بتـــــاريخ : 11/18/2008 6:09:32 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1353 0


    أكرم الصيداوي يعود إلى نجمة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمـــود زعـــرور | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    موكب الباصات في طريقه إلى معبر "كفر فالوس" وكان "أكرم الصيداوي" في طريقه إلى هذه الدنيا.‏

    لم يكن "أكرم الصيداوي" ليهدأ أبدا، كان يحتضن بعيونه وروحه الطرقات، والجبال، والسهول، ويرنو بلهفة وشوق إلى الأشجار، ويكتشف مجددا هذا الاخضرار الذي ينتشر في كل المدى.‏

    كان يغالب هاجسين يصطرعان في داخله، ولم يكن يود الانتظار لواحد منهما دون القلق على الهاجس الآخر.‏

    كان يريد أن يسرع الموكب في طريقه بالحدود القصوى ليعجل في الوصول، ويبلغ أوج فرحه وهو يهرع ليضم بعناق خرافي ما ينتهي، كل من احتشد منتظراً هذه اللحظة منذ سنين، وبالأخص "نجمة" التي خبرت الوعود الخائبة، وتلك الأم الطاعنة في الحزن والتي سكنها الأسى وأدمنت الوجع والدموع، وكذلك والده الذي لم ينس كلماته أبداً.‏

    وكان يأمل تارة أخرى أن يبطئ الموكب أكثر فأكثر لكي لا تفوته زهرة، أو تغيب عن ناظريه شجرة سامقة، ليعيش بإحساس يعرفه جيداً، إحساس التوحد، توحد الجزء مع الكل.‏

    لقد عاش هذا الإحساس بكل التماعاته وتوهجاته، عندما عاد منذ عشر سنوات من "كراكاس"‏

    و"كراكاس" الممعنة في البعد، هيأت له غربة قاتلة، ظل يلوكها وطعم المرارة يغذي حزنه وأساه.‏

    عرف هناك معنى أن يعيش المرء مع آلام الانتظار، وقلق الترقب، يوماً بيوم بل لحظة بلحظة.‏

    لقد انقطعت أخبار الأهل طويلاً في زمن الحرب، وكان ما يولمه أكثر فأكثر مرض والده، ولوعة أمه التي بلا حدود، وتلك الوعود التي قطعها من أجل "نجمة".‏

    كان يذوي من الداخل، ويحس بالتآكل، ويشعر أن ثمة إحساساً خاصاً، وأليفاً يغادره إلى الأبد.‏

    لقد اشتاق إلى أن يتلمس بيديه اللهوفتين ولو رسالة واحدة تبقي له الأمل مشرعاً، لكن الأيام تمضي والأخبار تمعن في الغياب والجفوة المديدة.‏

    وعندما وصل بعض الأصدقاء إلى "كراكاس" وسلمّه الرسالة المنتظرة، عاش وجهاً لوجه مع الفرح.‏

    إنه يذكر جيداً أحواله المتغيرة وهو يرى ما يراه في عودته إلى "صيدا"، لكنه لم يكن يعرف كيف يوزع أحزانه ومشاعره وخساراته.‏

    رأى الخوف يتربص في كل الطرقات، وكانت مظاهر الحداد بادية في كل الأرجاء.‏

    لقد حدثوه عن أحوال القرى، وهجرة المواسم، وكيف يكون فصل الدمار والقتل فصلاً على مدار العام.‏

    وكان اكتمال الأذى والوجع عندما سمع بأخبار الغارات والمداهمات وكيف سيق بعض أصدقائه أسرى إلى سجن "الخيام" وفي سجون الاحتلال البعيدة.‏

    لقد رأى كل شيء في "صيدا" وفي قراها بعين جديدة، وعرف تماماً أن مايراه يخصّه وحده، وينتسب إليه، وبهذا الإحساس صار يراجع شريط حياته برهة فبرهة، سنوات الطفولة، ولادة حبّه لـ "نجمة"، المواسم المؤجلة، ووحش الحرب الذي فتك بالجميع، ويومها مضى إلى "كراكاس" يفتش عن وطن وعن نسيان.‏

    قال له صديقه:‏

    - "تعال معنا نبني وطننا"‏

    يذكر أنه بصق دماً وهو يجيب ذاك الصديق:‏

    - "أنتم الآن تهيؤون مقبرة جماعية".‏

    لكن، وبعد عودته من "كراكاس"، ورؤيته لمشاهد الخراب والدمار والقتل قرر أن يفعل شيئاً.‏

    ناداه والده، كان على فراش المرض، الوجه المتغضن والهرم بفعل الشيخوخة والخطوب، اليدان الصفراوان النحيلتان كأن الدم قد غادر عروقهما، العينان شبه مطفأتين، والشفتان ترتجفان بغير توقف.‏

    تأمل كل أجزاء الصورة، كأنه يستعيد ملامحها وسماتها، من كثرة ماآلمته النظرة الدائمة إليها، لكن والده لم يكن صورة قط، قال له:‏

    - "إن لم تكن رجلاً، فعدْ إلى (كراكاس)!".‏

    ثم يتابع:‏

    - "إنها (صيدا) التي أعطتك اسمها، فكن جديراً بحمل هذا الاسم".‏

    ومن يومها صار يشعر بعد كل عملية أنه صيداوي اسماً وفعلاً، وغدا الجنوب وطناً، والوطن ذاكرة، وكان الأسْر قدراً عصياً على الاحتمال.‏

    يعيش "أكرم الصيداوي" هذه الحالات، ويسترجع تلك اللحظات، وهو يترقب موعد الوصول إلى معبر "كفر فالوس".‏

    يضع يده على قلبه بعد كل معبر أو حاجز يجتازه الموكب، لكنه يطمئن، فإطلاق سراحه مع بقية رفاقه كان بعد مفاوضات واتفاقات وضمانات من الصليب الأحمر.‏

    وبالرغم من ذلك، فقد كان ينتابه إحساس امرئ يخرج من بئر بعد كل معبر يجتازه. وبدا له أن السجن كما لو أنه القعر المظلم لذاك البئر، وعندما يفكر في حياته في السجن يعتريه رعب، ويدخل في ذهول مخيف.‏

    إن انقطاع صلته مع العالم في ذاك القعر كان موتاً جحيمياً يتقطر قطرة قطرة، وكلما نزّت قطرة من هذا الموت أصابت الجسد أبلغ الإصابات، ونالت من الروح مكمن روحها.‏

    وبعدما كثرت الوساطات، وتعددت اللجان، ووصلته رسالة "نجمة" ممهورة بخاتم الصليب الأحمر أدرك يومها أنه غدا وجهاً لوجه مع الدنيا كلها، وقبض على تلك الرسالة كأنه يقبض على الحياة ذاتها.‏

    الطريق يشارف على نهايته، أدرك ذلك من تلك الموسيقا الصاخبة التي صارت تنبض في القلب المتعب، ومن ذاك الحشد الهائل الذي بدا يلوح له من بعيد.‏

    في "كراكاس" تعرف على أصدقاء كثيرين، منهم الفلسطيني، والسوري، والمصري، واليمني..، وكان معهم يجرب ويبحث، يسأل ويكتشف، وكانت أنوار "نجمة" التي لا تفارق خياله وروحه دليله في الليالي الحالكات.‏

    لكن، لن ينسى أبداً صديقه الفلسطيني "فيّاض" الذي اقتسم معه الصبر والأحزان وعلبة التبغ والفرح الباهر بوصول رسائل الصليب الأحمر. ومع "فياض" شكّل صورة كبرى بحجم الأسى والقهر للمنفى الفلسطيني.‏

    لقد لملم له "فياض" أجزاء الصورة التي ابتدأت في عام النكبة وامتدت إلى هزيمة حزيران فأيلول الأسود في عمّان إلى احتياج لبنان وحصار بيروت وخروج الفلسطينيين إلى المنافي المتناثرة. لقد كشف له "فياض" أمراً جديداً لم يكن "أكرم الصيداوي" يعرفه قبل لقائه به.‏

    كانت المراكب والسفن المبحرة من بيروت ترفض التوجه حسب إشارات وإحداثيات الخرائط، وتيمم وجهها شطر فلسطين بعناد لافت، وتمت مراجعة الإحداثيات، والتدقيق في الخرائط.. لكن النتيجة واحدة.‏

    غير أن ريحاً عاتية هبّت فجأة، وراحت تضرب الموج، فيتعاظم زبده، ويصطخب، وتنجح في تعديل المسار.‏

    لقد حدّثه أيضاً أن "بيروت" خرجت كلها تودع الراحلين عنها، وكان "أكرم الصيداوي" يومها في "كراكاس" ، وقد شاهد صور الخروج الفلسطيني على شاشة التلفزيون، وقدر حينها أن الفلسطينيين على موعد جديد مع رحلة تيه متجددة.‏

    ويدرك "أكرم الصيداوي" أن ثمّة أمتاراً قليلة فقط هي التي تفصلهم عن بلوغ معبر"كفر فالوس".‏

    يتمهل الموكب، ويتهيأ الجنود المرابطون على المعبر استعداداً لتنظيم الوصول، ويتداول مندوبو اللجان والهيئات قوائم بأسماء العائدين، وتغدو النوافذ رؤوساً ممدودة، وعيوناً تهمي منها دموع الفرح، وهي دموع ساطعة، مضيئة، تتراقص على الوجوه.‏

    وتتعالى من العائدين الهتافات والأناشيد، ونوبات البكاء، وترسم الأيدي المتطاولة أجنحة مشرعة تلوّح للواقفين عن بعد بأجمل تحية ينتظرونها.‏

    كان المشهد استثنائياً بكل ماتحمل هذه الكلمة من معنى، وهو من النوع الذي يحدث مرة كل جيل، أو كل قرن أو كل دهر.‏

    يذكر "أكرم الصيداوي" أنه يحتفظ في ذاكرته صورة استقبال سكان جزيرة "كريت" للأمير "جورج" بعد التحرير.‏

    لقد قرأ تفاصيل هذا الاستقبال في واحد من كتب "كازانتزاكيس"، وعاش مع سكان تلك الجزيرة فرحهم العظيم. لم تكفّ يومها الكنائس عن قرع أجراسها، متتابعة، مدوية، مدخلة النفس في سلام لايحدّ.‏

    هرع الأطفال إلى الطرقات، احتشد الناس، رفعوا الرايات والأعلام، غنوا، رقصوا، تبادلوا الأنخاب والضحكات، وغدت الجزيرة صورة كرنفالية براقة تجلب الرضى والمسرّة.‏

    ولم يكن المشهد هنا في معبر "كفر فالوس" بأقل منه في جزيرة "كريت".‏

    جال "أكرم الصيداوي" بعينيه وروحه الحشد الهائل من الناس، وكان المشهد كفيلاً بأن ينسيه كل عذاباته وقهره.‏

    بحر عظيم من البشر، رجال ونساء، صغار وشيوخ، رايات وأعلام تخفق في الفضاء، ترتفع، تتمايل، تتراقص، تزدان فيها الصور والكتابات والأشكال والرسوم والنقوش.‏

    مصورون صحفيون، مذيعات محطات تلفزيونية، بل وزاد في الإبهار هذا التدافع، والتلاطم، والدنو، والتداخل، واختلاط الزغاريد بالأناشيد، والهتافات بالأغاني.‏

    لقد أدرك "أكرم الصيداوي" أن لبنان خرج كله يحتضن لبنانه الآخر ممثلاً بأسراه العائدين.‏

    لكنه كان يفتش عن "نجمة" في هذا الحشد الهائل، و"نجمة" تخرج من قلب هذا اليم البشري مندفعة، راكضة، تخترق صفوف اللجان والهيئات وتفتش في الوجوه الممدودة والمتطاولة من إحدى نوافذ الباصات عن "أكرم"، الوعد المؤجل، والموسم الذي حان، تسبقها صرخاتها، ونداءاتها، ويعلن عنها بكاؤها، يراها أحد الجنود، يفكر في اعتراض طريقها، يتردد، ثم يقترب منها، ولحظة يسمع نداءات "أكرم" لها، وهتافاته من أجلها يفسح لها المجال، فتثب بخفّة نسمة أو سنبلة صوب الوجه الممدود من النافذة، ويتعانق الهتافان، ويضم النداء نداءه الآخر، فيتحدان، ويعود الفرع إلى أصله، ويدخل البريق إلى ضوئه، فتفرح صيدا وترقص نجمة.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()