بتـــــاريخ : 11/19/2008 8:22:11 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1147 0


    النّاي والكأس وأسرار النهر

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مصطفى فاسي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    كأسك يا حموفرغت.. املأها، أنت وحيد منذ الليلة يرافقك اثنان كأسك والناي، لا تنتظر من أحد أن يأتي.. الليل تقدم يا حمو.. يخبرك الإحساس بألا أحد منهم يأتي.. ناموا يا حمو، ناموا وسهرت وحيداً.. أنت تعرف أنك كنت دائماً إنساناً آخر مختلفاً.. لكم سخروا منك ومن أمك.. وسخروك لرعي أغنامهم وخدمة أراضيهم فحرثت الأرض بحب وأمانة.. لكنك يا حمو يا ابن العالية من تكون؟ من أين أتيت؟ أين أبوك؟ ستظل أنت وأمك مجهولين بعيدين عن الناس هنا..

    كانت لك أم قبل قليل.. كانت رائعة وجميلة، ولكنها ذهبت فبقيت وحيداً. أنت الآن وحيد في هذه الدنيا مع هذا الناي ومع الكأس.. هذا الناي أعز صديق لك منذ زمان هكذا ربّتْ عليه.. امسحه بكم يدك وامسح من جديد عينيك من الدموع ضم الناي إلى صدرك.. قبّله.. مد قليلاً بصرك.. اترك بصرك يسرح بعض الأمتار.. هذا بقربك سرير الأم.. هو الآن سرير بارد.. أمك الجميلة ها قد ذهبت وظللت وحيداً. كنت تود أن ترتل القرآن على جثتها.. أن تبيت الليلة تقرأ ولا تتوقف أبداً الدهر عن الترتيل لكنك يا حمو لا تحفظ شيئاً. أنت لم تدخل مدرسة أو كتاباً برغم بلوغك تقريباً سن الرشد.. المدرسة والتعلم موضوع آخر.. أنت لم تخلق أبداً كي تتعلم. أمك ما فكرت في ذلك إطلاقاً.. همومها يا حمو كانت أبعد من ذلك.. أمك كانت ملكاً.. كانت رائعة ملأت قلبك طول العمر بكل حنان.. علمتك أن تكون رقيقاً.. أن تحب الطبيعة وتحب الناس وتحب الدنيا..‏

    وتعلمت النفخ في الناي واتقنته اتقاناً.. وأنت الآن أمام الفراغ وأمام الناي.. يجب أن تقدم شيئاً رائعاً لأمك الرائعة يا حمو. الليلة عرس الدنيا.. اعزف يا حمو واشرب. أنت الآن وحيد رفضوا أن يأتوا.. كنت ترجو أن يتألف هذي الليلة جمع كبير ليرتل ترتيلا ويبارك روح الأم.. ولكن ها قد مر الليل ولم يأت أحد وأنت لا تحفظ شيئاً لترتله من أعماق القلب.. أنت، لا تملك إلا هذا الناي والعرس عظيم هذي الليلة.. جمّع أنفاسك يا حمو أرسلها عبر الناي حزينة.. أنت لا تملك في هذي الدنيا شيئاً غير اللحن.. كل الناس يملكون هنا كل الأشياء إلا أنت لذلك يا حمو تختلف عن الكل هنا.. هؤلاء لهم قصور وبيوت كبيرة يختبئون بها.. أما أنت فبيتك هذي الأرض الواسعة.. الجبال العالية والغابات الخضراء.. أنت يا حمو تملك أن تمد البصر بعيداً.. بعيداً عبر السهول وعبر الوديان.. أنت حين تسند ظهرك إلى شجرة العرعار الكبيرة الواقعة بظهر القرية وتمسك القصبة وترسل بصرك بعيداً ثم تبدأ العزف وأنت تحاول أن تستوحي المكان الذي جاءت منه أمك قبل سنوات تحملك على ذراعيها طفلاً صغيراً، حين تفعل ذلك تكون يا حمو قد ملكت الدنيا..‏

    أترى يا حمو هؤلاء المنكمشين على أنفسهم؟ لم يأت منهم أحد. صدموك بأعذار واهية حتى لا يأتوا.. الواقع أنك كنت تعرف أنهم لن يأتوا ولكنك حاولت.. حرام أن تذهب أمك هكذا ببساطة.. هؤلاء قرأوا حتى فقدوا حناجرهم يوم عاد الحاج ابراهيم من الحج ولم ينفع سوى عسل هذا الرجل الذي يجري كالوديان لمعالجة بحة حلوقهم.. قرأوا جميعاً وظلوا يقرأون ويأكلون مدة سبعة أيام كاملة، ولولا أن الحاج ابراهيم انشغل عنهم بعد ذلك في بحر شؤونه لما سكتوا.. قرأوا للحاج ابراهيم ولغيره أيضاً ولكنك يا حمو مقطوع من شجرة وأنت لا تحفظ شيئاً ومع ذلك فأنت تملك هذي القصبة.‏

    أمك يا حمو ماتت وها أن الليل بدأ يتقدم ولم يحضر أحد ليبارك روح الأم.. أمك يا حمو كانت أجمل أم في الدنيا، سمراء، سوداء الشعر، سوداء العينين.. في نظرتها شيء كالسحر قد يوجد فقط عند نساء الغجر اللواتي حياتهن الترحل والأسفار بحثاً عن شيء مجهول.. كانت أمك يا حمو تحب الدنيا وتحب الناس وتعبدك أنت أكثر من أي شيء آخر.. لكنها حين نزلت هذي البلدة كانت أمك يا حمو شيئاً عجباً وسؤالاً حير ألباب جميع الناس.. امرأة شابة رائعة أجمل واحدة في هذه القرية بل في كل مكان وصلته العين.. هذه المرأة جاءت يوماً.. وصلت ذات مساء، لم ينتبه الناس كيف جاءت أو من أين أتت.. كانت تحمل في يدها طفلاً كالوردة.. كانت لا تحمل شيئاً آخر في يدها سوى هذا الطفل الوردة وكانت أمه كالوردة.‏

    نظر الناس بعضهم إلى بعض في حيرة. كثيراً تبودلت غمزات الأعين.. ويمضي الوقت وتمر الأيام ويبرز الذئاب في القرية أنيابهم الشرسة وأنت حمل وديع ولكنه كان عصياً على كل الأضراس. وحين وجدوك عصية المنال بدأت تطول الألسنة التي تنفث السم من حولك وأنت بريئة.. ذنبك كله أنك كنت جميلة، وأنك نزلت على هذه القرية مصادفة في يوم ما أوانك أقبلت من عالم غامض يجهله الناس هنا.. ولكن.. آه لو عرفوك.. لو عرفوا من أنت! أنت ملاك نزل بهذي الأرض مصادفة.. وتعذبت كثيراً ! كنست حضائرهم وغسلت ملابسهم من أجلي أنا ابنك حمو ولكنك ظللت امرأة تحيا بالروح وبالقلب.. جمّع يا حمو جميع أحزان القلب جميعاً، قطّر خيوط القلب وأرسلها حزناً أبدياً عبر القصبة وأجعلها تخترق الوديان وتخترق جميع مساحات الدنيا.. عزفت كثيراً يا حمو منذ كنت صغيراً.. عزفت للوديان وللأشجار ولاغنام القرية، عزفت للفلاحين وللرعيان ولنورية الطفلة الجميلة التي كانت لا بد تقتل لو علم أهلها بنظراتها التي كانت تتبادلها معك أوقات الغفلة والتي ظلتَ تخصص لها في قلبك وعزفك مكاناً خاصاً.. عزفت لهذي الأشياء ولهؤلاء جميعاً ولكنك اليوم ستعزف عزفاً من نوع آخر.. اليوم تتجمع في القصبة كل الأحزان.. كل الذكرى وكل العزف.. هل يعقل أن مثل تلك الأم تغيب ببساطة في المجهول.. هي جاءت فعلاً من المجهول كما هو معروف في هذه القرية.. أقبلت من عالم غامض وظلت تعيش في هذا العالم حتى ذهبت..‏

    الجميع يتحدثون هنا يا أمي أننا حين أتينا كان ذلك من جهة النهر وها أنك في النهر انتهيت فكأن أسرارك يا أمي تركتها قبل وصولك إلى القرية في ذلك النهر ورجعت اليوم لتستلميها ولتعيشي معها فإذا بك صرت سراً من تلك الأسرار..‏

    جئت قصيدة شعر رائعة وستظلين قصيدة شعر أقل ما فيها السحر.. ستظل على مر الأزمان ربوع هذي القرية تردد قصتك عبر أمسياتها ولياليها المقمرة الجميلة.. سترد لك بعض جميلك أنت التي غمرتها حباً وحناناً.. سيردد الجميع قصة مجيئك وقصة ذهابك.. موتك آه.. ليس غريباً أنك تغيبين بتلك الطريقة.. لقد كان موتك يا أمي موت العظماء.. أعجب شيء أن يكون ذلك الرجل أخاك. يمكن أن يجمع القدر أخوين يختلفان بهذا الشكل.. رجل يشتعل قلبه نيراناً بالحقد وامرأة تنساب عبيراً تلتذ بتنشقه الأنفاس ظل يفتش عنك سنين وسنين فقط لكي يشفي غله.. ولا لشيء سوى لأنك هربت من عالم يملؤه الجهل وتملؤه الأحقاد.. زوجك مات وكنت تحبينه حد الموت.. لقد كان ملاكاً حدثتني عنه كثيراً..‏

    كنت كلما طال بي الليل وملأتني أشجان الدنيا التجئ إليك كالحمل وديعاً يا أمي لتروي لي شيئاً عن ذاك الأب.. لقد كان أبي. ومات في ظروف غامضة لا تدرينها حتى أنت بالضبط.. وقبل أن تنتصف عدة أيام حدادك أعلموك بمشروع زواجك من رجل كان غنياً وكان مسناً أقرب إلى القبر منه إلى الدنيا والظرف ما كان ظرف زواج فرفضت بإصرار ولكن لا من يسمع وكان هروبك.. ليس هنا لك من حل ثان.. حملت ابنك وهومت بعيداً.. بعيداً.. بحثاً عن حريتك.. ومن طفلك ذاك خلقت عصفوراً ما زال يغني لجمال الدنيا وطبيعتها.. شبابته ظلت طول حياته جزءاً منه ودواء لك من كل جراح الأيام يعزف للطير وللغابات وللحيوانات وللناس فيسحر باللحن الدنيا..‏

    ذات يوم ما زال يذكره حمو.. كان غريباً حقاً -هو نفسه ما كاد يصدق ذلك. كان يحرث أرض أحد الفلاحين وحرن الحصان وأبى جر المحراث وتوقف في الخط كئيباً ولم يشأ أن يتحرك. حمو لا يضرب الحيوانات.. هدده بالكرباج ولكن هيهات.. وفجأة ومثل الوحي جاءته الفكرة.. نعم ولم لا؟ لماذا لا أعزف له؟ هذا الحصان أعرفه مطيعاً ولطيفاً فلماذا يأبى اليوم السير.. وأخرج حمو الناي من الجيب واقترب من أذن الحصان وبدأ يعزف.. انطلقت من الناي نغمات كالسحر الجميل.. كان حمو وهو يعزف ينظر في عين الحصان وكان هذا هادئاً وكأن عينيه قد امتلأتا ماء مثل الدمع.. وأمسك حمو بالمحراث ونطق كلمة هادئة يأمره أن يمشي فسار الحصان ولم يتوقف أبداً وما كلمه حمو ثانية في ذاك اليوم..‏

    خلقت منك أمك يا حمو عصفوراً غريداً لأنها أيضاً كانت أنشودة حب رائعة فلماذا أتى من يقتل تلك الأنشودة.. من بعيد جاء خالك ذاك يحمل سكيناً يقطر سماً. جاء وفي نفسه يتجمع تاريخ حقد قبيلته.. سنوات ظل يشحذ سكينه.. لكن أمك يا حمو كانت في موتها أيضاً رائعة. لقد حرمته من لذة قتلها ولم يرتو سكينه من دمها وقفل من حيث أتى مهزوماً..‏

    فبمجرد نزوله في القرية كانت أمك بإحساسها تعرف ماذا يريد.. كان حين يحدثها يحاول أن يبعث في نفسها كل اطمئنان ولكن هيهات فأسنانه الصفراء ما كانت لتخدعها.. مثل غراب البين أتى.. جلب إلى القرية ألوان الحزن جميعاً.. وأمي من يوم هروبها كانت تعرف أنها لا بد ستقتل.. ولكن ولأجلي كانت تسعى لتمديد أيام العمر.. وأنا اليوم كبرت وها قد أقبل من يمحو العار.. فماذا ستفعل أمي هذي المرة؟‏

    حين دعاها أن تمشي معه قليلاً على طرف النهر الهادر ليحدثها في أمر هام كانت تعرف بالضبط ما الذي يقصده أخوها وهي تعرفه، ولطافته هذه ليست أبداً من عاداته. هي تعرفه شرساً كالذئب تماماً.. وهي قبل أيام تحسست سترته عندما كان نائماً فوجدت بها سكيناً حاداً ليس لقطع الأزهار.. خرجت معه.. كانت يا حمو تبحث عنك بعينيها في كل مكان.. أرادت توديعك. لم ترك وحين تناهى صوت الناي إلى أذنيها من وراء الهضبات أحست أنفاسك تدخل في القلب ومشت نحو النهر ولم تتردد. لاحظت أن كل شيء عنده كان معداً حتى أنه كان يعمل دائماً على أن يجعلها تمشي بينه وبين النهر.. مياه النهر تهدر في قوة.. هذا النهر ياما يحمل من أسرار.. قوياً يجيء من المجهول ويمضي مثلما جاء قوياً إلى حيث لا يدري أحد.. هذا النهر السر سيضيف إلى آلاف أسراره سراً آخر لكنه أجمل تلك الأسرار جميعاً.. ها قد وصلتما إلى هذا الجرف العالي.. من أعلى هذا الجرف لا يجرؤ أحد أن يرسل بصره إلى تحت ليتابع جريان النهر.. هذا الجرف بدوره الذي تملؤه الغربان حكاياته لا تحصى.. يقف أخوك يقترب من حافة الجرف ليجعلك بدوره تقتربين.. وفعلاً تقتربين ترينه وهو يمد يده إلى جيب المعطف.. ولكنك أسرع منه.. وحين تخرج يده السكين تكونين على مسافة أمتار نازلة نحو النهر فتسافرين بعيداً..‏

    قتلته يا امرأة.. لم يقتلك لقد كان جباناً لم يدخل سكينته في قلبه ورماها بعيداً في النهر وبكلتا يديه أمسك رأسه ورآه الناس يفر بعيداً.. بعيداً عن القرية..‏

    وبعد فهذي أمك يا حمو ترحل نحو نهايتها.. بدايتها كانت سراً ونهايتها سر.. وحرام أن يقرأ أهل القرية من أجل امرأة جاءت سراً ورحلت عمداً دون وداع..‏

    أنت وحدك يا حمو والناي والكأس أمامك ها قد فرغت. أملأها وأشرب ستردد هذي الليلة مليون نشيد تملأ سمع الدنيا..‏

    واصل يا حمو عزف الناي فالليل توسط. ما أجمل صوت الناي حين يسود الصمت الدنيا.. واصل لا تتوقف.. لا تهتم لأحد أبداً.. أنت الآن تسمع.. نعم تسمع خطوات تأتي من خارج بيتك هذا المتواضع.. نعم هم لا بد سيأتون.. واصل لا تنظر في عيني أحد منهم.. اترك بصرك يمتد بعيداً عبر الدنيا.. دنياك أنت التي تعرفها.. ها هم يدخلون الواحد بعد الآخر.. أنت تعرف بالإحساس من سيجيء الأول.. أصدقاؤك الرعيان والأطفال والفقراء.. أنت تعرف ذلك..‏

    واصل يا حمو.. جمّع كل الأحزان وأرسلها أنفاساً عارية عبر الناي.. خل الدنيا عرساً غجرياً لامرأة ما أجملها اليوم عروساً تتزوج نهراً وتسافر نحو المجهول بعيداً.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()