ومرت الأيام الأولى من الزواج في فرح وسرور، اشترك فيه الأهل والأقارب والأصحاب، ولكن لم تمضِ بضعة أيام، بعد أفراح الزواج، حتى تكشفت الحقائق وبان الخلاف.
فالعروس تنام إلى الظهر، ولا تساعد حماتها في شيء، فلا تخرج من غرفتها إلا لتناول الطعام، وقضاء الحاجة، ثم تعود إليها، لتحبس نفسها فيها، من غير أن تشارك حماتها في إعداد الطعام، أو تهيئة البيت.
ولما كانت الأم تحب ابنها، فقد رضيت بهذا الوضع، وصبرت، مؤملة أن يحين يوم تغدو فيه كنتها أفضل مما هي عليه، ولكن الأيام كانت تكشف عن ازدياد الكنة عزلة، وانصرافاً عن عمها وحماتها، وكأنها لا تعرف في البيت أحد سوى زوجها.
وكان الابن لا يطلع على شيء مما يجري في البيت، فهو يخرج إلى عمله في الصباح، ولا يعود إلا في المساء، وأمه لا تحدثه بشيء.
وذات يوم خرج العم كعادته إلى السوق، فاشترى شِوَاء، ورجع إلى البيت، فأخذت الحماة تعمل في غسله وتنظيفه، ولما صار الظهر، خرج العم إلى المسجد للصلاة، فرأت الحماة أن تنادي كنتها لتساعدها في تهيئة الشواء، وتتسلى معها.
فنادت الحماة الكنّة، مرة، ومرتين، وثلاثاً، فلم تسمع جواباً، فقلقت على كنتها، فدقت عليها باب الغرفة، وبعد طول انتظار، خرجت لها الكنة، في قميص النوم، وهي تفرك عينيها، ثم تمطت طويلاً، وتثاءبت، وقالت بلهجة ممطوطة:
- آوه، شيء مزعج، ماعرفت كيف أنام
فعجبت الحماة، وسألتها:
- خير يابنتي، ماذا أزعجك؟
فتمطت الكنة، وقالت:
- كنت في حلم مزعج.
فسألت الحماة بقلق.
- خير، خير يا ابنتي، احكي لي.
فتثاءبت الكنة، وقالت:
كنت شايفتك دبّة
طالعة من القبة
وأربعة شايلينك
ع التربة
فبهتت الحماة وذهلت، ولم تجد ماتقول.
ورجعت إلى المطبخ، وقد اسودت الدنيا في وجهها، لا تعرف ماذا تفعل، إلا أنها ملكت نفسها، وكتمت غضبها، ومضت تتابع تهيئة الشواء.
وبعد قليل رجع العم من الصلاة، فوجد الحماة تعمل وحدها، فسألها أن تنادي الكنة، لتساعدها، فوارت غضبها، وأخفت حزنها، وأكدت له أنها تريد أن ترتاح في غرفتها، ولا تريد أن تزعجها، فأنكر عليها العم ذلك، وأبدى رغبته في أن يرى كنته تساعدها في العمل، ففي ذلك مايسره، ومالبث أن ناداها، مرة ومرتين، فلم يسمع جواباً، فقلق وطلب من الحماة أن تذهب لتنظر مابها، ولكن الحماة تلكأت، وداورت، فمضى هو بنفسه إلى غرفتها، يدق عليها الباب، وحاولت الحماة ثنيه، ومنعه، ولكنه كان مصمماً، فقد شغل باله، ومضى يدق الباب.
وبعد انتظار، خرجت له الكنة في قميص النوم، تفرك عينيها وتتثاءب وتتمطى وتبدي انزعاجاً، وتتأوه فشغل العم، وقلق، وسألها:
- خير، يا ابنتي.
فأجابته بجفاء:
- أف، لا أعرف كيف أنام.
وأراد العم الكلام فقاطعته قائلة:
- كنت في منام، ولكن كل لحظة يأتي الإزعاج.
فعجب العم، وسألها:
- خير يا ابنتي، احكي لي.
فتمطت، وتثاءبت، وقالت بصوت يغلب عليه القرف والنعاس:
- كنت شايفتك خنزير.
معلق بجنزير
وأربعة شايلينك
ع البيت الصغير
فصعق العم، وأظلمت الدنيا في عينيه، ولم يعرف ماذا يفعل، ولكنه فضل الصمت على الفضيحة، ورجع إلى الحماة، يواري ألمه، كي لا يخجل، ولكن الحماة جابهته بالحقيقة، فاعترف، وباح لها بما قالته كنته له، فاعترفت هي بدورها بماكان معها، ثم تشاورا في الأمر، فعزما على ألا يقولا لابنهما شيئاً.
لما حضر الابن في المساء، اجتمع الأربعة على المائدة، وتناولوا جميعم الطعام، وإن كان الأب والأم لم يستطيعا في الحقيقة تناول شيء، غير بضع لقيمات، وقد لاحظ الابن ذلك في والديه، فصمت، ثم خلا بأبيه، فسأله، وألح عليه في السؤال، فحكى له الأب ماكان.
وعندئذٍ طلب الولد من أمه أن تضع له قليلاً من الشواء في رغيف، ففعلت، فجعله في صرة ثم حمله إلى غرفته، وطلب من زوجته أن تتهيأ لزيارة أهلها، فأدركت على الفور أن في الأمر شيئاً ما، فاعتذرت، وأكدت أنها ليست في شوق لأهلها، وادعت التوعك والمرض، ولكن الزوج أصر، فلم تجد بداً من الانصياع، فخرجت معه لزيارة أهلها.
واستقبل العم صهره بالترحيب، وقدم الصهر لعمه ماحمله من شواء، فشكره، ثم اجتمعت الأسرة كلها، العم والحماة، والصهر، والزوجة، وأخواتها، وإخوتها، وتنوعت الأحاديث واختلفت الموضوعات، حتى وجد الصهر وقتاً مناسباً للحديث، فتحدث، وهو يقول:
- كنت اليوم مع أحد أصحابي، وقد حكى لي ماجرى مع أمه وزوجته.. ثم سرد الصهر القصة من أولها إلى آخرها، ولكنه نسبها إلى صديق له، وكان يتبسط في الحديث، ويتوسع في التفاصيل، وزوجته تضيق به، وتتململ من حديثه، وتشكو من طول السهرة، وتدعي التوعك، وتظهر النعاس، وتطلب العودة إلى البيت، على حين كان العم يستنكر فعل تلك المرأة، الطائشة، اللعوب، ويزري بها، وينعتها بأبشع النعوت، ويلحق بها الشتائم، وبأبويها اللذين لم يحسنا تربيتها، وهو يظهر غضباً وانفعالاً شديدين، كما كانت الحماة لا تفتأ تشيد ببناتها، وتثني عليهن، وتذكر زواجهن الموفق، وأخلاصهن لأزواجهن، والزوجة خلال ذلك تنفعل وتغتاظ.
حتى إذا انتهى الصهر من حكايته سأل العم قائلاً:"مارأيك ياعمي بمثل هذه الزوجة؟". فنهض العم، وأقسم الإيمان المغلظة أن مثل تلك الزوجة لا تستحق غير الطلاق، ولو أنها كانت ابنته أو زوجته أو كنته لطلقها على الفور.
وعندئذٍ قال الصهر بهدوء:"هي ابنتك وهي طالق"، فصعق العم، وذهل، ولكنه نفى أن تكون ابنته كذلك، وثارت الأم، وثارت الأخوات، وأكد الجميع أن ابنتهم ليست كذلك، ولكن الصهر أكد لهم أن تلك الحكاية هي حكايته هو، لا حكاية الصديق، وماعليهم إلا أن يسألوا ابنتهم.
ونظر الجميع إلى ابنتهم، فصمتت، ثم انفجرت باكية، وركضت إلى زوجها تقبل يديه، وتعتذر له، ولكنه أكد أنه لن يقبل بغير حكم أبيها فيها، وحكمه فيها قد صدر، وهي لابد طالق، وقبل الأهل بطلاقها وتم التفريق بينهما.
تعليق:
تكشف الحكاية بعض حالات الزواج وانتهاءها بالتفريق، والسبب الظاهر هو كسل الزوجة وعدم قيامها بأعمال البيت وسوء معاملتها لحماتها وحميها، ولكن السبب الخفي هو عدم تلاؤمها مع حماتها وحميها، ومرجع ذلك إلى عيشهم جميعاً في سكن واحد.
إن لدى كل زوجة رغبة في أن تكون وحدها سيدة البيت، ولا قبل بوجود من ينافسها في بيتها وزوجها ومعيشتها، وهي حين تعيش مع حماتها وحميها في سكن واحد تضطر إما إلى التنازل والخضوع والتخلي عن بعض سيادتها على البيت وإما إلى اصطناع الشقاق والخصام والنكد، مما قد ينتهي بها إلى الطلاق.
والحكاية تحمّل الزوجة وحدها المسؤولية عن النهاية المفجعة، وتقدّمها في صورة سلبية مدانة، لتبرّر الطلاق، ولا تشير في شيء إلى مسؤولية أي من الزوج أو أبوية.
ولكأن الحكاية موجهة إلى البنت قبل الزواج، كي تؤكد لها ضرورة التعامل مع حماتها وحميها بما هو لائق، خلافاً لما تعاملت به تلك المرأة التي في الحكاية.
ولكأن الحكاية تخوّف البنت من مصير الزواج المخفق، كما ترسم صورة منفّرة للزوجة، لردع البنت سلفاً، قبل دخولها حياة الزوجية.
وثمة ذكاء واضح في عرض الزوج مشكلته على حميه، وهوعرض غير مباشر، عماده الرمز والتلميح، ويحمل كل المبررات الاجتماعية لاتخاذ قرار الطلاق.
والحكاية قوية البناء محبوكة بعناية، والشخصيات فيها مرسومة بدقة، وإن كانت أحادية الجانب، ولعل في هذا سرّ نجاح الحكاية، وقوة تأثيرها.
ويلاحظ أن الزوج في الحكاية هو الولد الوحيد لأبويه، مما يدل على إثارة الحكاية مشكلة مثل هذا الولد، الذي يعلق أبواه كل حياتهما عليه، ويكون أملهما الوحيد، ويزيد هذا من منافستهما للزوجة، كما يزيد بالنتيجة تفاقم المشكلة.
وفي هذا أيضاً مايؤكد دقة الحكاية في اختيارها العناصر والجزئيات، وقوة ربط بعضها ببعض، لتقود إلى نتيجة منطقية