعوا الهرب بعيداً، أمسكت بكم من زمان، صوركم محفورة في رأسي. كثيرة هي الأشياء التي بت أنساها اليوم أما أنتم... لايمكن.. فعند كل منكم ذكرى، حلم، فرح مسروق، غصّة، هناك تحت شجرة الكينا التي لم أعد أراها، هناك بالضبط على مبعدة مئة متر إلى اليمين. جاءت إليّ... هكذا.. ارتمت عليّ وهمستْ بصوت متوترّ لزج: هسْ.
لم يكن ثمة فاصل بين حمّى الدهشة وحمّى الحرمان.
وضجّت حمّى الحب، أزّت في جسدينا، برقت للحظات، ثم همدت، ثم.... بعد أشهر قليلة ماتت، واروها بحفرة جاهزة غير مناسبة. مررت بها، بكيت وهمست لها: شممت بك ما يشبه رائحة موت أخّاذ...
يا رب ما أنفذ رائحتك! أكنت تعرفين أنك ستموتين؟!"
.. يارب، لكأننا جزء من تاريخ مشكوك فيه!
من سيسجّله بأمانة؟ من سيحترمه؟ وكيف سيصبح معناه؟ مذاقه؟
أيام زمان، عندما كانت تضيق بي الدنيا، كنت أتمدد قرب أشجار الزيزفون، أغمض عينيّ، وأفتح رئتيّ وقلبي، وأستريح. الآن، لازيزفون ولا سواه، اقتلعوهم، مع ذلك بقيت روائحهم تنفذ حتى الأعماق.
مجانين... يقولون: أنت تشمّ رائحة ذاكرتك فحسب!
.... وتسمّر في مكانه.
لفحه زعيق مفاجئ لسيارة مجنونة، مع شتائم لا ذعة، وضحكات مختلطة وماجنة.
كادوا يهرسونه.
مسح يديه المعروقتين بجنبيه كمن يتحسّس وجوده، وغمغم:
يا أبناء آوى!!
ولوى عنقه بانكسار، فلمحني.
عرفني على الفور..
حدّق بي منشباً نظراته المغبّشة، وغمغم بصوت جارح:
لماذا تريد قتلي؟!
ألم تجد لي نهاية أفضل من هذه؟!
.. ارتبكتُ كمن ضُبط بفضيحة أخلاقيّة قذرة، ورحتُ أتعثّر بمأمأة لا معنى لها.
حقيقة خطر لي ذلك، إذ ما الذي يمكن لأيّ كاتب أن يفعله مع شخصيّة تتمرّد على قلمه وتفلت من يده؟
لم أعد أعرف ما أفعل به، لم أقصد قتله بمعنى القتل، بل أردت أن أجعل منه شهيداً بمعنى ما.
حدّق بي بدهشة واستنكار، ووجهه المتغضّن يذكّرني بعد فوات الأوان بأن دخيلتينا عاريتان كلٌ قبالة الأخرى. فخجلت، واستسلمت لحالة من العطّالة الجسدية والذهنية، خشية ارتكاب خطأ آخر. فضيحة أخرى... بينما كان أكبر من أن يحتمي بالعطالة، فتركته يجرّ أحاسيسه المختلطة، وجسده المنهك، ويمضي على غير هدى، حاملاً عالمه الخاص على ظهره، في حين اكتفيت بتلويحة حب معتذرة لم يرها، ومضيت تاركاً إياه وشأنه، يفتّش كعادته عن دروب لم تعد موجودة، وذاكرته الخضراء تنوس تحت ثقل عقود عدة من السنين المليئة بكل ما يذكّر بحياة آفلة