فقط يوزع نظراته من حولهم، ومن فوق الأشياء، ثمة شيء يتلاشى من رأسه يبدو نائياً، حيث يذوب مثل حبة ثلج. ولحظة أن طلب منه إعداد أشيائه.
كانت استجابته كما لو أنه يتناول طعامه كسائر الأيام، وعند دخوله البيت استقبلوه بانفعالات لم يعترض عليها، ولم تكن له القوة على التعليق، كل الذي فعله، أنه وزع نظراته حولهم متفحصاً هيئاتهم، وتوزعهم، ببرود واضح.
2- إغفاءة:
كعادته في الأيام والسنين الخوالي، استسلم للنوم، وهم بانتظار استيقاظه. غرق في ملكوته أكثر، حتى ظن الجميع أنه قد فارق الحياة، لولا حركته المفاجئة، لحظة فتح عينيه علىالنور الذي ملأ بؤبؤيهما، فركهما بكفيه لاحظ بضع صبيات وصبية يتحلقون حوله أدرك من بينهم زوجه التي ابتسمت له بينما نشر نظراته حول الباقين متفحصاً إياهم باندهاش، لحظتها عرف أنه ابتعد كثيراً عن مكانه الذي طال مكوثه فيه، وأنه أمام مكان وأشياء جديدة، قال:
- هل تحولتم من بيتكم السابق؟!
حدقت به الزوجة بأسى، قالت:
- بل غيرنا مدينتنا كما ترى..
لكن تداخل في رأسه هاجس مردداً لنفسه، وهو يقلب الصور، آه لو تعلم كم عدد الأماكن التي تحولت نحوها. بينما شعرت الزوجة بذات الهاجس المرّ / مرددة/ صار تحولنا من مكان إلى آخر فخاخاً ينصبها لنا أصحاب البيوت والعقارات والسماسرة.
***
3- إدراك :
وهو يحدق بالجميع، شغلته حالة الهدوء التي تجلت بها الصبيات، فاستقر في نفسه شعور، ثم اتسعت رؤيته اتجاههن، وهنَّ ينظرن إليه مثل قطط حذرة وهو يحاول اجتياز منطقة غامضة.. وحين وصلت الأم، قال،
- من تكون تلك الصبية؟!
قالت: - إنها ابنتكُ، واحدة من التوأم الذي ولدته بعد فقدانك..
- وهل ولدت توأماً...؟!
- نعم توفيتُ إحداهما..
- ياللأسف، وهل كبرت هكذا..؟!!
- ودخلت المدرسة وهي الآن تتقدم في الدراسة عكس الأولاد.
- وأين سميرة؟!
- لقد تزوجت..
- الحمد الله، وهل أعرف زوجها؟!
- لا أعتقد ، لكنه إنسان طيب.
- وبقية الصبية والصبيات؟!
- إنهم أبناؤك، هل نسيتهم...؟!
- كلا، بل فارقتهم صغاراً كما تعلمين.
4- حوار:
- لقد عانيت كثيراً يا أم علي!!
- بل أنت من عانى هناك.
- كنت مشغولاً بكم، ولكن بمرور السنين والانقطاع تلاشى كل شيء. أحس بأنه مازال يكبت شيئاً، ولا يفرط في البوح به ، متلمساً رقبته، إنها تؤلمه، أخرج من جيبه علبة الدواء، فتحها ملتقطاً حبة منها، دفعها داخل جوفه على عجل، والزوجة تحدق فيه بأسى دون أن تتفوه، قالت:
- حدثني عن كل شيء؟!
- عن ماذا أحدثك..؟ الحكايات كثيرة وطويلة.
- بل حدثيني أنتِ.
- بلواك أكبر من بلواي.
- لا أدري من ابتلي منا، ولكن أعتقد أننا ذقنا المرارة سوية كالآخرين.
التقت نظراتهما، داهمهما الصمت، كما في كل يوم، حاولا الشروع بالحديث عن الأيام الخوالي، ووحشة الليالي بالنسبة إليه، وفراغها بالنسبة إليها.
***
5- اعتياد:
تواصل مع ما استجد في حياته، ثم أخذت معرفته تتسع أمام تشكيلة العائلة، لكنه شعر بغموض، حاول أن يستقر على أسبابه، ولمرات أدرك المقارنة بين وجوده بينهم وابتعاده عنهم، كل تلك السنين، خصوصاً أن كل مايدور هو ضمن تملك الزوجة، أما هو، فيوزع نظراته عليهم، ويتلقى تحياتهم، يراهم مثل سواقي أو خراف تنقاد نحو الحقول والمصبات التي يجدها غامضة، مجهولة، أدرك ثمة مسافة طويلة تمتد بينه وبينهم، هي أرض صفراء ذات عشب صحراوي قاسي، إذ بدأ ذهنه يستيقظ أكثر.
***
6- مفارقة:
تراكمت الأيام، وهو مسور بذات الإحساس من الوحشة، والغربة، بينهم، خصوصاً مالاحظه على أولاده الموزعين مع الأيام، واللاهثين وراء لقمة العيش والمنطوين على أسرار لا يعرفها. وكلما تمادت الأيام بالجريان ازداد تراكم مثل هذه الدهشة، خاصة أن حالة الانبهار بعودته أخذت بالأفول والتلاشي حيث وجد نفسه متروكاً في زاوية من البيت، لاهمَّ له سوى النظر من حوله، وترسبت في قاعه مشاعر مليئة بالخيبة، كل مايدور حوله على غير ما يدرك، إذ وجدَ صعوبة في الوصول إلى مايحلُ مشكلة كهذه... بدا مؤرقاً في الليالي الطويلة، وهو ينتظر مجيء ولده-علي- كان يتأمله في الصباح أثناء الفطور، ولا يستطيع السؤال حول تأخره في الليل، لكنه اضطر أن يسأل زوجه عن ذلك، فكان الجواب فيه فسحة من الحث على عدم التدخل في حياتهم، فالحياة هكذا أصبحت، ومن الصعب تغيير حركتها وجريانها. وحين كرر السؤال أجابت بمرارة من تراكمت في نفسه الخيبة لأنه اعتاد السهر مع أقرانه، مثلما اعتدت أنا العمل في النهار لإعالتهم.
***
7- خروج:
في الصباح، لاحظ أنه يختلف عن كل الصباحات، لم يسأل عن شيء، تناول فطوره، وجلس ريثما خرجت زوجه إلى السوق، وتسرب الجميع عنه أطفأ سيجارته، متجهاً إلى الخارج، ولحظة مغادرته اصطفق الباب خلفه، محكماً إياه، مولياً وجهه نحو مداخل المدينة التي لا يعرف عنها شيئاً، ولم ترد بباله أن يضع علامة يستدل بها أثناء عودته إلى البيت، بل ترك قدماه تنهبان المسافة على عجالة ودون هدي واضح...