إلى ضحايا العدوان الإسرائيلي في قانا وكامل الجنوب اللبناني".
بصعوبة بالغة تحاول النهوض من السرير، تجرب ذلك ولا تقوى عليه لكن، عليك الإسراع، فنداءات زوجتك مستمرة، متتابعة، وكذلك طلباتها المتكررة لمساعدتها في تجهيز الصغير"إسماعيل". تمد لك يدها، تتطلع إليها تارة، وإلى ابنك تارة أخرى، وتود لو تنطق بعبارة، أو بكلمة، لكنك تسمعها تحييك:
- "صباح الخير"
- "صباح الخير"
تجيب بصوت متعب، ومتراخ.
أي تعب سكنك؟ وأي إنهاك سيطر على حركتك، وكلماتك؟. كنت تحس بأن جسمك مهدود، واضطربت كثيراً وأنت ترى إلى يديك وهما ترتعدان. تداري ذلك بذهابك إلى الحمام، وبحركات مرتجفة تفتح صنبور الماء.
تنظر في المرآة فترى عينيك حمراوين، تحدق أكثر، فتجد الدماء طافحة فيهما.
يتعاظم على نحو كبير ذاك الاضطراب، وتأخذ حركاتك بالارتجاف أكثر، فأكثر، وتعيش لحظات من الخوف، والذهول.
- "أما انتهيت؟" ...
- يأتيك صوتها.
أنت لا تستطيع أن تنسى ليلة البارحة، فقد احتلت تلك الصور كل المحطات التلفزيونية التي شاهدتها.
كان العدوان الإسرائيلي على الجنوب اللبناني في ذروة همجيته، وعنفه، وحقده.
وكانت "قانا" رعباً جحيمياً سيبقى عالقاً في الذاكرة. والدم في "قانا" سيسكن في عينيك طويلاً. أفزعتك مناظر الجثث، وتلك الأشلاء، وذاك النحيب غير المنقطع من الجرحى الناجين.
رأيت سماء لا سماء لها، لأنها كانت مغطاة بسحب الدخان... وألسنة اللهب.. والغبار الكثيف. والأرض كانت ساحة لأكوام الضحايا، وأكياس النايلون التي جمعت فيها الأطراف المتطايرة، والرؤوس المتفحمة، ومزق الأجساد المدماة على آخرها.
لقد كان الرعب استفزازياً أصابك في الصميم من الروح، والوجدان، لكنك، لم تكن تملك سوى التحديق في تلك العينين المطفأتين والإصغاء إلى أنين الصبي الصغير، والتفجع مع ذلك الأب الذي جن أو كاد باكياً زوجته وبناته الثلاث.
وتحصي الأسماء: النبطية، المنصوري، قانا، ومجدداً يأتيك صوت"سهى" كصدى أو رجع بعيد:
- "هيا ماذا تنتظر؟"
بخطوات متثاقلة تتجه إليها، وكان "إسماعيل" يجري من ركن إلى آخر، وهي تحاول اللحاق به تارة، وتكمل ارتداء ملابسها تارة أخرى.
- "افتحي المذياع؟.
تقول لِ"سهى":
- "الأخبار هي ذاتها الليلة السابقة حتماً".
تقول لك، ثم تضيف بنبرة متسائلة:
- "أما كفانا؟ انظر لوجهك ألا ترى عينيك كيف أصبحتا بلون الدم من سهرة الليلة الماضية؟".
تقول لها وتدير مفتاح المذياع.
كانت كل المحطات الإذاعية تنقل أصداء مجزرة "قانا"، وما جرى في "النبطية" والمنصوري" وترصد ردود الفعل المختلفة من شجب، واستنكار، وتنديد.
كما نقلت تلك المحطات، كذلك، بأن"إسرائيل" تضع اللوم على صواريخ الكاتيوشا التي تهدد الآمنين في الشمال.
وتقول لِ"سهى":
- "إسرائيل تغطي عدوانها دوماً بذريعة ما، ألا تذكرين؟ مرة تذرعوا بالوجود الفلسطيني، وأخرى بالوجود السوري، والآن بالمقاومة الوطنية اللبنانية".
وتضحك "سهى" ضحكة" صفراء" مبتورة، وتتساءل:
- "هل يريدون لبنان بدون لبنانيين حتى؟". وتقول لها:
- "إنهم يريدون السيطرة علينا بمختلف أشكال العدوان والإرهاب".
وتضيف لها، كذلك:
- "هكذا فعلوا في المسجد الإبراهيمي" بمدينة الخليل".
وتتجه نحو"إسماعيل"، وبحركاتٍ مرتبكة رحت تساعدها في وضع لوازمه.
- "جهز نفسك أنت أيضاً... لقد حان موعد باص الشركة".
منذ أشهر، وأنتَ تحمل ابنك الصغير كلّ صباح، وتمنيت اليوم أن"تعفيك" من هذه المهمة، لكنها، وما أنْ تسمع برغبتك للتو حتى تحتد بسرعة وتسألك بصوتٍ غاضب وحاد:
- "هل أحمله أنا وبطني؟".
وتقدر لها ذلك، معها الحق، تقول في نفسك، فهي حامل، وفي شهرها السابع أيضاً.
وكم حزنت كثيراً من أجلها في الليلة السابقة.
لقد رأيت دموعها، واستمعت بأسى إلى نشيجها الخافت، المخنوق، وهي ترى إلى صور الأطفال التي أضحت جثثاً محروقة ممزقة يلفها العويل، والدخان، والغبار، وكانت الدماء تلون كل الأنحاء.
وتنظر الآن في عينيها، ويصيبك رعب جديد، وفزع مفاجئ، لقد كانت عيناها طافحة بالدم.
تسبقك إلى المطبخ، تأكل بعض اللقيمات وهي واقفة، تناديك، ولم تكن ترغب في ذلك، لكن إلحاحها من أجل تلك السيكارة التي لا تكاد تفارقك يدعك تستجيب لها على الفور.
- "لا تدخن ومعدتك فارغة، وفمك جاف".
تقول لك ذلك وأنتما تفتحان الباب وتخرجان.
كان الصباح بارداً بعض الشيء وخلو الشارع من المارة، في هذا الوقت، وهذا السكون الذي يلف الأرجاء إلا من وقع خطواتكما الرتيبة... وصوت "إسماعيل" العابث يضفي على الجو إحساساً خاصاً، ومألوفاً.
تصعد معها إلى الباص، تتمتم بما يشبه التحيات لزملاء وزميلات"سهى". تحدق في الوجوه فتراها صفراء، شاحبة، أما العيون فقد كانت حمراء بلون الدماء، فتصاب مجدداً بالهلع، تترل وأنت ترتجف، وتردد بصوت مخنوق:
- إنها دماء قانا
وكان إسماعيل يلوح لك بيديه