لم أجد في تنافر البيوت الطينية التي بدت مثل صفائح مضغوطة، ثمة علاقة تربطني وإياها. كذلك الغرف ذات القباب الصغيرة الغائصة في بحر الرمل. أرض انفتقت فجأة، مبتلعة كل شيء إلى النصف. هذه القباب لا تثير في نفسي القداسة، بقدر ما تثير فيَّ الخوف الذي اعتدته في الطفولة، حيث كانت جدتي تحدثني عنها، عابثة في غابة رأسي شادّة حواسي إلى عوالم القصص والأحاديث، بحيث أجد أن رأسي يستقر في حجرها صغيراً، بين رؤوس النساء المحملقات في قسمات وجهها. وقتها كنت أتخيل الصحراء. مثل إناء كبير مقلوب. أما الآن فأنا أحدق بكتل الرمال المشعة كالأصداف البحرية المتكسرة، والتي تمتد بسطوح ناعمة، يكسوها بريق حاد يختفي ويظهر مع كل حركة. سطوح تنسرح وتتماوج بخطوط وظلال حادّة أو باهتة، حتى تتداخل نهاياتها مع الأرض المنبسطة، وثمة حرارة تنبعث من فوهة فرن متقد، إذ تتوغل في جسدي. وإزاءها أدركتُ أن المرء يمكنه التطهر بالحرارة، لإزالة ماعلق به من شوائب ثقيلة، متعبة، غير أن الشيء المحير في ذهني، وفي هذا الفيض والأسر الواسع، هو شدّة التصاقي بأشعة الشمس، رغم حرارتها تلك، فأنا أراقبها مبكراً، وأستمر على ذلك لفترة طويلة، وحين قال لي نمر:
- لماذا كل هذا الاهتمام بها..؟
- قلت: أنا متجه نحوها دائماً دون إرادة منّي..
- إنك تفكر بها كثيراً..
- بل أراقبها كما لو أني أنتظر منها شيئاً..
- وهل يتحقق مثل هذا الذي تعنيه..؟!
- لا يحررني من خوفي إلاّ الالتصاق بها...
هذا ماحددته أمام الرجل البدوي، الذي أثارتني فيه عقدة الصحراء، فرفقته غير مملة، إذ استأنس كل منا بالآخر.. ولا أدري ربما التقت وحدته بوحدتي. ووحشته بوحشتي. أو ربما لشيء آخر لا نعرفه معاً. فأحياناً أجد أن حرارة الشمس اختزنت في جسده، وكونت فيه إصرار الرجل الذي تأصلت فيه النوايا، قلت مدارياً ذلك:
- دع عنك التفكير يانمر..
كان يقول مستدركاً توازنه لكي يكتم مشاعره:
- لقد أشار أبي البارحة إلى الماء.. أشار بإصبعه..؟!
- وماذا في ذلك..؟!
- لاشيء سوى أنه لا زال يعاني من الظمأ..
- ألا تدري أني أشعر بالعطش رغم تأكدي من وجودي على ظهر سفينة واسعة، هذا ماكنا نتحدث به، وأنظر إلى ملامح وجهه، ثم أحدق بالشمس، وهي تشكل خطاً حادّاً على الجدار، إنها مثل سكين قاطعه، إذ لا تجد قوة تصارعها، أو قد تمنعها من التسرب إلى الأشياء، فهي تنتشر وسط الصحراء المترامية، وتحرق كل الأعشاب البرّية الخشنة. ممتدة، بحرية كاملة، منطرحة أمام العيون، والمسافات تسبح بفيض أشعتها؛ بينما أنا ونمر، نحدق بها أكثر، وهو يعبث بعصاه، إذ يرسم خطوطاً عميقة على الأرض كالدروب الملتوية، ونحن نسير بلا هوادة، وكان قد ألِفَ صداقتي، والتصق بي منذ ذلك اليوم الذي طلب مني زرق الإبر لأبيه، إذ كان يجد حرجاً كبيراً، وخفراً بدوياً حين يأتيني كي أذهب معه. ومن يومها أخذت أسبقه حتى أكون على مقربة من بيوت الشعر، إذ يلمحني، يسرع نحوي شادّاً، على يدي بقوة. ومن حينها عقد صداقته معي. وكنتُ أشعر بالانجذاب التام نحوه، فهو يتيه منذ ولادته وسط الصحراء، باحثاً عن خفاياها، لاحظت أنه يحمل في طياته أسراراً عميقة، وكثيراً ماكنا نذهب لخيام الغجر، حيث تنفتح كل أحاسيسه، ويبتسم، وحيث تتلوى الغجرية على أنغام الرباب. كان يتفحصها ويأخذ جسده بالارتخاء، غير أنه يثبت في مكانه وينظر إلي، فيجدني أتابع حركاتها، إذ سرعان مايتغير كل شيء عنده، وتختفي ابتسامته وحماسه، ينهض غاضباً، ثم يغادر الخيمة، والغجر لا يملونه إطلاقاً، رغم مايسببه من حرج، أتبعه فأجده ينتظرني مثل مارد تحت ضوء القمر. وكثيراً ماشاهدت رأسه بمستوى القمر. أضع يدي على كتفه، ونسير جنباً إلى جنب وأسأله:
- لماذا قطعت فصل الرقص يانمر؟!!
- لا أطيقه هذا الكلب..!!
- لماذا..؟!
- ألم تلاحظ لمن يعزف بربابته..؟!
- إنهم غجر... وهذه مهنتهم..!
- لا أستطيع رؤيته، وهو يعزف لزوجته ويرقصها...!
- هذا ليس بالغريب، إذا طلبت منه النوم معها فلا يمانع..
- ها... عندها سأقتله...
حينها كان يبتسم، وتخفت هالة الغضب عنده، وتأخذ ابتسامته تتضاءل مثل شمس تميل إلى الغروب، وأنا أدرك خروجه، فهو شديد التفكير بأبيه، يأخذ كل وقته.
كيف يجلس مع رجل صامت لا يريم، ويجلس أمام عيون مفتوحة لا تنطق. كان لأبيه طموح الربيع في الصحراء، وكانت كل رغبته الارتواء بماء المطر وسط هجير قاتل، أتى على حيواناتهم وتطاول عليهم.
كنت أعطش كما قلت، وهذا ماذكرته مراراً لنمر، الذي لا ينفصل عني، إلاّ حينما تنفصل عن جسدي الشمس، مخلفة إياي مبترداً، أشعر بارتباك جسدي الضئيل، وأنزوي لأبصر من خلال الضوء المتهافت مايصلني بصوت مدينتي، حيث تمتد أخبار صديقي الذي يكتب بطريقة معقدة، كانت الرياح تهب منه هادئة، نقية، كذلك صوته ينبعث عذرياً حتى لكأنه يفرغ أحشاءه على الورق. كانت لحظة وصول رسائله مع الصحف والمجلات خير ما يعينني في وحدتي، هذا الزائر اليومي في جزيرة الرمل، حيث أرقب انطلاق الصبي الذي يحملها لي من مقهى القرية التي تبعد قليلاً، يفصلها عنا خط الحديد الطويل الممتد إلى الشمال والجنوب.
وكان في مرات يعود متباطئاً، فيسقط كل حس فيَّ، مثلوجاً متهافتاً، غير أني أمتلئ روحاً فوارّة حين ألحظه مسرعاً، كل ذلك يحدث في وقت تكون فيه الشمس في زهو شديد، وهذا ماكنتُ أتمناهُ حيث الاستحمام الكامل، والهادئ، بعد أن خفت حرارتها وتضاءلت عن جسدي، ولا أكتفي بالانتظار، بل كنتُ أترك المسافة المؤثثة بتموجات الرمل ماوراء السياج الشائك، وألتقطها منه، ويسألني نمر عنها، إذ ننشد نحن الاثنين إلى عالم بعيد، ونحلم بكل شيء بالسفن والمدن الكبيرة. وهو لا يذكر المدينة بوضوح تام. فحلمه أكثر عذرية مما يمرح في ذاكرتي من صور للمدن المشوهة، ذات القلوب القاسية، وكان يقول:
- سوف لا أراها مطلقاً..!
- ليس ثمة مستحيل.. فمن الممكن أن تهجر ما أنت عليه..
- هذا بعيد..
- الحياة غير مستساغة بهذا الشكل...!
أما هو فيبدو متورم الحديث، له قلب مليء بالأسرار، وعيناه مليئتان بآثار السهر والتعب، قال بعد أن تفحص وجه الصحراء جيداً:
- لا يمكن ذلك إطلاقاً كما قلت لك، بالرغم من كل ما أصادفه.
فهل تنمو الثمرة إذا ما أسقطت من الغصن..؟! ها... هل تنمو بعد ذلك...؟!
- تنمو غير أن نموها على نحو آخر...!
- لا أستطيع الانفصال، أنظر ليس ثمة شيء يفرح، وإن أغنامنا تموت كل يوم من البرد والعطش، لقد مات كثير منها، غير أني متعلق بها.
- إنها مسألة متأصلة في داخلك..
وهو قد التزم الصمت، حين كانت الشمس تختفي، إذ تبدو التموجات الرملية مظللة، وقرص الشمس مستقراً على خط الأفق محتقناً دامياً، ونحن نسير بهدوء وبطء. تنحنح ثم قال وهو منكس الرأس:
- لشد ما أفزعني أبي البارحة..!
- ماذا به ، هل تألم أيضاً..؟!
- لا.. لقد تكلم..
- تكلم..؟!
- نعم تكلم بعد صمت طويل، كما تعلم، كان مفزوعاً، وقد سمعته ينادي بخفوت ... نمر.. يا نمر.. فكأنني أسمع النداء من قاع بئر عميقة. وحين أتيته طلب مني ماء، وحرك يده حتى مسنّي بحرارته، نعم صدّق ذلك، تكلم وطلب ماء وحرك يده ومسّني وقال بهدوء... لقد شاهدت يابني شيئاً جميلاً لقد جاءني اثنان في المنام وسألاني : قم وانهض.. من تكون..؟! قلت: أنا نايف عكاب الحاتم. وأريد أن أموت. غير أنهما ضحكا يابني ونظر كل منهما إلى الآخر، وكررا النداء، قلت: لا أستطيع الوقوف، غير أن أحدهم مسّني أنا الراقد طوال العمر. والملازم لفراشي. إنهض كالشاب اليافع المربوع، فتوسطت بينهما. وسار أبي كما يسير المرء في الحلم، وكدتُ لا أشعر بأرجلي تطأ الأرض، كنتُ مثل الملاك أطير، أخذت الأرض تتغير يابني كلما غذينا السير ثلاثتنا، والسماء تصفو، حتى وطأنا أرضاً مخضّرة، فيها عشب كثير ترعاه شياه، بيض سمينة، وكان ذلك واضحاً، من إلياتها، وكانت المياه الصافية، تجري في الغدران مثل السلسبيل، حينها أدركنا بحراً لا تطاله العين، بحراً ممتداً، وقفا فوقفت، ثم نظر إليَّ أحدهم، وقال: إنه الماء، هذا الذي تبحث عنه. ألا تشاهده؟! كنت تعباً، ألهثُ قال الآخر: البحر يمتد يا هذا.. يمتدُ، وجلستُ على ركبتي فاغترفت منه بكفي. كان صافياً. وجوفي يحترق، بعدها رفعت إلى فمي حفنة ماء فمنعاني، ورفعاني، من جلستي، وصرخت، غير أنهما ألحا على منعي، ثم أمسك أحدهما بخناقي، وأنا أبكي، حتى استيقظت وناديتك يابني...
طأطأ رأسه، بدا وجهه آخذاً بالاصفرار، قال:
- إنه حلم مخيف.. بعد أن قال عما شاهده أخذ يردد : رأيتُ البحرَ يانمر.. البحر.. اخرج لعل السماء تحمل لنا موسماً ماطراً..
خرجت ورأيتُ.. ثم لم يكمل بعد ذلك بل صمت من جديد وأخذتهُ إغفاءة عميقة، نظرت إليه متخيلاً البحر والصورة التي بدت للشيخ المتمرس بالجفاف لسنين، وقد بدت الصحراء متسربلة بالسواد، إلا من بيوت الغجر، حيث تبدو من داخلها الأضوية الخافتة، قال وهو يتجه إلى بيته:
- إنه لحلم مخيف. وقد تكلم على أثره، وهذا عجيب...
ثم تركني أفكر بهذه الحالة المخيفة. ولم أتجاوز التفكير إلاّ بنفس مافكر به، وقد دونت ملاحظة في دفتر مذكراتي:
[ إني أخاف أيضاً من مثل هذا، ما الذي حدث للرجل إذ تكلم بعد صمت طويل لشد ما رأى في حلمه من خوف شديد، فهو يحلم بالبحر، البحر الذي لم يره هذا البدوي لم ير إلاّ الصحراء والجزر الرملية الملتمعة، كالزجاج المهشم.. ] ونمت متأخراً جداً، وكانت ليلة قلقة وصعبة جداً وحين جاءني عصراً كان مرعوباً ويائساً، وقتها كانت السماء غائمة ملبدة بشكل غريب، كما لو أنها تنبئ بقدوم شتاء مرعب، جاء مسرعاً يلهث بكلمات متقطعة:
- لقد مات!
- ماذا تقول يانمر..؟!
- قلت لقد مات.. مات أبي. تعال أعنّي لا أستطيع رؤيته هكذا.
- أمتأكد أنت؟!
- إنه لا يتنفس إطلاقاً.؟!
وأسرعت عابراً خط الحديد، وحين لمسته كان بارداً جداً، ومصفر الشفتين نكست رأسي ، وحين رفعت نظري إليه وجدته دامع العينين، نهضت ثم نهض يتبعني خارج البيت، جلست محملقاً بالامتدادات الواسعة، كنتُ أحلم بالبحر، حيث كانت الأغنام تنبسط أمامي كفراش صوفي، ملازمة الأرض، خاضعة لقوة الظلام، والغيوم التي لم تعتدها في النهار، قال:
- إنه لم يشرب الماء منذ الليلة التي حلم بها...!
- ليس ثمة فائدة يانمر لا تعذب نفسك بهذا الشكل.
-لا.. كان أمله أن يرى الماء فقد مرت به سنين جافة، انظر إليها ملبدة، وما الفائدة لقد كان بانتظارها دوماً.
- علينا أن نجد الواسطة لنقله.
- كلا لا حاجة لنا بذلك فنحن لا نفارق الصحراء حتى في مماتنا.
وادلهمت أكثر، حتى لكأن غطاءً أسوداً أخذ يطبق على الأرض، في حين بدت جوانب الخيام تتحرك، والأغنام تلتصق بالأرض أكثر، نهضت قلت له:
- لنغطيه بالإزار وسأذهب لأرتدي ملابسي.
قال: - ساعدني على وضعه بالقرب من مدخل الخيمة.
نزلت عند رغبته، أمسك هو بطرفي الفراش وأمسكت أنا بالآخرين بدا جسده مقوساً، هابطاً من الوسط، وضعناه قرب المدخل، كان مغطى مسجى نظر لي بتوسل، كان مضطرباً وحزيناً جداً، قال:
- أرجوك افتح عينيه، وليرى المطر فقد كانت أمنيته أن يبتل به. ليره الآن فقط، دعنا نحقق له أمنيته في رؤية المطر الساقط إنه ينذر بشتاء غني.
رفعت الغطاء عن وجهه. وفتحت عينيه، ثم أسندت رأسه إلى الوسادة بحيث واجه السماء تماماً، وحين رفعت رأسي إلى نمر، وجدته خارج الخيمة ينشج كطفل، مسح دموعه، بطرف يشماغه، ثم غادرته..
سقط رذاذ خفيف، وأنا أطأ عتبة البيت، ثم ازداد سقوط المطر، هربت راكضاً إلى الغرفة، تذكرت عينيه المفتوحتين، وبأنه سيرى بعينين منطفئتين، عدت إلى ساحة البيت، وقفت تحت المطر لأغتسل، كي أزيد اغتسال الشمس بالمطر، وطرد كل آثامي. والأصوات تتكاثف، داخل الغرفة وضربات زهر النرد الساقط على اللوح تصلني خافتة تمتزج بقطرات المطر الساقط