كانت صورة قدسية.. لا يلمسها إلا ويكون طاهراً... لايقسم بالصدق إلا بها وحدها.. بحضور صاحبها.. ذلك الحضور الجليل، الوقور، المهذب... الخاشع، الودود.
ولأنه وضع تلك الصورة في موقع مهم وأزلي في حياته.. ولأنه يرى في الصورة وصاحبها.. النموذج الأنقى والأبقى والأكثر ألقاً في مسيرة حياته...
ولأنه يعتقد أن الصورة، أثمن رأسمال... به يستعين على الملمات والمحن، وبها يتمكن من تحقيق أمنياته ومسراته... به يستعين على الدموع حين تحتبس، فإذا استعان بالصورة صار مطر الدموع لصاحب الصورة وليس لأحد سواه.. لامن قبل ولا من بعد. بها... بالصورة.. بحضور صاحبها، يستطيع أن يفكر بشكل سليم، أن يحتمل الصبر، وأن يتفاءل.. فلقد علمه صاحب الصورة كيف يؤثر الآخرين على نفسه، وكيف يكون أول من يضحي وآخر من يستفيد.. أن يحب الحياة، ويكون يقظاً لئلا تلوثه إغراءات الوظيفة والمال والنساء وجلسات الليل الطويلة..
علمه صاحب الصورة.. كيف ينتقي أصحابه، أصعبهم، أكثرهم في توجيه النقد إليه، أدقهم في لفظه وسلوكه، أصدقهم، أكثرهم ثقافة... أقربهم إلى قلبه وعقله وروحه..
ولأنه كان يدرك جيداً المدى العميق الذي تركه صاحب الصورة في أعماقه، وكيف صار وجوده، خيمة تظلل عليه دفء الشتاء، وحرقة الصيف...
ولأن الصورة صارت كياناً، ووجوداً، وخلوداً مقدساً.. ولأنها تشكل هذا الحضور الأخاذ في رأسه ونفسه، فقد تنبه الجميع إليها وإليه.. بحيث لم يعد أحد يفكر بالاقتراب منه والتعامل معه إلا من خلال الصورة.
وبذل البعض جهداً في معرفة تفاصيل عن صاحب الصورة وعلاقة زميلهم بها.. وماهو نمط وتفكير وموقف وسلوك وسيرة وزمان ومكان وقرابة صاحب الصورة. إلا أن أحداً لم يفلح في الوصول إلى إجابات تفي بالغرض، أو يمكن الاستعانة بها في معرفة الرجل والشفوف الكامن فيه...
رجل.. لرجل. رجل محنط على الجدار، الجدار أبيض كالبراءة، كالملائكة، كالضوء.. جدار مخلد بالصورة.. رجل يعشق الصورة... ورجل في الصورة يحدق بألفة غريبة.. كأنما قد سره الموقع الذي يشغله في ذهنية رجل حي...
رجل ميت يستقر في الصورة، هذا كل ماعرفه البعض عن صاحب الصورة... وأكد آخر أنه شهيد.. وقال ثالث أنه مفقود.. لكن الرابع حسم الأمر.. قال: المهم أن صاحب الصورة غائب وعقب خامس يائساً: ومعنى هذا أننا لن نجد وساطة عنده قال سادس: إذن... لابد أن نستعين بالصورة نفسها.
في الصباح.. أقسم موظف متأخر عن الدوام بسبب زحمة المواصلات، بأنه لن يتأخر بعد، وقد استعان بالصورة في تأكيد قسمه.. عندئذ مضى صباح، الموظف على خير.
وفي الظهيرة، غلب النعاس على موظفة كسولة... وحين وبخها.. أكدت له بحق صاحب الصورة، أنها مريضة... فسامحها وزودها باستمارة مرضية..
وعندما حان الانصراف.. فتح أبواب سيارته المتواضعة لأربعة من الموظفين ليقلهم معه... فدعوا له ولموتاه بالرحمة... وأوضح أحد الأربعة وكان يجلس في المقعد الأمامي....
-ألف رحمة على روحه... فهو يسحق الرحمة.
وأراد أن يسأل عن المقصود بالرحمة... وهذا ماكان يتمناه الموظف، إلا أنه أرجأ السؤال، مفضلاً الصمت، مدركاً أن هذا الموظف يقصد صاحب الصورة... وحين وصل مسكنه... ظل حائراً...
-ترى كيف عرف هؤلاء بأن العزيز.. شهيد؟
إلا أنه تجاوز السؤال إلى النتيجة.. نتيجة وجد الراحة فيها، ذلك أن الجميع قد أدركوا أهمية الصورة المعلقة في حياته، وكيف أن صاحبها يهيمن بحكمته على
مسيرة حياته هذه...
وحين استقبلته زوجته بابتسامة، وأطفاله بفرحة غامرة، بادلهم الشعور نفسه.
كان يوماً فرحاً قد مر.. تفاءل به، وود من أعماقه لو أن الأيام التالية تأتي بمثل هذا الفرح.. إذن لكان أسعد الناس.
غير أنه فوجيء في اليوم التالي بأمر يلزمه برفع الصورة من فوق رأسه... وجاء في تبرير الإلزام. إن الدائرة، لا علاقة لها بالصورة الشخصية وأن بإمكانه وضعها فوق المكان الذي يرتأ به داخل مسكنه... أحزنه هذا الالزام، وفكر بالتمرد عليه... إلا أن صورة العزيز، قالت له أن يتحلى بالصبر... ووجد نفسه لأول مرة يختلف مع حكمة العزيز... فالصبر والسكينة والهدوء هنا استسلام واستجابة غير مقتنع بتنفيذها...
الصبر هنا ذل، ولا نتائج مرجوة منه... فمهما صبر، ومهما فعل... فإن الأمر لابد أن ينفذ.. والأوامر حين لا تنفذ يستحق صاحبها العقاب.. والعقوبات تراكم أخطاء.. والأخطاء لا تأتيه، لأنه يحسب لكل شيء حساباً.. لذلك تأتي النتائج سليمة.. وفق هذه القناعة رفع صورة العزيز.. ولم يكتف برفعها من فوق الجدار، إنما رفعها من تحت زجاجة المنضدة التي أمامه، وبرر موقفه، بأن صاحب الصورة يملأ كيانه كله.. ولم يكن وجودها إلا مباهاة للآخرين الذين لاشأن لهم بها.
وتلقى من موظفيه مشاركة وحميمية..
سأله أحدهم...
-وما الضرر من وجود صورة لعزيز؟
وأضاف آخر:
-... إذا كان هذا العزيز... شهيداً!
وقالت ثالث:
-... هل يزاح العزيز من العقل والقلب؟
أما هو فلم يعلق بشيء، إلا أنه وجد في تلك الأسئلة قدراً من المواساة التي استقبلها باستحسان.
وظل العزيز في فؤاده يقظاً... ولعل الذين حوله في الدائرة أو في الشارع أو في البيت... قد أسهموا جميعاً في تأكيد هذه اليقظة.. بدءاً من طفله الصغير الذي بات يعرف موقع صورة العزيز في نفس والده.. فإذا طلب حاجة يضمن تحقيقها.. استعان بالصورة...
-بابا... الله يرحم العزيز أريد...
وقبل أن يكمل يستجيب الأب للطلب
وحين يقوم بسلوك لايرضاه الأب، يطلب المغفرة ويعتذر باسم العزيز... ويتمادى الطفل في راحة والده، طالباً منه الحديث هذه الليلة عن العزيز.. الذي يعتز بصورته.
... ومروراً بالزوجة التي تريد أن يصدقها... فتلجأ إلى القسم بصورة العزيز، وتعلم أنه سيصدق... ويعلم أنه لابد أن يصدق.
... والجيران، يتقربون إليه باسم العزيز:
-الله يرحمه، كنا في خندق واحد. كم كنت أخاف عليه وأتقدم أمامه، حتى أنال الموت بدلاً عنه...
ويكبر الجار في عينيه... وينفذ له مايشاء من مهمات تقديراً لتضحيته وبذله الحياة رخيصة من أجل العزيز.
... وجارة أقسمت أنها أقرضت مالاً أ للعزيز، ولا تعرف سواه قريباً كي تطالبه برد الديون التي بذمة العزيز...
ومع أنه يستبعد أن يكون العزيز قد اقترض مالاً من أحد، لعلمه أن العزيز يقدم مابيده من مال، ولا يأخذ من مال أحد... مهما ألمت به المحن.. لكنه مع ذلك بدأ يسدد ديون العزيز شهرياً... ذلك أن المرأة قد أقسمت بعزة من يعز... فهي صادقة إذن...
وادعى أكثر من شخص أنه من أقارب العزيز.. وزعم آخرون أنهم من أصدقاء العزيز...
والكل يحظى باهتمامه ورعايته وكرمه.. إكراماً للعزيز طيب الذكر وظهر للعزيز أكثر من وريث... تقدموا ضده بالشكوى مطالبين بالميراث، لكن أحداً من هؤلاء جميعاً لم يفلح بشيء... لأن العزيز لايملك مايورثه لسواه سوى ثروة الحكمة... وهي ثروة لم يطالب أحداً بها سواه، وحسناً فعلوا.
وبدأت الأمور تكبر والاهتمامات بالعزيز تتصاعد. واحد تقدم بمشروع تجاري وطلب إليه المساعدة إكراماً للعزيز وآخر أراد منه كتمان سر... وثالثة ائتمنته على سر... ورابع قرن اسمه باسم العزيز في السلم والحرب...
وكان يصدق.. والصدق من صدق العزيز، فمن يحتمي بصورة العزيز، كمن دخل بيت أبي سفيان... ليظل سالماً آمناً.
تضاعف معارف العزيز.. بحيث صار من الصعب عليه إغفال أو إكرام الجميع... إكراماً لصورة العزيز...
وظل العزيز.. يلاحقه في يقظته ومنامه.. رافضاً أن يغيب عنه وباتت صورته تثقل عليه وتزاحم دربه.. وتبعد عنه حقائق قال بها العزيز..
أدرك أن كل شيء قد انقلب إلى ضده.. الصدق الذي تعلمه من صورة العزيز، وقد تحول إلى كذب واضح...
والحكمة التي ورثها عن العزيز وقد صارت محكومة بأطر غير قابلة للتنفيذ، أو تنفذ على عكس مايراد منها....
والصبر والاحتمال والتفاؤل... كلها أصبحت كلمات مفرغة من المعاني. واستعان بالصورة. سألها العون أكثر من مرة..
لكن العزيز اكتفى بزيارته محيياً أحلامه دون كلمة. وذات ليلة باردة.. كان المطر يغسل المدينة، وثلج يضيء ويلون... رآه، رأى العزيز... رآه يخرج من إطار الصورة، يحدق فيه، يتأمله ملياً.. ثم يحدثه... ويكشف له أمر كل واحد ممن زاروه، وزعموا أنهم من معارف وأقارب وأصدقاء وزملاء الغالي العزيز.. واكتشف.. أن المدينة كانت تكذب عليه باسم العزيز، كانت تريد أن تعبر إلى السرقة والضلالة والجريمة.. باسمه.. كانت تقاتل ضده، تدمر حكمته، تقامر بدم استشهاده... وحين استيقظ من نومه، أحس بثقل أزيح عن كاهله.. فتح النافذة.. تنفست الغرفة الهواء النقي... نفخات البرد دخلت.. قطرات المطر كانت تغسل زجاج النافذة، والنافذة مفتوحة.. والنافذة تريد للمطر أن يغسل أنفاس الغرفة.. وضوء الثلج، بياضه القطني.. وقد جعل جدران الغرفة تشرق بالعافية عندئذ... عندئذ فقط توسل: الهواء النقي، والمطر، والثلج أن يجعلوا المدينة: أنقى، وأنظف، وأكثر إضاءة ثم جلس إلى الصورة محيياً... مباركاً للعزيز حكمته...