نضحك في جري سريع، نفقد عقولنا ونحن نلاحق الطائرة، ونرفع الكفوف في السماء لنتلقف أكياس السكر، والوريقات الصغيرة الملونة لم أكن أعرف القراءة لأني لم أدخل المدرسة إلى الآن.
يقرأها لي والدي ويبتسم دون أن أفهم كثيراً فأبتسم أنا الأخرى.
أتأمله دائماً وهو يقرأ الصحيفة أيام كان للصحيفة شخصيتها وكرامتها.
أراقب حدقته البنية في تحركها المستمر من اليمين إلى اليسار ثم الأسفل حيناً تلمع، وحيناً تنطفئ. وكنت أتساءل كل هذه المشاعر والانفعالات يمكن أن تسببها ورقة موشومة بحروف حجمها بحجم النملة؟
تزورني (سوسو) ابنة الجيران تشد إليها دميتها التي لا تفارقها أبداً تقول:
-لن تهجم إسرائيل.. يارب.. لاأريد أن أموت بالحرب قبل أن أتزوج...
أما أخي الذي صار زوجها بعد عشرين عاماً، قال:
-ألم تسمعي الأخبار؟ غداً الحرب، كسري الحصالة لنشبع حلويات قبل أن نموت. وقبل أن ينهي كلماته، كانت الليرات المغبرة على الأرض، والفخار تناثر قطعاً كبيرة وصغيرة، شبهته ببيت هدته الحرب، لأن الحرب في ذلك اليوم صارت هاجسي. انتظرت حتى المساء لم تحصل الحرب وبكيت على حصالتي الأثرية لا على النقود التي صرفناها في أكل الحلويات وعلى مدة ثلاث وجبات سببت لي إسهالاً شديداً.
حين بدأت أفك الحرف قررت أن أصنع من ظلي فتاة من سطور، أقرأ العبارات الحماسية فوق الجدران، وعلى الأعمدة الخشبية التي توصل أشرطة (الكهرباء).
(الوحدة طريق نحو التحرر)، (عاشت الوحدة بين سوريا ومصر).
(عاش فلان...) (سقط فلان..).
هجم الزمن، فصار للمدينة وجه آخر.. صبغت تلك الجمل حتى صار للحيطان لون الموت. وطعم الموت.
أما الطوابق الأولى من العمارات فتحولت إلى محلات مضيئة يطلقون عليها (سوبر ماركت) اغتصب الكبار ساحات الصغار التي كنت أركض، وأقفز وأدور وكل هذا بسبب التجارة. والسياحة من البلدان القريبة والبعيدة.
حتى في الساحات الصغيرة يتلاعبون بالخريطة...؟ لو كنت مازلت طفلة لتزعمت مسيرة صغيرة. وصرخت في وجه (أف) له ولكل من يملك ولداً في الحارة. لكنني اليوم لاأملك شيئاً أصرخ من أجله.
في المدرسة تقول معلمة اللغة الإنكليزية (زينب) وهي تخربش بحروف غريبة:
-يابنتي.. جملك كلها عن فلسطين..؟ مازلت فتية على الهموم، دعي قضيتها للكبار. عن ماذا أكتب حين أفكر أن أصبح كاتبة، عن عصفور فوق العش يغرد بفطرته.. عن طفل يبكي ويده فوق ثدي أمه الناصح بالحليب.. عن مريض واحد يتألم في سريره بين يدي الطبيب أم عن قصة حب عابثة في صدر القرن العشرين؟
وأجيب بـ (لا) لصرخة واحدة تخرج من ألف حنجرة.. لأقوام يرتجفون في ثلاجة ليوم جوع أو عطش يفطر عليها السياسيون ويسكرون على دمائهم.
فوق طاولة مكتبي ابتهلت بخمارها الحبري. بخشوعها على سجادات السطور كلمات القصيدة، لتخرج متثاقلة بحملها فوق فضاءات الصحيفة كالنمل الأسود حين يكد في حمل حبات القمح والسكر.
أتاني صوت من الهاتف، متعب وهادئ كصوت شاعر علمت منه بأن قصيدتي منشورة في الصفحة الأخيرة.
فرحت والفرح يتعب ويقلق. ودون أن أقف ساعة أمام المرآة لا أدري كيف سرت في الحارة بهذه السرعة لشراء الصحيفة من مكتبة حسن. قبل أن أنهي قطع الشارع وجدت نفسي كالعصفورة أطير في السماء. ويا اللّه كيف استطالت الثانية.
(لا.. لا يا رب.. لن تميتني الآن قبل أن آلامس حلمي الذي ينتظرني في الطرف الآخر من الشارع).
ونسيت أن أصلي كما يفعل الأتقياء قبل الموت بلحظة. أن أنطق بالشهادة كما يفعل المجاهدون فوق البندقية. نسيت ادريس ويوسف، والمسيح فكرت فقط في الخطوتين، وبحسن الذي ركض كالمجنون بين العشرات.. راودني ألم الرحيل حين وقع جسدي فوق سيارة الأجرة، فكرت بها قبل أن أفكر بي وتساءلت: (لماذا الفقراء هم دائماً الذي يدفعون الثمن حتى في القضاء والقدر؟!).
وهذا الرجل البائس من أين له أن يدفع ثمن دمي. ومظهره يؤكد بأنه لايملك عجلة في هذه السيارة.
تدحرجت، ألملم عن مقدمتها الغبار دون أن أكسر الزجاج. وأسقط على الأرض المبللة بالمطر.
زعقت السيارة، ساد صمت عجيب توقفت العربات كلها والنسوة توقفن عن الثرثرة للحظة صار الجميع كتماثيل حجرية قبل أن يعود الضجيج بشكل مضاعف كأنه الثورة. وأقول الثورة حتى في لحظة الموت بسبب تطفلي على الكتب القديمة الراقدة تحت أغطية من غبار. للسائق لحية فضية يظهر من تحتها جلد أسمر داكن. وصرخت بقلبي ثانية:
(دعني أعيش.. دعني أيها الرب، يجب أن يكون لموتي بطولة كما اشتهيت دائماً، يجب أن أعيش ريثما يرحل الرجل في سبيله).
أهذا هو الموت؟! حركت يدي فتحركت حركت رجلي اليمنى أخذت نفساً.. كل شيء في جسدي تحرك لا قطرة دم في فمي ولا كسر وصرخت بفرح لأن صوتي قد خرج (دعوه.. دعوه.. تابع عملك..).
رد جارنا: (أنت مصابة بنزيف داخلي. لن تشعري به الآن).
وتابع آخر: (سيتكفل بتكاليف العلاج في أحسن مشفى خاص).
تابع ثالث: (انظروا الفتاة تكاد تموت... من الصفرة).
وفي يدي المرتجفة، تجمعت قصاصات ورق (اسم الرجل أبو شفيق.. منزله في حي السجن... رقم السيارة (كذا).. رقم الهاتف (كذا..)
عجنت الأوراق ببعضها وبعرقي.. ثم تابعت قطع الشارع وفي عيون أبو شفيق نظرة امتنان، وخوف وحنين