وكان يسكن في طرف من أطراف القرية ثلاثة إخوة، أحدهم يعمل صانع منا خل، واسمه منيخلان، والثاني يعمل قزازاً، واسمه قزيزان، والثالث يعمل حداداً، واسمه حديدان، وكانت الغولة قد بدأت بهم أول الأمر، ولكن أحداً منهم لم يخرج، لأنهم كانوا واثقين أن بيوتهم لن تتهدم.
ولما لم يبق في القرية بيت إلا مرت به، والتهمت صاحبه، عادت ثانية إلى بيوت الإخوة الثلاثة، وقررت أن تلجأ إلى الحيلة، كي تلتهمهم واحداً واحداً.
وفي اليوم الأول قرعت الباب على أصغرهم، وهومنيخلان، ودعته للخروج إلى كرم التين، ليشاركها في قطافه، فأدرك أنها تتوى التهامه، فوافق على الدعوة، وطلب منها أن تسبقه، ووعدها أن يلحق بها.
وأسرع منيخلان إلى أخويه يخبرهما بالأمر، فمضى الثلاثة إلى الكرم، وقد هيؤوا كتلاً صغيرة من الطين، جعلوها على هيئة التين، ثم بحثوا عن أكبر شجرة في الكرم، وعلقوا تلك الكتل على أغصانها، ورجعوا إلى بيوتهم.
وجاءت الغولة إلى الكرم، وأخذت تنتظر وصول منيخلان، ولما تأخر عليها، ويئست من مجيئه، قامت، فبحثت عن أكبر شجرة في الكرم، وأخذت تلتهم ما تجده على أغصانها من طين، وهي تظنه تيناً، حتى أتت عليه كله.
ورجعت إلى منيخلان، وأخذت تقرع عليه الباب، فلما أطل عليها من نافذة بيته، بدأت تلومه على عدم حضوره، وتؤكد له ظفرها بالتين وحدها، فأخذ يضحك، وهو يخبرها أن ما التهمته طين، وما هو بالتين، فتنبهت إلى حماقتها وغفلتها، وأخذت تهدده وتوعده، وتطلب منه النزول إليها، وإلاّ، فإنها ستنفخ على بيته حتى تهدمه، فسخر منها وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".
وأخذت تنفخ على بيته، ولكنه بيته لم يتهدم، لأنه مبني من النسيج الذي يصنع به المنخل، وكله ثقوب وثغرات، الريح تنفذ من خلاله، ولا تؤثر فيه.
وفي يوم آخر قرعت الباب على الأخ الأوسط، وهو قزيزان، فخرج لها، فدعته إلى الحقل، لالتهام الخيار، فوافقها على الدعوة وطلب منها أن تسبقه، ثم أسرع إلى أخويه يخبرهما بالأمر، ومضى الإخوة إلى الحقل، فقطفوا الخيار كله، ووضعوا بدلاً منه الكوسا، ثم رجعوا إلى بيوتهم.
وقدمت إلى الحقل، وأخذت تنتظر، ولما تأخر عليها قزيزان، ويئست من حضوره، قامت، فالتهمت كل ما في الحقل من كوسا، وهي تحسبه خياراً، ثم مضت إلى قزيزان وأخذت تقرع عليه الباب، فأطل عليها، من نافذته، فبدأت تلومه على عدم حضوره، وتؤكد له أنه خسر كثيراً، فأخذ يضحك، وهو يخبرها أنه جنى الخيار كله، وأن ما أكلته ليس خياراً، وإنما كوسا.
وثار الغضب في نفس الغولة، وطلبت من قزيزان أن ينزل إليها، وإلاّ فإنها ستنفخ على بيته حتى تهدمه، فسخر منها قزيزان، وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".
وأخذت تنفخ على بيته، ولكن بيته لم يتهدم، لأنه مبني من القزاز، يصد الريح، ولا تستطيع أن تؤثر فيه شيئاً.
وفي يوم ثالث قرعت الباب الأخ الثالث، وهو حديدان، ودعته إلى الغابة، لقطع الأشجار، وصنع الحطب، فوافقها، وطلب منها أن تسبقه، ووعدها أن يلحق بها.
وأسرع حديدان إلى أخويه يخبرهما بالأمر، ومضى الإخوة الثلاثة إلى الغابة، اقتطعوا بعض الأشجار، وصنعوا كومة من الحطب، قعد حديدان في داخلها، وقام الأخوان بحزمها بالحبال، ثم رجعا إلى البيت.
وقدمت الغولة إلى الغابة، فرأت كومة الحطب، جاهزة محزومة، ففرحت بظفرها بها دون حديدان، فحملتها على ظهرها، ومضت بها نحو بيتها، وفي الطريق أحست بثقلها، ولكنها عللت ذلك بكبر الكومة وكثرة ما فيها من حطب، ثم أخذ حديدان يخزها بمسلة في يده، فتتحمل الوخز، متوهمة أن أعواد الحطب هي التي تخزها، ومضت على الفور إلى بيت حديدان.
وكان حديدان قد قطع الحبل الذي حزمت به كومة الحطب، وأسرع إلى بيته، فلما قرعت عليه الغولة الباب، وأطل عليها من نافذته، فأخذت تلومه لأنه لم يحضر إلى الغابة، وتذكر له ظفرها بكومة حطب، وتؤكد خسارته، فأخذ يضحك منها، ويذكرها بالوخز وثقل الحمل، ويؤكد لها أنه كان مختبئاً في كومة الحطب.
وعندئذ غضبت الغولة غضباً شديداً، وطلبت إليه النزول، وإلاّ فإنها ستنفخ على بيته، لتهدمه، فسخر منها حديدان، وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".
وأخذت تنفخ على بيته، ولكن بيته لم يتهدم، لأنه مبني من الحديد، والريح لا تؤثر فيه، وكانت الغولة في غضب شديد، فظلت تنفخ طويلاً طويلاً، إلى أن انفجرت وماتت.
تعليق:
حكاية طريفة، فيها قدر غير قليل من التسلية والإمتاع، وهي كما يبدو موجهة إلى الأطفال، ولكنها لا تخلو من رمز جميل.
والحكاية تؤكد إمكان الانتصار على الخطر أياً كان شكله أو حجمه أو أسلوبه، إن لم يكن بالصدام المباشر، فبالذكاء والحيلة، وبالثقة بالنفس والعزيمة، والتعاون وحسن التدبير.
إن كل أخ من الإخوة الثلاثة يلجأ إلى الحيلة في مواجهة الغولة، وينجح ثلاثتهم في التصدي لها، حتى يكون لهم النصر عليها، في الوقت الذي خاف كل الرجال، واستلموا لها.
ويلاحظ أن بيوت الإخوة الثلاثة هي أضعف بيوت أهل القرية، فبيوتهم من منخل وزجاج وحديد، وأقوى منها في الحقيقة بيوت أهل القرية هي من حجر وطين. وهذا يؤكد أن القوة ليست في المادة وإنما في الإنسان، وليست في جسده وإنما في عقله.
كما يلاحظ أيضاً أن المنخل والزجاج والحديد عناصر يمكن أن توحي بشيء من الصناعة والمهارة الإنسانية في مجتمع ريفي بيوته كلها من حجر وطين، وهذا يعني بصورة غير مباشرة الانتصار للصناعة من خلال مهارة الإخوة الثلاثة وذكائهم.
ويمكن أن تعد الغولة رمزاً مطلقاً لأي شكل من أشكال القهر والظلم والقمع والإرهاب.
وعلى كل حال، يمكن أن تقرأ الحكاية كما هي في الظاهر من غير أن تحمل أي قدر من الرمز أو الإيحاء، وتظل محتفظة بجمالها وجاذبيتها وقوة تأثيرها.
ومرجع جمال الحكاية عفويتها، وذكاء الإخوة في مواجهة الغولة، وقدرتهم على تحديها والانتصار عليها، كما تلاحظ البنية الثلاثية واضحة في الحكاية.
وتبقى في الواقع حكايات الجن والغيلان من أجمل الحكايات ولا سيما لدى الأطفال، فهي تنمّي لديهم ملكة الخيال وتقوي لديهم روح التحدي، وتنزع من نفوسهم الخوف والضعف، وتزيدهم قوة.