اكتأب الأب المسكين وهو يسمع من زملائه في العمل الأجور الخيالية لتقويم الأسنان وراتبه لايكفي لسد رمق أولاده الخمسة وزوجته. حنق في سره على طفلته وشتم صداعها ولحظة ولادتها، وأوصله استرساله في غضبه إلى لعن ساعة زواجه، بل لحظة ولدته أمه في دنيا الشقاء....
لكن والدة الطفلة أصرت على أن تعرض ابنتها على طبيب اختصاصي في تقويم الأسنان، ليس لشفائها من صداعها الذي يدفعها للبكاء، بل لسبب خفي لم تعلن عنه، هو أن تشوّه أسنان ابنتها وسوء إطباق فكيها قد يخفضا من أسهمها كزوجة، وهي على بُعد خطوات من مرحلة التفريخ.
ألّحت الزوجة على أن صداع الطفلة لاينتظر أي تأجيل، وأنها يجب أن تُعرض على طبيب اختصاصي بتقويم الأسنان، وأن زوجها مسؤول عن تدبير المبلغ، حتى لو اضطر إلى رهن، التلبيسات الذهبية الثلاث لأضراسه.
صرخ بها: والله عال، أتريدينني أن أقلع أضراسي الملبّسة بالذهب من أجل تجميل أسنان ابنتك!
-ولمَ لا، لا تنسَ أنها فتاة، وجمال الفتاة أهم شيء لديها، إنه يحدد مستوى عريسها مستقبلاً.
-لكني أترك أضراسي الذهبية ليوم الحاجة يا امرأة.
-لن تكون هناك حاجة أكثر أهمية من تقويم أسنان ابنتنا، ثم ألا ترى كيف أن إطباق فكيها مشوه، ويسبب للمسكينة الصداع الشديد.
امتدت اليد الطفولية الناحلة تمسك يد الأب المعروقة الخشنة، وسار الاثنان بصمت إلى عيادة طبيب مشهور في تقويم أسنان الأطفال.
العيادة مبرّدة أنيقة، تمتلئ جدرانها بصور أطفال يضحكون، كاشفين عن أسنان منضدة، مضيئة كحبات اللؤلؤ.
أطالت سمر النظر إلى صور الأطفال، أحست بعدوى ابتسامتهم تُصيبها، ابتسمت والتفتت إلى والدها تسأله إن كانت أسنانها ستصير بعد المعالجة مثل أسنان هؤلاء الأطفال، لكن التعبير الجَهم الغارق في الكآبة لوجهه خنق السؤال في حلقها.
بعد انتظار يقارب الساعة، حان موعد دخول سمر إلى غرفة الطبيب، استقبلها الطبيب بلطف ممزوج بالشفقة وهو يموّه تعبير الدهشة من ثوبها العتيق الفضفاض. فحص فكيها وأسنانها بدقة، وقام إلى مكتبه ليكتب بانكليزية أنيقة حالة سمر، لم تفارق أنظار الأب وجه الطبيب طوال الوقت، كان يحاول أن يحزر المبلغ الذي سيطلبه ثمن شفاء الطفلة من صداعها وتقويم فكيها وأسنانها، لم يستطع أن يصبر أكثر سأل:
-خير يادكتور؟
رفع إليه الطبيب نظره وقال: الحالة صعبة، وتحتاج لعلاج قد يستغرق ثلاث سنوات. ردّ الأب بآلية: ثلاث سنوات!
تابع الطبيب كأنه لم يسمعه الخطوة الأولى ستكون في تقويم الفكين، حالة سمر تندرج تحت سوء الإطباق الشديد، وأعتقد أن لديها خلع في مفصلها الفكي الصدغي، التفتَ إلى الطفلة وسألها:
-ألا يصدف ياسمر وأنت تقضمين تفاحة أن بقي فمك مفتوحاً تعجزين عن إعادة إطباقه إلا بعد عدة محاولات؟
أجابت الصغيرة بسذاجة: لكني لا أقضم تفاحاً.
شتمها الأب حانقاً وقال وهو يلحظ ابتسامة الطبيب التي رفرفت فوق وجهه: إنها تكره التفاح يادكتور.
قال الطبيب: حسناً المرحلة الأولى ستكون تقويم الفكين، والمرحلة التالية تقويم الأسنان.
سأل الأب متلهفاً وكأنه ينتظر الحكم النهائي للمحكمة: وما الكلفة يادكتور؟
لوى الطبيب فمه وخربش بقلمه على قصاصة ورق جانبية وقال: الحد الأدنى تسعين ألفاً، هذا غير الأدوية، والصور الشعاعية التي ستحتاجها.
شهق الأب قائلاً: ماذا تسعون ألفاً؟!!
قال الطبيب بامتعاض: يمكنك أن تقصد غيري من الأطباء، وسترى أنهم سيطلبون أكثر من هذا المبلغ.
قال الأب: لكن يادكتور...
لم يسمح له الدكتور بالشكوى قال: ادرس الموضوع وراجعني.
اختنقت الآه في صدر العامل المسكين، أراد لو يشكو، طافت فكرة مضحكة بذهنه، ماذا لو طلب من الطبيب أن ينزع من فمه التلبيسات الذهبية الثلاث. ترى كم تساوي، وهل تكفي كدفعة أولى لعلاج ابنته؟
لكن من أين سيأتي بالمبلغ الباقي، وهو فوق طاقة موظف بائس!
كانت أنظار سمر معلقة بصورة طفلة تضحك حتى غابت عيناها وبانت أسنانها ناصعة رائعة، تذكرت أنها تخجل من أن تضحك ملء فمها، لأن صديقاتها يسخرن من تشوه أسنانها...
تنبهت لصوت الطبيب يقول لوالدها: أول خطوة في علاجها هي إجراء صورة بانورامية للفكين.
-مامعنى صورة بانورامية يادكتور؟
-صورة تُظهر كل الأسنان.
-أشكرك.
دفع الموظف المعاينة فبقي في جيبه عشرين ليرة ثمن ربطة الخبز التي يجب أن يعود بها كل مساء.
في الواقع كانت سمر تقوده من يده، لأن عينيه كانتا تحلقان فوقه لتلتقطا صورة بانورامية شديدة الوضوح لحياته كلها، صورة لم يميز فيها بخياله المتعب سوى ستة أفواه مفتوحة تحيطه كدائرة، عليه أن يطعمها كل يوم وقد التمعت ثلاث تلبيسات مذهبة فوق جوف أحد الأفواه.
قال ساخراً: إنها لوقت الحاجة، ضحك بمرارة وهو يضغط يد صغيرته التي كانت تكظم صداعها الذي تضاعف بعد أن استعادت بخيالها الطفولي صور الأطفال الضاحكين في عيادة الطبيب.
ما أن أطلَّ على الزقاق الذي يسكن فيه، حتى استقبلته زوجته مولولة: مصيبة يارجل، ومدّت له ورقة حكم المحكمة الذي حصل عليه صاحب البيت لزيادة الأجرة الشهرية ثمانمئة ليرة.
ضرب رأسه بيده، وانفلتت شتائمه مصطدمة بالجدران العارية، والأثاث الهزيل ورؤوس أطفاله، كان يقول وسط سيل شتائمه: من أين؟ من أين سأدفع زيادة ثمانمئة ليرة كل شهر!
انفلتت جملة من زوجته: ارهن أسنانك الذهبية يارجل.
صرخ بها صرخة جعلت أطفاله يتقصفون ذعراً: اخرسي، والله أحس أن هذا هو يوم النحس العالمي.
رمى ربطة الخبز أرضاً، وفرَّ من الغرفة قاطعاً الزقاق بخطى واسعة هائجة غير منتبه لخيط دموع كان ينهمر من عيني سمر لأن صداعها ماعاد مُحتملاً