بتـــــاريخ : 11/19/2008 9:23:58 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1456 0


    اسمه هشام

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نزار نجار | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    من الزاوية الشرابية ينطلق صوت الأذان، أذان العصر، يتهادى الصّوت راشحاً بالمهابة، إيقاع الأنوال: تريك.. تراك.. تريك.. تراك يتوقّف.. يغيب ليسمح للمؤذّن أن يمدّ صوته حتى منتهاه..‏

    والزاوية هي بداية الدرب قبل القبو، بدايته قبل الوصول إلى أزقّة ضيّقة ملتوية، طريق "اليعاقبة" وما وراءه حتى سوق الشجرة، حمّام القاضي، وما يليه حتى الساحة نفسها، تتلوّى الطّرقات، تتباعد ثم تفترق، لكنّها لا تلبث أن تتقارب وتتعانق ثم تتقاطع وتفضي إلى الساحة هناك..‏

    طست البيلون النحاسيّ في يدك، والبقجة فوق رأسك وأنت تركض، تسبق أمّك إلى الحمّام.. من طريق اليعاقبة، تركض، تريد اختصار الطريق، ماراً بالفرن، ومحطّتك الواعدة تنتظر، محطّتك هناك أمام الجامع الصّغير، في الزاوية نفسها، الجامع الصّغير قابع في طريقك منذ الأزل.. بابه العريض المدهون باللون الأخضر يومئ إليك.. ضع البقجة على عتبته، اتركْ طست البيلون هناك، استرح قليلاً، اللّعب يحلو بين مصطبتيه الحجريتين، الردهة ذات البلاطات المربّعة تأخذك إلى فضاء الجامع، فسحة مستديرة تقابل الحرم الهادئ ثم سور قصير تطلّ من ورائه مقبرة الشهداء!.‏

    شاهدات قبور متناثرة، صامتة، ومتوحّدة.. ينخلع القلب لمرآها.. ولولا وجود شجيرات الدفلى والزيزفون، لولا وجود الدالية ذات الأذرع الممتدّة- ككائن أسطوري- في كلّ الاتجاهات لبدا المكان موحشاً.. حزيناً. على الرغم من بياض حجارته، كأنّما زاده البياضُ وحشة وبرودة مرتعشة!‏

    الزاوية تزدحم في أوقات الصّلاة، عمال النسيج والأنوال وصانعوا القباقيب والمداسات الخفيفة والنّعال الثقيلة والكندرجية وبائعوا المربّى والكسبة والحلاوة الطحينية هم قاصدوها، يصلّون الظهر والعصر، وأحياناً لا تفوتهم صلاة المغرب، أيام العمل المزدهر والمواسم والأعياد، ثم ينصرفون إلى دكاكينهم على عجل، وهم يتمتمون الأدعية ويقرؤون الفاتحة، ويمسحون على صدورهم.‏

    لم يكن هنالك أثر لعبد المنعم حين اقتربْتَ من المصطبة، ومع ذلك فقد مضيْتَ إلى الزاوية، كنْتَ تمنّي نفسك بأن تظفر بمحمود أو أكرم، أو أيّ واحد، تتابع لعتبك المفضّلة بين المصطبتين، بدت الفسحة خالية، شعرت بالخوف وأنت تقترب من الحرم الموصد بابه، طارت يمامة.. كانت واقفة. هناك. فوق الشبّاك العتيق، انتصبت شواهد القبور حزينة- مكتئبة.. ظهرت سعفات النخيل يابسة، مصفرّة، انداح في الجوّ شيء مبهم، لكنّك صمّمتَ أن تصلَ إلى المقبرة، خلف السّور، تابعْتَ بنظراتك طرفَه الحجريّ، هل تتسلّقه فتكشف ما خفي عنك؟! أليس هنالك من درب ترابية تفضي إلى الخلاء البعيد الذي يصل آخر الحارة بحوش آل الغنم، بالدبّاغة، بسوق الحدّادين، بساحة المغيلة! لكنّك توجّست خيفة من أن تقدم على عمل طائش! سمعْتَ صفيراً!!‏

    عُدْتَ أدراجَك إلى المصطبة..‏

    مررْت ببوّابة الجامع.. كان هناك هشام البحري، هشام نفسه بشقرته المضيئة وعينيه الزرقاوين، طار قلبك فرحاً، ركضْتَ إليه، وركضَ إليك، كنتما صديقيْن من دون زيارات، وهشام يسبقك بصفّ واحد في المدرسة الابتدائية، لكنّ نظافته ووسامته تأسرانك.. حديثه النّاعم العَذْب يجعلك تأنس إليه، وهو لم يكن يظهر إلاّ لماماً، وأمّك لا تسمح لك بالخروج من الدار، تخاف أن تلتقي بالأشقياء من أولاد الحارة، وهشام ليس منهم، اكتشفت أنّه يذهب مع أعمامه ليشتغل في ورشة صبّ "البيتون" ثم أتيح له أن يسافر و.. انقطعت أخباره نهائياً!‏

    قال هشام. وهو يحكّ أرنبة أنفه:‏

    -ماذا تفعل هناك؟‏

    -أ.. أريد أن أقفز فوق السور!‏

    اتّسعت عيناه الصّافيتان من الدهشة:‏

    -السّور.. سور المقبرة!‏

    -نعم..‏

    -والأموات.. وحرمة الراقدين!‏

    -وماذا في أن أقفز وأعرف ما وراء الأرض الخلاء؟‏

    -حتى الآن. لم يجسر أحد أن يفعل ذلك..‏

    سكتَّ لحظةً. ثم هتفْتَ:‏

    -هشاك. تعال معي..‏

    -إلى أين؟‏

    -إلى هناك. نجتاز السّور معاً!‏

    توقّف هشام محتاراً..‏

    ولسْت تدري لماذا رأيته هذه المرّة، يصغرك كثيراً. شعرْتَ أنك تستهين به، برأسه الأشقر الجميل، وعينيه الزرقاوين. الصّافيتين. ووقفته الآسرة. قلْتَ في نفسك.‏

    -يا له من صديق جبان!‏

    شدَدْتَ على كفّيه، أمعنت النّظر في وجهه البدري، في بحيرتي عينيه العميقتين:‏

    -أتأتي.. أم أنّك..‏

    ولم تلفظ (...) لأنّه فهم ما تريد أن تقول فأسرع يردّ باستهانة وعزم:‏

    -بل سآتي.. هيّا..‏

    تأبّطْتَ ذراعه، وسرتما إلى البوابة، فالباحة. حتى وقفتما أمام السّور.. قلْتَ:‏

    -دعني أسبقك حاول أن ترفعني إلى فوق!‏

    وحين انحنى بجذعه ليجعل كتفه الأيمن دعامة تستند إليها في ارتقاء السّور، تناهت إليكما نقرات عصا على البلاط الحجريّ..‏

    -تك.. تك.. تك.. تك..‏

    قفز هشام كالملسوع، وركضْتَ أنت إلى جذع شجرة الزيزفون.‏

    همس هشام:‏

    -إنّه جدّي!‏

    ومن ورائ الشجرة لمحت الحاج اسماعيل. جدّ هشام، دقّ قلباكما خوفاً. لن تستطيعا الإفلات من عصاه السنديانية. أمسكْتَ كفّ هشام، وهمسْتَ:‏

    -لن يرانا!‏

    اقترب هشام منك، شعرت بأنفاسه الدافئة اللاّهثة. أحسست بحرارة جسمه المرتعش، هدأ كلّ شيء إلاّ نقرات العصا الملحاح، وصرّ الباب الكبير، وأدير المفتاح في القفل، لم يعد هناك خوف، فلماذا يرتعد هشام، ولماذا يخفق قلبك بعنف، لمَ أنتما متلاصقات ترتجفان، تحت شجرة الزيزفون، ينفث كلاً منكما الدفء، ويتلمّس كفّ صاحبه!!‏

    مرّت لحظات، خلت أنّها طالت و.. استطالت. ثم انفصلتما، أطلق هشام ساقيه نحو الدار، وسرت وحدك كالمنوّم، لم تسلك خطّ سيرك المعتاد، بل اختصرته إلى الزقاق، ومنه إلى السّوق..‏

    ما الذي يجعلك أسير تلك اللّحظة، ها أنت تنزلق في لجّة الحيرة، هل وقفتما معاً تحت الشجرة وهي تنفض أزاهيرها أم كان ذلك وهماً! ومرورك بالزاوية الشرابية، دخولك البوابة، سيرك فوق البلاطات الحجرية، وقوفك أمام السّور تعاين المكان، هل حصل في زمن ما! أيّ متّكأ لهذا الساعد المكدود، وهذه النار الموقدة في الضّلوع، كلّ الذي مرّ كان سراباً، الشجرة أمامك، تمدّ أغصانها، تنفض أزاهيرها البيض فوق رأسك، يتضوّع ما حولك بأريج الزيزفون، وأنت تحلم!‏

    وطّن نفسّك أن تدور حول هذه الشجرة، عيناك تسبحان في دمعتين كبيرتين، درءاً للبوح والشوق واللهفة والحنين، غايتك أن تدرك الذّروة العليا، هاتفاً تبحث عن ولد اسمه: هشام!‏

    وأنت ما زلت أسيرَ حَيْرتك، لأنّك في المرّة القادمة ستلتقي هشاماً تحت القبو، وستحدّق في عينيه الزرقاوين، لن تختلجا أمام نظراتك الثاقبة، لن تبدو فيهما ما يذكّرك بتلك اللّحظة الهاربة، لن تستطيع أن تقول له: أنت جبان! إذا لم يقبل اقتراحك بالقفز فوق السّور، واكتشاف الأرض الخلاء، ما حدث أضغاث أحلام، ثمّ متى كان جدّه الحاج اسماعيل يدلف إلى الجامع في غير مواعيد الصّلاة، لمَ كلّ هذا؟! وأنت، كلّما مررْتَ بالزاوية الشرابية، تبدو مهتزّاً، ترجُّك العواطف، ترجّك الأشياء غير المّتزنة، ترجّك قسوة الأيام، ترجّك عتمة المكان، ترجّك هذه الشجرة العتيقة المثقلة بالحنين والصّمت، يرجّك هذا السّور الحجريّ الحزين، لأنّ قبراً جديداً أضيف بعد سنوات، اقتحم المكان الهادئ، وشاهدةً فتية لشهيد انتصبت وراءه..‏

    ومن بين دمعتين كبيرتين، تمطرُ بهما عيناك يتخايل اسم هشام البحري الذي لم يكن.. ج.. بـ..ا...نـ..اً..‏

    -البيلون: تراب يستعمل قديماً، بعد أن يعجن بالأزهار، كمنظّف للرأس أثناء الاستحمام.‏

    -البفجة: صرّة الثياب.‏

    -اليعاقبة: حمّام القاضي، الزاوية الشرابية، أماكن حقيقية معروفة في بلدنا.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()