تراخت يده داخل الدرج، تمنى لو يترك الظرف، ولا يتناول الحبة المعتادة، ولكن هل يقدر؟ وقد أدمن على تناولها خمس سنوات متتالية، حتى ما عاد قادراً على النوم إلا بواسطتها، وهبت عزيمة مباغتة في روحه ورمى الظرف، وحين هم بإغلاق الدرج، ذعر وهو يرى تمزق الظرف في منطقة صغيرة منه وخروج الحبة الصفراء اللماعة لتنتصب في الفراغ أمام عينيه وهي تصرخ به:
ما بك، هيا ابتلعني، ماذا تنتظر؟!
اقتربت من شفتيه ووقفت على شفته السفلى، فطردها باشمئزاز، كما يطرد ذبابة، فارتدت إلى الوراء، محتدة، وصرخ: لا، لا أريد أن أتناولك بعد اليوم، سأساعد نفسي على التحرر منك. ضحكت حبة اللكزوميل بسخرية وقالت: ماذا جرى لعقلك، هل جننت؟
رد بتصميم: لقد كنت مجنوناً حقاً حين لجأت إليك: وأدمنتك سنوات.
تابعت حبة اللكزوميل باللهجة الساخرة نفسها: أوه، هل نسيت أفضالي عليك، أما شفتيك من القلق والأرق والتفكير اللامجدي..
قاطعها محتداً: لقد عطلت تفكيري، حرمتني من السهر والتفكير والإبداع، لكن ثقي سأبذل جهوداً خارقة لأطردك من دمي، لأتخلص من تأثيرك.
رق صوت حبة اللكزوميل وقالت: أوه يا عزيزي، أيهون عليك أن تنهي صداقتنا بهذه القسوة، أكثر من خمس سنوات، لم نفترق خلالها يوماً واحداً، هل تنسى كيف كنت أرافقك في أسفارك وفي محنك وفي ظروفك الصعبة، أتذكر، ما كنت تقدر أن تتخلى عني يوماً، هل أذكرك يوم سافرت ونسيتني، ألم تقض الليل كله محملقاً إلى السقف تعذبك الأفكار وتنهشك الوساوس وتتقاذفك بقسوة كطفل يلهو بكرة ويرفسها، كم ناجيتني تلك الليلة، وتمنيت لو أنجدك، لكنك كنت قد نسيتني، ومن بعد هذه الليلة ما عدت تنساني أبداً.. أتذكر أفضالي عليك بهذه البساطة؟
رد بتصميم: قلت لك اعتباراً من الآن، لا أريدك، لأسهر الليل بكامله، سأتعذب أياماً، أسابيع، أشهراً، ثم أتحرر منك..
قالت الحبة الصفراء برقة زائدة: أوه يا عزيزي، كيف يصور لك خيالك، أني عدوتك، وأن عليك أن تتحرر مني..
قال ساخراً: بل أنت نِعمَ الصديقة.
ردت الحبة بتصميم: حقاً، فأنا وحدي أعرف خلجات نفسك، ألست أنا من تذوب في دمك، وتتسلل إلى خلايا دماغك ونسيج أعصابك، أهدئها وأريحها، فأنا أحفظ باطنك وخباياك، أكثر مما تعرفها أنت بكثير.
تابع بمزيد من السخرية: شكراً لك فلن أتعبك بعد الآن، وسأتخلى عن خدماتك.
-لكنك لن تقدر صدقني، ستعود إلي، فأنا ملاذك الوحيد.
ضحك مستغرباً: أأنت ملاذي الوحيد.
ردت حاسمة النقاش: حتماً.
حاول طردها من أمامه كما يطرد ذبابة، ففرت هاربة من يده، وحطت على ظهر الخزانة، نقطة صفراء لماعة، وقالت له بتحد: حسناً لن أعارضك، لكنك سترى، كم ستندم على كل كلمة قلتها بحقي قال مصمماً: فلأندم، لكني لن أتراجع عن موقفي أبداً.
تثاءبت حبة اللكزوميل وقالت: حسناً، تصبح على خير، فأنا سأستسلم لمفعولي المنوم والمضاد للقلق.
هنأ نفسه على زخم ارادته القوية التي بزغت فجأة من أعماقه متحدية سنوات طويلة من ادمان تناول اللكزوميل كل مساء، أحس بغبطة حادة، وتناول مجلة وأخذ يتصفحها محاولاً أن يسترخي وينام، قرأ عشر صفحات من دون شهية، رمى المجلة جانباً، وفجأة أحس باكتئاب مباغت وقاسٍ هاجمه فوراً باختلاق موجة من التفاؤل الاصطناعي، قال مخاطباً نفسه: هيا استحضر ماذا جرى معك من أحداث هذا اليوم، وسيتسلل النعاس حتماً إلى أجفانك وأنت تتذكر، وأول ما أفتكر الشجار الحاد مع بائع التفاح في سوق الخضار، آه كيف تطور الشجار واحتد حتى اضطر الناس للتدخل فيما بينهما، واستغرب كيف اتهم البائع بأنه لص ومستغل وأنه رفع التفاح ثلاثة أضعافه مستغلاً بدء شهر رمضان المبارك، وكيف رد عليه البائع بوقاحة: إن لم يعجبك السعر فلا تشتر.
أغمض عينيه هارباً من تذكر التفاصيل، نقل ذاكرته قسراً إلى عمله، وتذكر الصداع الذي فجر دماغه في منتصف النهار، وأجبره على أن يقطع صيامه ويتناول المسكنات، عسى صداعه يرحمه ويغادر رأسه، لكن صداعه لم يسكت حتى العصر، وبعد أن تناول أربع حبوب مسكنة أخرى، وافتكر مديره بحنق كيف طلب منه أن يحضر جرداً للمواد التالفة في مستودع مصنع تصنيع الغسالات، وأكد له أن هذا الجرد ضروري، وعليه أن ينهيه في نهاية الدوام.. وغرق في أوراق ومجلدات يعلوها الغبار، واحتد في نقاشه مع العديد من الموظفين، فلم يساعده أحد في مهمته، وكانوا يردون بلا مبالاة على أسئلته، وكل منهم يقول: لست أنا المسؤول عن هذه المعلومات.
وصرخ بعد كبت شديد: من المسؤول إذا، كيف ستحصر المسؤولية؟!
وطغت في ذهنه صورة موظفة تتثاءب بلا مبالاة فيما هو يصرخ من المسؤول. تململ في جلسته وقد أحس أن هذه الأحداث التفصيلية توتره أكثر مما تريحه، وحدث نفسه مقوياً عزيمته: أوه لا تبال، افتكر الخطوط العريضة، لا تغص في التفاصيل، افتكر مثلاً ماذا حدث معك الشهر الفائت، غص، وحلقة حديد تقبض حنجرته، وهو يفتكر أن صديقه الوحيد، وشقيق روحه قد تعرض لحادث وتوفي، دمعت عيناه، وهو يتذكر صديقه بقهر وشوق، وهرب إلى الشهر الذي قبل وفاة صديقه، وحاول مستميتاً ألا يغرق بالحزن، وأن يتابع عزيمته في محاربة اللكزوميل، لكنه ما كاد يتوقف عند ذلك الشهر، حتى انتفض هارباً كمن لسعته نار مفاجئة، فهو شهر الشؤم كما سماه، فهل ينسى كيف ضاعت حوافزه ومكافآته، ولم يقبض منها قرشاً واحداً، وكم كبت شكاوى، وكم احتد، وكم صرخ مطالباً بحقوقه وحوافزه، وكم حلم كيف سيقسم المبلغ المعتبر الذي انتظر طويلاً كي يقبضه، ليفصل بزة جديدة، وليدفع الدفعة الأولى لبراد جديد يلزمه بشكل ملح، وكم تخيل أنه سيرمي البراد القديم بمحركه الذي يصدر ضجة تصم أذنيه.. صرخ بنفسه أهرب، سنة إلى الوراء، ما بك بطيئاً تقفز شهراً شهرا..
وهرب عاماً إلى الخلف، فرأى نفسه في المستشفى وقد علقوا في وريد ساعده سيروما أثر إصابته بالتهاب الكبد، وقد رجّح الأطباء أن العدوى انتقلت إليه بابرة ملوثة بدم مصاب بالتهاب الكبد، وقد تكون إبرة الحفر الخاصة بطبيب الأسنان، أو لدى سحب دم، ليعاير السكرى كل شهر أو شهرين، آه كم قاسى في المستشفى، وكم أحس أنه مرمي بإهمال، يتمزق غيظاً من هذه البلية التي لم تخطر على باله، فهل يعقل أن يلتهب كبده، وما يجر هذا الالتهاب من اختلاطات، من مجرد اهمال أو خطأ، من ابرة ملوثة؟! وحين صرخ في المستشفى: أين كرامتي، كيف لا تهتمون بجدية بصحة المواطنين، ما هذا الاهمال؟ تململت ممرضة نزقة وقالت له باشمئزاز: كفى، كفى صراخاً، ففي أرقى بلاد العالم، تحدث هذه الهفوات.. هفوة، هفوة، كبدي المعطوب الملتهب، الذي أصابه القصور.. أسرع ينجد نفسه ويقفز سنتين إلى الوراء، ارتعد إذ افتكر كيف كان يجلس إلى جهاز أشعة لازر والطبيب يعالج شبكيته من نزوف غزيرة أحدثها داء السكري لديه، وكم كان يتعب ويقلق وهو يوصي على القطرات الموسعة للحدقة، وكم كره الحياة وهو شبه أعمى، يرى الدنيا حمراء من نزوف شبكيته، ثم يراها ضبابية، ثم غباشة رمادية لاحقته أشهراً طويلة، لكنه ثابر على جلسات الأشعة حتى شفي والإشعاع الأخضر المزرق يحرق شبكيته الهشة النازفة ويحرق، وهو يحتمل بصبر وجلد تلك الومضات القوية التي كانت تؤلمه وتبهره أحياناً.. حتى قال له الطبيب: الآن أحرقنا كامل شبكيتك الهشة ولن تنزف بعد الآن..
ورد بسره: لقد حرقت شبكيتي وقلبي يا دكتور.
فر هارباً من سنة العمى والنزوف، والمأساة التي كادت تدفعه للانتحار، لكنه عالجها بصبر يعجز عنه الحمار، ورجع سنة أخرى إلى الوراء، فطغت صورة دينا، آه يا دينا، كما أحببتك، أغمض عينيه وهو يرسم ملامحها مبتسمة مشرقة، لا يستطيع أن يتخيلها إلا والابتسامة تشع من وجهها النقي الأسمر، لكن لماذا تغيرت يا دينا، وصرت، تنفرين مني، وتوبخينني لأني أشرب الخمر أحياناً، طوال عمري أشرب قليلاً من الخمر يا دينا، حتى علاقتي بزميلاتي في العمل صارت تثير ظنونك، حرّمت علي أن أحدث زميلة أو أصافحها، وأقول لك يا دينا، أنهن مثل أخواتي فتصرخين، لا، لسن مثل أختك، فإذا اجتمع رجل وامرأة كان الشيطان ثالثهما.. لماذا يا دينا خنقت حبنا وحبسته في قفص حتى مات كمداً وحيداً تعسا.. لماذا نفيتني في عالم عجزت عن القبول به رغم عشقي اللامحدود لابتسامتك. شد صدغيه بيديه وقال لنفسه محاولاً التمسك بعزيمة بدأت تخونه، اقفز إلى الوراء، إلى الوراء، فستجد بالتأكيد ذكريات حلوة ستجعلك تسترخي وتنام، وتشجع وقفز سنتين وراء سنة دينا، فهب مرتعباً، وأسرع إلى ظهر الخزانة، وأوقظ حبة اللكزوميل من نومها الهانيء وقبل أن تتمطى وتسأله شامتة: ما بك، ألم تقرر الاستغناء عني؟ قال لها وحلقه قد جف تماماً: أنجديني، لا أستطيع تحمل ذكريات السجن.