اجتمع الرجال في اليوم الثاني بمافيهم العجائز داخل المقهى يعيدون ما سمعوه البارحة متناسين همومهم وديونهم، ومشاكلهم مع البلدية لإصلاح الشوارع، وتبديل الأضواء التالفة.
تناسوا الأخبار المحلية والعالمية والنشرة الجوية. منشغلين بحادثة الحمار الأوروبي الذي أذيع نبأه البارحة في التلفزيون وقت اجتماع الأهالي بانتظار المسلسل الذي يضم في حلقاته كبار النجوم.
ظن البعض أن الخبر على رمته مزحة، فما أكثر الطرائف التي يكون بطلها الحمار، وخصوصاً في تلك الحارات الضيقة.
قال رجل: (ياجماعة... واللّه الأجانب فهمانين، بيهتموا حتى بالحيوانات...)
قال عجوز وهو ينفخ من صدره كمية من دخان النرجيلة:
-(يا عمي.. ياهيك القضاة.. يابلا.. يرحم أبوه..)
رد ثالث وهو أستاذ محاولاً أن يصبغ كلامه بمسحة تدل على ثقافته:
(العربي عنا بطبعه عصبي.. مابينطر ع القاضي إذا كانت المشكلة بتتعلق بكلب أوحمار.. إيده والضرب).
انتظر عبود وهو أصغرهم سناً حتى فرغ كل واحد مما عنده:
(شو رايكم لو نطبق هـ الحكم على بوصلاح؟! ارتفع صوت الضحك والصخب حتى تبدد الدخان كالضباب في فضاء المقهى.
أخذ البعض كلام عبود بجدية، تناقش الرجال مع نسوتهم طوال الليل في الخلاء.
وأم غفران متحمسة للحديث عن ذلك.. تنتظر زوجها ليرجع من سفرته تضع رأسها فوق زندها الثخين وعيناها شاردتان في الساعة المعلقة. أخيراً جاء. اغتسل ولبس عباءته ثم تفرغ لها حكت له عن الحمار الذي لم يترك حيواناً من ذوات الأربعة إلا وركبه. لم يقدر صاحبه عليه، اشتكى الأهالي. وبعد يأس حكم عليه بـ (الخصي).
الرجال يفكرون بتطبيق هذا الحكم على الفران أبو صلاح الذي لم يترك واحدة من ذوات الاثنين لم يتحرش بها، بغمزة بهمسة، بلمسة حتى أم غفران لم تسلم من نظراته.
صفع كثيراً، أرض الفرن المغبرة بالطحين مسحت بثيابه. أدخل مرة إلى النظارة لمدة يومين. ولم يتب. مازال على حاله يطلب عاملات في الفرن ولكن هذه المرة من القرى البعيدة حيث لم يذع صيته.
للفران عيون من ينظر فيها من الرجال يشعر بالنعاس، مشيته مريضة تقول النسوة إنه مصاب بـ (خلع ولادة). إن شبه بشيء كما تشبه البنت القصيرة بالبطة والرجل القوي بالحصان فإنه لا يشبه بسبب احمراره المستمر إلا بفرنه الحار في الصيف والشتاء.
سافر مرة إلى تدمر أبعد منطقة في سورية عن بيته لا رغبة في التفرج والدهشة من أعمدة ضخمة غير قادر إنسان هذا الفرن على صنعها، ولكن لرؤية أطول مسافة من السيقان والوجوه المنسلقة من غليان الشمس لأجساد النسوة الأجنبيات. لم يعد يذكر كيف كان معبد (بل) ولا يعرف كيف خرج وهو يلاحق بنظراته خلفيات النساء.
ومرة اصطحب زوجته القصيرة مثله إلى ناد على الشاطئ الأزرق في اللاذقية، وأمام دهشته نسي أن يردد الكلمة التي تشعره بشخصيته (تستري). تمشي وراءه كالنعجة التي تلحق بصاحبها الراعي. بدت خجلة وهي تسقط نظرها فوق الرمل، لم تتجرأ أن ترفع رأسها في تلك الأشكال الشبه عارية. أجساد لا تشبه جسد أبو صلاح بشيء. العرق يتصبب منها حتى ثيابها الداخلية تبللت من الرطوبة، ولانسمة هواء تدخل الخيمة الزرقاء الكبيرة. فكرت لو تخلع عن رأسها الحجاب وتصنع من (المانطو) الأسود شراعاً لقارب يمشي فوق البحر إلى آخر نقطة التقائه بالسماء. وتخيلت متعة الرجفة الصيفية الباردة بعد الهلاك من السباحة.
وحين لامس خيالها منطقة الشعور، انتفضت وصلّت أن يسامحها الرب، وأمام صمتها وانتظار أن يسير الوقت بشكل أسرع دار عقرب الساعة حتى أصيب وأصاب الزوجة بالدوار.
استلقى الموج فوق الرمل، نام واستفاق ألف مرة.
أخيراً.. حضر أبو صلاح مبللاً بالقطرات المالحة لا يستره سوى سروالٍ مبقعٍ بالألوان الفاتحة - تنهدت - الآن تقدر أن تنظر في وجه أحد ما. عيناها في عينيه وعيناه في أعينهن حكت له أحاديث كثيرة، لم يفهم منها حديثاً واحداً سوى أنه يهز لها برأسه ويبتسم لها بتصنع. حاولت أن تجرب ذكاءها لشد انتباهه بحيلة. فحدثته عن الحمار سيرة البلدة. حدثته بحماس حينها خرجت من بين الشارب الأشقر والشفة السفلى كلمة ملفوفة بغمامة رمادية من دخان سيجارته (مسكين).
ثم رشف لعابه ولم يزد كلمة. ساد صمت بينهما وسط الصخب يفجّر الرأس. فزّمت فمها الداكن بحزن راحلة في غيبوبة عقلية.
قبل أن ينهض إلى عمله بالفرن وقبل الفجر بقليل صرخ وأجهش. فتحت زوجته الباب بقلق مدخلة رأسها قبل جسدها، رشت على وجهه رذاذاً من الماء البارد.
(كابوس.. ياعسلية.. احترق الفرن وزلزل من تحتي يا عسلية).
احتضنته كأم محاولة أن ترجعه إلى نومه ساعة أخرى. ولما رجع إلى شخيره بدأ القلق يلفها. من هذا اليوم تبدأ النهاية حين وقف رجل بباب الفرن الضيق وابتسم. اختفى الفران في أحضانه. شده الرجل إليه بمحبة. كان بينهما حديثٌ طويلٌ احتسيا إبريقاً من الشاي. معاً خدما في الإلزامية... ومعاً خرجا من ألسنة اللهب أثناء حرب الانتصار... اقتسما السجائر والخبز اليابس والزيتون.
طلب منه تشغيل ابنته (ريتا) في الفرن، قابل الفران طلبه بابتسامة قبول، وتعهد بشاربه الأشقر أن يكون الأب الثاني لها.
(ريتا) معشوقة عبود الضخم، الموظف في البلدية، والرسام الذي يتقن رسم الأصوات والحركات. في كل لوحة يرسمها يصنع فيها جزءاً من ريتا. الشعر الأسود كغابة هجرها القمر.. عنقها الأسيل كجذع شجرة آزرة خلف شباكه. ونهداها المرتفعان صوب السماء بخشوع. لم يمض أسبوع حتى انتشر خبر (ريتا) في العائلة حين رجعت تحت الشمس غارقة بعرقها ودموعها. وصار الفرن مثلاً يضرب على كل فتاة تنوي مقابلة أحدهم بالخفاء كان بهمس البنات ثورة صامتة انتهت أخيراً بالمصارحة.
تزعم عبود اثنين من رفاقه، مشوا بثقة وغضب في الطريق إلى الفرن. رفع عبود قدمه الطويلة ووضعها في بيت النار البارد وصرخ بأعلى صوته.
-شو بتساوي فيك الحكومة، بأي قانون بدا تأدبك...
وتابع حديثه باللغة الفصحى مقلداً القضاة:
-حكم عليك حكماً غير قابل للطعن...
ثم صمت مفكراً بكلمة مناسبة وتابع بوجه مرتبك:
-بالحكم عليك... كما حكم على الحمار.
تسلمه الثلاثة بهدوء... لم يطل الصمت حتى صرخ الرجل...
أنّ... وبكى... ثم خرّ
ذبلت الشمس، غطست في البرد، زغردت النساء ورقصت الصبايا