بدا على قسمات الوجه الهادئ تضامن ومودة، وجاء التساؤل على غير توقع: ولكن.. يطغى على ماتكتب لون من الحزن.. أهو طبع نفسي متأصل، أم محاولةُ فلسفةِ موقف أو نظرة إلى الحياة؟! وتذكرت قول أحدهم: "إن الفلسفة هي المجهود الذي يبذل لمعرفة مايجري الكلام عنه.. هي الصراع بين التعبير والمعبر عنه"... ثم بدأ في الذاكرة نوع من الترجيع أو "المونولوج" الداخلي يستقرئ وجوه الحالات أو يستفتيها باحثاً في الفرح، قبل الحزن، عن الجوهر والعرض..
فوجدتُ في الناس من يفرح فرحاً يدخله في الخفة ويفقده اتزانه لأنه ارتقى درجة في سلم لا يدري كيف أقيم، ولا أين يفضي به.. أو لأنّه ارتدى حلة جديدة، أو لأن أحداً راعاه في مجلس فمدحه بجملة مترهلة من كثرة اللوك.. أليس الحزن من أجل هؤلاء مشروعاً؟!.. أو بديلاً موضوعياً؟! ووجدتُ في الناس من يصوب نظرة غاضبة من وجه متسلط مَحْميٍّ تزرع الضيق، وربما الذعر، في قلوب الآخرين.. وسمعت ضحكات عالية مفتعلة كثيراً مابدت استخفافاً بالحاضرين وجرحت مشاعرهم.. وتأملت مراراً آثار نظرات مترفعة أقامت بين مرسليها وبين الآخرين زوبعة من عدم الرضا.. فقلت معتبراً: هذه المظاهرات لا تخلو من الأذى.. والحزن على علاته مظاهرة صامتة، ومسالمة.. وفي عصر القلق والترقب والتوجس هذا لا متسع عند الناس لمزيد.. بل قد لا يطالبون ليلهم بأكثر من طمأنينة الدعة والسلام..أفتبدو محاولة توخي الأمان اختياراً متلبساً بالكآبة؟!.. الحزن اختيار أحياناً، لا قسر ولا إذعان، ولا منهج.. والحزن أحياناً موقف ومساءلة، وإعمال فكر.. وفي الحزن إرادة الحضور الذاتي، في حين يبدو الاستسلام للضحك ضرباً من الطفو، وتخلياً عن كل موقف أو مساءلة، وإلغاء -قد لا يكون طوعياً- لاستقراء حركة الحياة من حولنا.. وفي الحزن أحياناً نوع من التجلي والاستبصار، في حين يبدو الإغراق في اللهو أو في عدم الاكتراث نوعاً من الغياب، أو نوعاً من الاستنقاع كقيلولة جواميس تُفصح عن عدم موتها بالاجترار.. يبدو عموماً شبيهاً بثمار القرع واليقطين المجوفة الفارغة من الداخل أو الممتلئة بالهواء والوهم، فلا هي ترسو راسخة في القيعان، ولا هي تطير فوق الماء.. لا تغوص ولا تحلق، قيلولة مستسلمة، ومن غير المعقول أن يتساوى الفعلان: فعل الأرق والمحاكمة وتفحص الأشياء من جهة، وفعل ارتجال الأشياء، والانقياد لعفويتها من جهة أخرى.. وثمة من لا يريد أن يسرِّي عن نفسه باجترار "السوالف" واستظهار المحفوظ المعاد كببغاء في قفص.. والحزن مريد، وإرادته علو في اختيار طبيعة الفعل، لا انقياد لكل ما يُمْلى، أو يجري، أو يكون.. وثمة من -في الظاهر أو من الخارج- يضحك ويسرّي عن نفسه مجاملة أو موافقة وإقراراً.. بمحرض، أو باغتصاب شبيه بأكل السفرجل.. أمّا من الداخل فتحزن بقرار ذاتي.. بمعرفة وباقتناع.. وربما ببهاء ونبل.. وثمة فرق بين من تضحكه إصبع في الخاصرة، ومن تحزنه صورة في الذاكرة، لا من المقارنة غير المتكافئة بين الحزن الحي، والفرح السطحي أبحث للحزن عن فلسفة أو هوية، إنّما أتلمس معك طريقاً إلى العقل مغايراً الطريق إلى الغرائز والجوارح.. وقد عفا الزمن على مقولة، إن الإنسان حيوان ضاحك بعدما قالوا إنّ له تاريخاً، وذاكرة وربما قالوا: ومشكلات؟!
من يعرف حزن المكان حين يضيق؟ حزن الكلام الحبيس الذي لا يدري متى يفرج عنه.. وإذا ما خرج لا يدري أين يتجه!
أقليلة غربة الكلام.. بل :أيسيرة هجرة الطيور والعقول والأشواق والسحب؟! الحزن محاولة شاقة لتفادي مخاضات القرف. معاودة العزم على التطهر بقدر ما تُفتح لك من اختيارات رديئة.. سعي دائب ليبقى الحبق مخضراً في كل الفصول.. رحيل مُعَنَّى يفتتح التجليات في خليج نظيف أعتقه المصطافون من التعكير، فصفا.
صلاة صامتة في مدينة ليست محجوزة لعروض مسرحية.. قصيدة من مطر سخي لا يُضْمِر للأرض غيرَ المحبة.. عفة العيون عما في أيدي الآخرين.. سمو محايد بأجنحة غير مستعارة، ولاء للمتعبين غيرُ مزيف ولا مساوم على نقاء الهوى.. طائر يحلق فوق الروائح والموائد والألوان والشراك، لا يحترق بتلاحق الأنفاس خلف مطمع، ولا يمرض بالعدوى.. الحزن كشف يتأبى على السائرين في نومهم.. شهقة تنتصب كرمح نحيل، قد ينكسر. لكنه أبداً لا ينحني..