بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:06:14 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1385 0


    مســــافــة الحـــلم

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    يتفتّح برعم السرير عن يقظة "مازن"، وتتهادى وردة وجهه الوسنانة فوق غصن قدميه الحافيتين...يسبقه صوته الطفولي مشرّباً ببحّة النوم: بابا..بابا!!‏

    يتلّقاه صوت أمّه بلهجةٍ لا تنمّ على ما خلفها من مشاعر: بابا في الاحتفال.. اليوم عيد العمّال، وأبوك راح يحتفل!!‏

    - يسأل بعفويةّ الأطفال: ونحن سنحتفل؟!‏

    - سنحتفل على قدّنا، وبطريقتنا، قم أنت اغسل وجهك، وأنا أحضر لك الحليب..‏

    بعد أن فطّرته أمّه مضى "مازن" نحو النافذة مستطلعاً: في الخارج كانت الرياح العاصفة تغير على الأشجار بوابلٍ من مطرٍ غزيرٍ... وكانت الأشجار تبدو متناوحةً مغلوبةً بيد الرياح العاتية التي يشتدّ هبوبها.. وعلى الطريق الإسفلتيّ القريب كانت السيّارات تخوض في المياه المتجمّعة وترشّ الرصيف برذاذٍ معتكر.. ولم يكن بمقدور المرء أن يخرج ليتمشّى ولا أن يرى لمسافةٍ بعيدةٍ، ثمّة لونٌ رماديّ كامد ينهمر مع المطر وغيومٌ متلبّدةٌ متراكمةٌ تحجب شمس النهار.‏

    لوحةٌ من الغُمَّى في غير أوانها!! ومن خلف زجاج النافذة بدا "لمازن" أنّه لن يتمكّن من اللعب مع رفاقه، ولن "يحتفل" كما وعدته أمّه.. والتفت إلى أمّه سائلاً: كيف يحتفل بابا اليوم، وأين؟! تجيبه:‏

    - مثل كلّ العمال.. يتجمّعون في مكانٍ ما، مثل كلّ عامٍ ويحتفلون على طريقتهم.. وربّما يغنّون و.. هكذا..‏

    يقول مازن: "ولكن: بابا لا يغنّي.. أنا ماسمعته يغنّي أبداً.. وعندما أغنّي أنا أو أصفّق يقول لي: عيب ياولد.. وطِّ صوتك؟!‏

    يعمّ البيت صمتٌ عميق، وعلى زجاج النافذة يتراكم بخار زفيره الطفوليّ، يكتب اسمه بإصبعه فوق الزجاج الغبش ويمحوه، من جديد يتكشّف له المنظر عن جنون الرياح، عن جموحها كجحافل خيول مجفلة، كآلاف الأشرار يمسكون خضرة الشجر بأيديهم الخرافيّة، وتبدو الأشجار القريبة كنساء أسيراتٍ يشدّهنّ الأشرار من شعورهنّ.. ويحسّ بالضيق..‏

    تقبل الأمّ حاملةً مجموعةً من الأوراق البيض وأقلام التلوين، وتفاوضه: حبيبي ما رأيك أن ترسم هذا المنظر الشتّوي وتلونه، وتضيف إليه مايخطر ببالك.. وعندما يرجع أبوك تريه ما صنع ابنه.. الفنّان العظيم الصغير.. مارأيك؟! وقبل أن يرفض أو يقول شيئاً تأتي الأمّ بكومةٍ من الثياب، وتبدأ عملية فرز وطي.. وصمت.. تأمَّلَ الثياب المدعوكة المتكسرة الأطراف المتداخلة المتشابكة كشعر واحدة لا يذكر أين رآها.. بل إنه ليُشَبِّهها بالمنظر الذي رآه في الخارج قبل قليل.. ثم ينصرف إلى الرسم.. رسم على قسم كبير من الورقة بحراً عميق الزرقة، ورسم شاطئاً رملياً فسيحاً جميلاً، وأطفالاً بثياب البحر.. بعضهم في الماء، وبعضهم يلعب بالكرة، ورجلاً يحمل كيساً كبيراً يجمع فيه النفايات، ونساء تجمعن تحت مظلّة يتناولن الطعام، ورجلاً يقرأ صحيفة..وفوق صفحة البحر رسم طيوراً بيضاً تفرد أجنحتها في فضاء نقي، مشرب ببعض الزرقة الخفيفة.. ورسم رجلاً يغطي وجهه بيديه بين مجموعة من زملائه يشربون القهوة على طاولة منزوية.. وضعت الأم المكواة جانباً واقتربت منه.. تأملت اللوحة ثم شهقت: الله!... ماهذا المنظر البديع؟.. ولِمَ يغطي هذا الرجل وجهه؟‏

    - هذا يشعل "سيجارة" والريح تطفئ الكبريت. فهو "يستحكم" بالريح.. والطريق من هنا يتجه إلى.. وقبل أن يتم كلامه تكون الأم قد أمسكت بالمكواة مرة ثانية وتابعت عملية الكي.. و"مازن" يكمل خط الطريق في خلفية "اللوحة"، يصعد به عبر السهول نحو الجبال، وعلى جانبيه يرسم حقول قمح، ورجالاً يحصدون القمح الذهبي اللون بالمناجل، وعلى التلال يرسم بيوتاً كبيرة وسيارات مقبلة من طريق آخر، وسداً قريراً في أسفل منحدرات جبلية، يلونه بالزرقة الفضية، ويرسم أقنية تترقرق فيها المياه، قرب واحدة منها سلحفاة مقلوبة على ظهرها (كان أبوه حكى له أن السلحفاة إذا انقلبت على ظهرها قد لا تستطيع العودة إلى وضعها الطبيعي، فتموت رافعة أطرافها وهي تلتبط) ورسم بيوتاً بعيدة، وقرى تحيط بها غابات وخضرة..‏

    كان النهار قد انتصف، والأم انتهت من الكي.. وسمع صوت الماء في المطبخ، وقرقعة أوعية، وشمَّ رائحة السمن الثقيلة.. وفتح "التلفزيون" لم تكن هناك صور، كانت مغنية تغني ولا تُرى.. وعاد إلى رسمه يحسن الأشكال والألوان ويوضح الإطار.. كان وحيداً جداً، ومرهقاً الآن، والأم في المطبخ.. والأب لم يرجع بعد.. وخَفَق العلم والموسيقى في "التلفزيون"، خيل إليه أن الإرسال قد انتهى.. فأطفأ التلفزيون، واستلقى على الأريكة... رسم "مازن" وطناً كما يهوى.. ونام...

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()