بتـــــاريخ : 11/18/2008 5:59:51 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1311 0


    القطــــار

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمـــود زعـــرور | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة القطــــار محمـــود زعـــرور

     

    قررت أن تحيا، ونفضت عن كاهلك غبار الموت، ورائحة الزمن السحيق، في قبركما الضيق، مثل حفرة متسخة.‏

    أيقظت رفيقك الممدد إلى جانبك دهراً متصلاً، وقلت له:

    - "هيا لنخرج، إن بي شوقاً جامحاً لطرد الدم النتن من أوردتي الصدئة.‏

    قم لنعبر نحو الفرح، لنطأ هذه الشواهد المتعفرة، المتكسرة، المربوطة إلى بعضها كشارة إعدام أزلي.‏

    صدقني! أنا أتحرق توقاً ملتهباً لرؤية الأصدقاء القدامى الذين ينثرون الورود على قبرنا كل يوم، ألا تريد رؤيتهم؟".‏

    لا أحد يسمع، ولا أحد يجيب، لقد كان رفيقك الممدد اليقظ، مستسلماً لنوم أبدي، لا أمل في تبديد سطوته.‏

    وكررت المحاولة: المبادرة، لكن، دون جدوى، فالتراب الممزوج بلزوجة العطن، كان يتكوم أكداساً فوق عينيه، كما تلال التبن، والأعشاب اليابسة، تجثم فوق القمح، فتثقل عليه، وتوهنه.‏

    وحدك نهضت، وبفرح، رحت تزيل تلك الكتل الترابية التي تغطي سقف القبر، وتزيل معها العتمة الحالكة.‏

    - "لقد تأخر القطار؟".‏

    قلت ذلك، واندفعت إلى السؤال بالتياع:‏

    - "لماذا تأخر القطار؟".‏

    وكان هذا السؤال بدون جواب، والقطار لم يزل يولد في نفسك الكثير من العلامات المريحة، نفسك التي لا تتعب في البحث عن شاغلها في طرد القلق، والقلق ذباب خرافي يدوي طنينه بألم، ويثقب خرطومه الحاد، المدبب، اللحم الطري، كما الطعنة الدامية.‏

    كان القطار يأتي قبل كل غروب، وكنت تتابع بناظريك، وبكامل حواسك أيضاً، دورة الشمس النهارية، لحظة بلحظة، وببطء، ورويداً، رويداً، تختفي في بطن الجبل.‏

    وكطفل يهرع نحو أمه، تركض متسلقاً الهضبة العالية، وأنت تسمع ذاك الصفير.‏

    كان صفير القطار يضج في الفضاء، في هذا المكان المتوحد مع روحك، مصحوباً بوهج آسر، يسكب تأثيره المبهج في قلبك البارد، والصقيعي.‏

    أنت لا تعرف كنه السر الحقيقي وراء مجيئك إلى هذه البقعة النائية، فثمة أمور لم تحسمها بعد، وإن كنت على معرفة ببعض حقائقها العديدة، وكنت تدرك بأن قدومك هذه البقعة البعيدة والمقفرة هكذا وصفها ناظر المحطة إلى ناظر المحطة -لم تخضع لدرس منطقي فيه التحليل الدقيق.‏

    وكنت تجيب بهذا النحو من يسألك، -وناظر المحطة واحد منهم- ولقد وصفتهم بأصحاب الفضول المقيت، كمن يسأل عن زمن هرم. لقد رأيت، وقدرت، بأن هذا المكان كفيل بأن يمنحك المتعة المتبقية، في التأمل، تأمل الذات، والنفس، بعد غربة مضنية، دامت وقتاً ممتداً، وكبيراً، خلته قروناًً عديدة، مجهولة البداية، ونهاياتها أسرار غامضة.‏

    وللتو، صرت تستعيد سؤالاً كبيراً، لم تستعد في هذه اللحظات أن تجيب عليه:‏

    - "إلى أين تمضي؟ وما هي وجهتك التالية؟"‏

    أنت تعترف بأنك حاولت مرة الإجابة على هذا السؤال، أو، قل على هذه التساؤلات التي ستفضي إلى تساؤلات عديدة، يتناسل بعضها مع بعض لكنك كنت تفشل في التحديد الدقيق للإجابة الواضحة.‏

    أنت لا تعرف بالضبط، ما كانت عليه للتو، نواياك، وخططك، ولا تتذكر شيئاً، وكنت طوال الوقت تصرح لناظر المحطة، بأنك متعب، وتعاني الكثير من ذاكرتك، مرضك الأشهر، أو، قل الداء القاتل.‏

    وكنت تتألم كثيراً وأنت ترى إلى ناظر المحطة، وهو يحدق فيك ببلاهة غريبة.‏

    كل ما تذكره، هو، تخيلك عن القبر، وركضك غير المنقطع للتفتيش عن آخر مكان تنتفي فيه الرائحة الواخزة، التراب العفن، الدم اليابس،... وصاحبك الميت في نوم امتد وطال.‏

    وارتحت كثيراً وأنت تعقد هذه الصداقة الخفيّة مع القطار الذاهب- الآيب، وصفيره المدوي.‏

    وكما المفاجأة تسمع صوتاً حاداً فتفتح أذنيك على مصراعيهما وتنصت وتقرب رأسك إلى حضن الهضبة، وتصيخ السمع ماذا؟.‏

    ورقصت تهلل:‏

    - "إنه القطار؟ أجل. القطار.. الصغير..".‏

    ويدنو القطار منك بخجل عاشق أضناه التعب والبعد، يدنو كرجلٍ مريض تهتز أوصاله، ويرتعش، ليس من البرد أو، الخوف.‏

    وتهرع راكضاً، فاتحا ذراعيك، فاتحا عينيك، فاتحا فمك...‏

    وتطقطق العجلات، ويربط الربان حبل المرساة إلى الشاطئ/ المحطة وينزل المسافرون/ السابحون، مسافرون من كل بقعة إلى كل بقعة.‏

    وتختلط اللهجات، ويضيع الفرق بين الأجناس والعروق، كقوم عريق، متصل، تتشعب منه ألسن، وانتماءات، توحده، وتغنيه وترى نفسك في لجة هذا الموكب العارم من الأحاديث والإشارات والضحك ويملأ المكان صخب لا ينتهي

    كلمات مفتاحية  :
    قصة القطــــار محمـــود زعـــرور

    تعليقات الزوار ()