بتـــــاريخ : 11/18/2008 6:24:18 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1067 0


    نقر على الذاكرة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أنيسة عبود | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

     

    قميصها الأزرق مايزال معلقاً على الشماعة.‏

    هو يحدّق بالقميص والقميص يتنهد. لقد تعب من الانتظار وتعبت الشماعة من الوقوف.‏

    ... ... ...‏

    لايدري لماذا حمل قهوته إلى غرفة النوم. أشعل سيجارة وجلس مقابل القميص بعد أن أقفل الباب على نفسه ووضع المفتاح في جيبه. "لاتشعل السجائر أرجوك، الدخان يختفي".‏

    يتلفّت حوله، يطفئ السيجارة، يسمع قهقهة النافذة "لاأحد هنا غيرك" نظر حوله. رأى صورته في المرآة، يبدو أنه نام بكامل ثيابه، حتى ربطة عنقه، ماتزال تتهدل كغصن مشلوع من شجرة عتيقة.‏

    "أهذا أنا حقاً؟"‏

    قهقهت المرآة، أدار ظهره لها، حمل قهوته وخرج إلى الصالون.‏

    ... ... ...‏

    البرد يهطل على اثنين يخرجان من باب الجامعة، الشفاه المزرقّة، الأًصابع المرتعشة، كل ذلك لايمنع من أن تتلاقى عند المدخل، أو في عتمة مصطبة الدرج. هي تذوب داخل باب خشبي كبير مزخرف بورود محفورة بعناية، وهو يتلاشى في انحناءات الشارع الضيّق.‏

    "أكره لحظات الوداع"‏

    "في القرية عندما نودع أحد الأعزاء، نتأمله إلى أن يجتاز مسافات طويلة، يظل قابعاً أمامنا إلى أن يصغر... يصغر وهو يبتعد، ويبتعد، ثم يتلاشى إما بين شجر الصفصاف أو الزيتون أوالديس الشائك. وقد ينحدر ويضيع بين منعرجات الهضاب. أحياناً نفكر بأن نركض وراءه مرة أخرى كي نحضنه ونودعه مرة أخرى، أو كي نكمل كلاماً لم ينتهِ بعد".‏

    أمالت برأسها إلى الأسفل. "هنا نفترق في لحظة. أشعر أني أتشلّع عنك"‏

    هكذا هي حواراتهما. لم تكن مبرقشة بالنظريات الجامدة. ولم يطرح أي منهما خططه المستقبلية. وقت العشاق لايسمح بالتنظير. إنها تعلم أنه ريفي، ذكي، عاش مرحلة الطفولة في قرية نائية. بعد ذلك انتقل إلى المدينة. صار أكثر أناقة من أهلها. لكنّها كانت تحسّ به حزيناً أحياناً، أو منزوياً عندما تدعوه إلى سهرة مع أسرتها في مكان باذخ، لذلك كانت تمسك بأنامله تحت الطاولة، أو تدعس على حذائه لتؤكد له أنها إلى جواره.‏

    "مروان"‏

    تناديه أكثر من مرّة، تسمعني؟ يهزّ رأسه.‏

    "مروان"‏

    "نعم"‏

    غداً.. عندما نتزوج، سنعمل معاً في الجامعة. وفي مكتب واحد. سنسافر، ونبني بيتاً جميلاً له حديقة غنّاء، ومسبح واسع يحولني إلى سمراء أمازونية "ألا تحبّ الأمازونيات؟ ".‏

    "نعم"‏

    يردّ هامساً. كأنه يسبح في خيال بعيد.‏

    "لكن. احذر، لن تراني إذا غبتَ عنّي وتركتني وحدي. سأصير سمكة. ستبحث عني، تناديني، تبكي. لا.. لن تجدني. وقد أتحول إلى -بلطية بنيّة-".‏

    "وأنا أصير الصياد. أين ستهربين منّي؟ لكن اسمعي: ممنوع السباحة. أخاف أن تراك الغيوم. ترسل حبالها وتسرقك كي ترشو إله المطر. أنت تعلمين: المال والنساء أغلى الرشاوى، وهما قادران على حلّ أي مشكلة. ممنوع أن يراك حراس المطر. ممنوع أن. وأن"‏

    ظلّ يعدد الممنوعات حتى تضرّج وجهه وجحظت عيناه وتهدّج صوته. شعرت بالخوف. كأنه ليس مروان الذي أحبّه. كأنه يحزّ عنقي بسكين.‏

    أكاد أختنق "أبعد السكين عني أرجوك". ترتعش، ترسل يديها في الهواء. تغمغم.‏

    "مابك؟!"‏

    "أريد العودة إلى المنزل"‏

    "بردانة ياروحي؟!"‏

    في الشارع العريض المزروع بشجر الجكرندا، ثمة اثنان يمشيان. المطر ينقر على الرصيف. الهواء البارد يلمّ أوراق الشجر. دعسات رتيبة تمضي بلا أصابع متشابكة. بلا عصافير تطير عند الوداع وترتمي ذابلة.‏

    ... ... ...‏

    "إنه ينتقد كثيراً. يكثر الملاحظات حول لباس صديقاتي. حول زميلاته. أشعر أحياناً أنه يعطيني درساً من خلال انتقاد الآخرين. أمي. كأني تغيرت؟"‏

    "لابأس. دائماً يحصل هذا في بداية الزواج. ترتفع أسوار. تنهدم أسوار والسرّ لم يعد سرّاً"‏

    ... ... ...‏

    حبيبتي.. سأخرج الآن. عندي محاضرة في ندوة عن تخلف المرأة العربية"‏

    "خذني معك"‏

    "لا. لا.. ألا تعرفين أسباب تخلّف المرأة؟ انتظريني. حين أعود نخرج إلى بيت أهلك..".‏

    "حاضر.. ولكن"‏

    ألقى أوامره ومضى. هي استرخت في الكرسي الهزاز، راحت تراقب التلفزيون، فرحت جداً عندما أذاعوا خبر الندوة وأعلنوا اسم زوجها "الأستاذ مروان"‏

    عندما عاد، طوقته بذراعيها. حملها. طار بها، ثم ذابا معاً تحت دوش الماء الدافئ.‏

    ماأكثر الندوات! ماأكثر التنظير!‏

    كتب يقول: حزبه التقدمي حزب يهتم بالمرأة ويحاول رفع سويتها الثقافية والمادية. و.. لأن المرأة نصف المجتمع ولها حق الحياة والحب والعلم والعمل...، كالرجل تماماً.‏

    قبل أن يخرج قال: انتظريني، لن أتأخر،...‏

    قرأت عدة مجلات. ثم أعادت قراءة محاضرته. اتصلت بصديقاتها: كلهن في العمل أوفي السوق أوفي الندوة القطرية للمرأة. تشعر بالاختناق فكرت بزيارة أهلها أو بالذهاب إلى السوق. ارتدت ثيابها. اتجهت إلى الباب، باغتها الباب المغلق المتحدي، لايوجد لديها نسخة مفاتيح أخرى. تراجعت إلى الوراء. لاتريد أن تصدق أنه أغلق الباب وأخذ المفتاح معه. حاولت مرة أخرى. عبثاً كل المحاولات إلا إذا نشرت القفل. انهمرت على أول كرسي كثوب مهمل، أغمضت عينيها، لاتريد أن ترى هذا الجنزير الحديدي الذي يتدلى من السقف ويلتفّ حولها. مشت إلى المطبخ. سمعت جرجرة الحديد وراءها. دخلت غرفة النوم، غمرت رأسها تحت اللحاف، كانت ترتعش من الخوف، عندما عاد زوجها لم تشعر به. اقترب يطوقها، ابتعدت عنه. اقترب أكثر. صار جسدها يقشعّر لملمس يديه. ظنّها بردانة، حاول ثانية أن يحيطها بجسده، ابتعدت وتناومت.‏

    ... ... ...‏

    أتعلمين؟!!‏

    كتبت الصحف عن محاضرة الأمس. ونقل التلفزيون فقرات منها.‏

    هو يتكلم، وهي تنظر إلى النافذة. تراقب المدى المفتوح، تود لو تطير. تتخيل أنها تطير لكن رصاصة طائشة أصابتها. يتناثر دمها وريشها. تنفرط دمعتها "آخ"‏

    "مابك؟ "‏

    "هل يتحول المرء إلى طائر؟"‏

    "أي خرافة هذه؟"‏

    "لماذا هي خرافة؟ الله قادر على كل شيء، ألا تؤمن بالله؟ يحول الرجل إلى امرأة أو العكس. أنت تعرف ذلك. الله يحول الإنسان المثقف، العصري، المنفتح، إلى ماضوي، مغلقٍ، والباب المفتوح إلى باب مقفول والمدى الواسع إلى سقفٍ يتدلى منه جنزير مخيف. و. فلماذا لايحولني إلى قبّرة مثلاً؟"‏

    "كأنك تحتجين؟ "‏

    "أعوذ بالله. أنا أحلم فقط"‏

    "تحلمين؟! إذن اسمعي. الباب مقفل! يعني مقفل في غيابي. لاينفتح إلا بوجودي. هل سمعت قصة فلانة؟ وزوجة فلان؟ و.‏

    "أنا لست فلانة.. وأنت لست فلاناً... ربما قرع الباب عليّ. ربما جاءت صديقة ما. أهلي مثلاً؟"‏

    لم يرد. ارتدى طقمه الأسود. وضع ربطة عنق حمراء، رش العطر وحمل أوراقه ومضى. المفتاح في جيبه. تتأمله حتى يغيب. تمشي في المنزل، لاتعرف ماذا تفعل. تمسح دموعها، حاولت أن تفتح لكنها لم تقدر. راحت الأفكار تأخذها وتعود بها، نظرت إلى أثاث المنزل. شعرت بالحسرة. هنا تشرب القهوة. هناك أغفت في حضنه. هنا اجتمع رفاقه أعضاء حزبه التقدمي. أخذت ترتدي ثيابها وتخلع اللحظات المرّة. سمعت صوت القيود ترتطم. صوت الأقفال تنغلق ثم تتصدع. صوت المنشار. صوت الباب ينفتح. صوت امرأة تهرول على الدرج. توقف أول تاكسي وبيديها محفظة يد ووراءها باب تُرك مفتوحاً للريح.‏

    ... ... ...‏

    "هنا من فضلك"‏

    ترجلت. مشت، صعدت سلالم، انعطفت، دخلت القاعة رقم واحد. من الباب الخلفي. صور ولافتات. نظريات منقوشة على القماش. نساء كثيرات ينصتن باهتمام إلى محاضرة الأستاذ مروان: حرية المرأة تقدم المجتمع.. وهي تتقدم، صوت حذائها يقرع المدرّج الخشبي، الرؤوس تلتفت إلى مصدر الصوت، الكعب العالي يهبط، يهبط، يقرع بصوتٍ رتيب، السيد مروان يتابع المحاضرة، ينقر على الطاولة احتجاجاً على الهمس المتسرب من الخلف إلى الأمام، اللغط يرتفع، المرأة الأنيقة تتقدم باتجاه المحاضر، يتجاهل اللغط، يتجاهل الحذاء الذي يحفر في الصمت وفي نظريات المحاضر وفي كلامه المرصوف أمام النساء الباحثات عن حريتهن. تمتد يد المرأة إلى لوحة مليئة بالشعارات. تشدها إلى الأسفل. تنخلع الشعارات. تسقط على الأرض. تدوسها وتتابع السير إلى المنصة. ينظر إليها بغضب شديد يتطاير من عينيه لكنه يعرف كيف يضبط نفسه كي لايتشظى، تصل إلى المنصة، تصعد، تقف قبالة زوجها، يسود الصمت المترقب، تحدق في وجهه، تفتح محفظة يدها، تُخرج القفل المخلوع، تضعه على الطاولة أمامه، تتراجع إلى الوراء، تستدير، تنقر بكعب حذائها، تظلّ تنقر، تنقر إلى أن تغيب في الممر وتتلاشى نقرات الحذاء بينما يتبقع الممشى بسربٍ من العصافير الميتة

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()