في إحدى قرى الصعيد بمصر العامرة - عمرها الله بالإيمان والتقوى - ، عاد الصبي "حسن" - والذي لم يبلغ سن الحلم - من الحقل متعبا بعد يوم من العمل؛ فقد اعتاد أن يعمل في حقل خاله منذ ساعات الصباح الأولى إلى مغيب الشمس، حيث يعود بعدها إلى منزل خاله الذي آواه، بعد أن مات والداه وهو صغير لم يبلغ السادسة في حينها.
وقد نشأ اليتيم "حسن" في بيت خاله، في حياة أحاطها الشقاء والبؤس والحرمان المادي والمعنوي والعاطفي، من كل مكان، حيث لا يمر يوم إلا وللخال المؤتمن على طفولته طرائق في تهديده وتوبيخه وضربه؛ بسبب أخطاء طفولته، وطالما حرمه عدة مرات من عشائه، فيصبح طاويا جائعا، وهكذا توثبت قسوة قلب الخال على ابن أخته، فأحال حياته إلى جحيم لا يطاق.
هذا الصبي الصغير اعتاد أن يذهب إلى مسجد القرية وهو قادم من الحقل، حيث يصلي المغرب، ويجلس بعدها يستمع إلى درس شيخ المسجد وهو يفسر سورا من القرآن الكريم، وكانت تلك اللحظات ساعات راحته الحقيقية، تذيب ما به من أحزان، وتفسح في نفسه الأمل بالحياة، وتعينه على الصبر، واحتمال ضنك العيش، وجور الخال، ولم ينس الطفل تلك الهدية التي اعتاد أن يضعها في جيبه، وهي " مقلمة الأظافر " التي أهداها له شيخ المسجد عندما نظر إلى يده فرأى أظافره قد طالت، وكان " حسن " يحب شيخ المسجد كثيرا، خصوصا عندما يفسر السور الخاصة بصراع الأنبياء مع أقوامهم، وصبرهم على أذاهم، كانت نفسه تعيش بخيال واسع مع ذلك الصراع، ويتعلم منها الصبر والمثابرة .
مرة شرح الإمام آيات من سورة القمر تبين صبر نوح على قومه (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) [القمر: 9-10] واستفاض الإمام في شرح تلك الآيات، مبينا أثر الصبر في نجاح الدعوات، وثبات المبادئ، وقوة الاستنهاض للغاية، ثم عرج على أهمية الدعاء، وأثره في حياة الإنسان، ودوره في تقوية الصلة بين العبد وربه، وهكذا كانت أسعد لحظات الفتى هي اللحظات التي تنقله إلى جنة القرآن، بعيدا عن جحيم الخال.
وهكذا عاش الفتى سنوات طفولته في بيت خاله، ومسجد قريته، وتمر الأيام، وفي كل يوم تتثاءب القرية فيه عند فجر جديد، يطلع الغلام الصغير يحمل أدوات الحراثة، ومعها همومه وآلامه، وقد اعتاد الناس على رؤية هذا الغلام يسير خلف خاله، الذي يسوق *استغفر الله*استغفر الله*استغفر الله*استغفر اللهه متجها للحقل كل صباح، وفي أحد الأيام العادية، والذي لم تختلف شمسه عن باقي الأيام، وعند الظهيرة، استند الغلام مجهدا على جذع شجرة في الحقل، فقد أضناه التعب وأنهكه .. قام الخال بتوبيخه، وأمره بالعمل، طلب الغلام أن يعطيه فرصة للراحة .. اعتبر الخال ذلك الرد بمثابة انتقاص لولايته وسلطته عليه، فما كان منه إلا أن أخرج سكينا من ثوبه، وانقض بها على جسد الغلام كالوحش الضاري دونما رحمة وشفقة لصرخات الغلام اليتيم : " يا خال!! يا خال!! أنا أمانة أمي عندك!! " اختلطت دماء ودموع الفتى، وتناثرت دماء الجسد الغض في المكان، لم ينهض الخال إلا بعد أن تأكد من أن الغلام قد لفظ أنفاسه الأخيرة بـ (46) طعنة متتالية، وقام بعدها منتفشا تعلوه نشوة الانتصار الكاذب كأنما خرج من معركة حربية !
استقل *استغفر الله*استغفر الله*استغفر الله*استغفر اللهه، وتحرك بالرجوع إلى بيته، لكنه سمع أنينا خافتا، التفت وراءه، وإذا بالغلام يحرك أصابع يده، رجع قافلا وهو يسب: "ما زلت حيا يا ابن ..؟ " ترجل عن *استغفر الله*استغفر الله*استغفر الله*استغفر اللهه، مستلا خنجره، كانت لحظات النهاية، عايشها الغلام اليتيم آلاما لا منتهية، منتشرة في أنحاء جسده، والدنيا تدور به، شريط الحياة كله يمر أمامه في لحظات السواد، يلف عينه، لا يرى إلا شيئا يقترب منه لا يتبين معالمه، كلما اقترب ذلك السواد، يراه من بين أجفانه المطبقة، إنه خيال خاله، وقد أشهر خنجره . تلمس الغلام بيده ثيابه، فإذا هي ممزقة، وقعت يده على "مقلمة الأظافر" فتح نصلها بإجهاد بالغ، قلبه الذي كاد أن يتوقف عن الخفقان ازداد خفقانه، وفي لحظات اقتراب خاله ليطعنه الطعنة القاتلة الأخيرة، ركع الخال رافعا يده ليهوي بها على جسد ابن أخته .. في هذه اللحظات السريعة وجه الغلام ببطء نصل سكينة مقلمة الأظافر إلى جسد خاله، وهو لا يقوى على رفع يده، كانت – في لمح البصر – الآيات التي يسمعها من الإمام تطرق مسامعه، لم يعلق في لسانه منها إلا قول الله تعالى: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) [القمر: 10]، رفع بصره للسماء، ودفع يده بنصل مقلمته قائلا: " رب إني مغلوب فانتصر" فكان النصل في قلب خاله، وسقط الخال ميتا بجانبه دون حراك.
بعد ساعات من الهدوء الذي سيطر على مكان الحادث، نقل الفتى إلى المستشفى، وعندما علم أخو الخال بوفاة أخيه بسبب ابن أخته الغلام الصغير، زيَّنَ له الشيطان قتل الفتى في المستشفى !!
حمل خنجره معه، وأسرع إلى المستشفى، ودخل دونما شك من أحد على الفتى، وهو ممدد تحيط به أجهزة العناية المركزة، وحوله بعض الضباط والأقرباء .. فاجأ الخال الثاني الناس، فانقض على الفتى طعنا في جسده بـ (31) طعنة أخرى في هذا الجسد الغض، حاول الهرب إلا أن الشرطة أمسكت به، ومع هذا، فإن الفتى ظلت فيه بقية من روح، ظل في المستشفى ستة أشهر، عولج خلالها، وشفي، مات خاله قاسي القلب، وسجن خاله الثاني، وخرج الفتى "حسن" إلى دنيا الناس من جديد بفضل : (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) [القمر: 10] ..