بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:09:21 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1231 0


    امــــرأة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مســعود بوبو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة امــــرأة مســعود بوبو

    المساء قرير، راحته المدى، واللون رداؤه.. وثمة امرأة تدخل في اللون والمدى.. امرأة كجزيرة اختتمت غربتها، تهم بالكلام، ثم تؤجله.. وتتنهد كالأرض بعد مطر.. تدوِّم بنظرها في المدى المرتعد: الأفق يبدو مختنقاً بلون بنفسجي مزرقّ ومغبرّ.. ومحكم الاستدارة كالقيد.. وتبدو البيوت كالقتلى، والأشجار كتماثيل من رخام كدر.. ومامن غيمة في السماء، أو نجمة، أو جناح طائر.. لا صوت.. وشرفة البيت تتراجع بالمرأة نحو الداخل، وتغرق في الحزن والسكون.. تغص المرأة وهي تتشرب غيبوبة المساء القرير!؟‏

    تغيب المرأة لحظة داخل البيت وتعود بكأس تضعها أمامها ولا تصب فيها شيئاً.. تسند الكرسي إلى الجدار، وتسند رأسها، وعلى يدي الكرسي تريح يديها، وتستسلم للصمت.. بعد قليل، تقوم وتُحضِر إبريقاً تصب الماء منه على أصص النباتات الصغيرة.. أمامها. الليل يقترب، والوقت يبتعد.. والألوان تموت. تشعل المرأة سيجارة، تمجّ منها نفساً قصيراً، ثم تضعها في منفضة.. أمامها.. تروح ترقبها وهي تحترق.. لم تكن ريح.. وكان قلب المرأة مثقلاً بالليل الزاحف إليه.. وعلى مهل تمد يديها تجمع شعرها وترفعه وهي تغيب داخل البيت، ثم تعود إلى شرفتها ساحبة خلفها خيطاً نحيلاً من الموسيقى الخافتة.. والمدى يضيق كحلقة خاتم.. وأمام المرأة الكأس فارغة، وأصص النباتات ومنفضة الرماد.. وخلفها صور الحرائق، وركام من الرماد، وقوافل من عربات الأغاني التي توقفت، والسواقي التي نسيها الماء، وبلاد مقفرة من القصص، ومشروع دمع،وسفر حبيس... وهي في الوسط بحيرة راكدة لم تلق فيها حجر: شفتان مطبقتان كبرعم ورد لا يتفتح، وعينان كحيرة غريب على مفارق الطرق، وليل يحفر إلى القلب طريقه.. ليل يجيء خلسة، وعنوة يحتل المكان. لا يعلن قدومه ولا رحيله، ولا يخفي أثقاله أو ينساها.. وامراة مملوءة بالعزلة..‏

    وحين يغمرها الليل تفيق في صدرها الأسئلة.. من يوقف هذا الدُّفَّاق من الرؤى والترجيع؟ تقول شرفات البيوت إن ناشئة الليل أشد وقعاً، أو تعاود دفن الكلام.. تهرب المرأة من رقراق السراب إلى أصابعها الحزينة، وتعيد الإحصاء: المآذن، النجوم، أعمدة الكهرباء، السيارات العابرة أشجار الرصيف.. وتنتهي بدورة الفصول.. ودورة الفصول كدورة الدم، إلى القلب مآبها؟!‏

    تفتح باباً آخر، تمر منه إلى تحية الصباح الفاترة، فحديث المجاملة القصير، فالأخبار والأسعار.. وتخرج من ذاك لتدخل في درج المكتب الضيق، حيث الأوراق تلد الأوراق، وتزدحم القرارات والإنذارات والبلاغات والإيصالات والإشعارات.. أوراق للتصدير، وللحفظ، وللملاحقة.. وثمة أوراق أخرى في البيت: صحف،ومجلات، وكتب، وربما رسائل.. ركام من الأوراق.. عالم من ورق!!! والمدير مازال يكرر عبارات المديح الباردة ذاتها. وبنفس الابتسامة البلهاء مازال سائق الدائرة، والسمان، والجارة يقابلونها.. ومازالت تقبل مكرهة أو بغير شهية فنجان القهوة من زميلها في العمل.. وبشيء من الضيق تنظر إلى الغبار المتراكم على درج السلم، وتَعُدُّ خطوات الكآبة الصاعدة أو الهابطة عليه.. وتستعرض وجوه من وقفوا على باب الذاكرة ولم يلجوا..‏

    منذ سنين كان يهجس في البال أن كل يوم يمكن أن يأتي بجديد.. وأن التغير ممكن. كان مثل هذا الشعور يرف بعد فتح زجاجة عطر، بعد حمام، قبل الخروج إلى نزهة أو زيارة، بعد شرب قهوة الصباح، في رحلة حلم الليل الذي كان يرقّ أحياناً... وشيئاً فشيئاً تَقَوَّى في النفس أن الريح يمكن أن تموت، والزمن يمكن أن يقاد من عنقه كحيوان يمضون به مبكرِّاً إلى المذبح، وأن القلب يمكن أن يزهد في الخفقان ويستحيل إلى مضخة باردة.. وأن التغير يمكن ألا يحدث أبداً..‏

    وجه من النضرة يذبل في وجنتيه الإنسان.. وشرفة من شجن ينحسر عنها الصوت ليفتح نفقاً نحو المنفى والغياب.. ونشيج من أرق يتسلق قامة الليل ويعلو. وشهيق خفيض يتسلل إلى حقل من الظلمة ويرمي فيه ظل امرأة.. وتتشابك خيوط.. خيوط ناحبة من دخان، وموسيقى، ودمع.. تنسج قبة من السهر المكتحل بالحداد.. وأمام العين مدينة تفتح للنفس صحراءها.. مدينة لم تغالب نعاسها فاستلقت تحت خمدة الليل، وغاصت في الشخير.. استعجلت طعامها، وكوابيسها... ثم أقفلت نوافذ الاختيار وأغفت.. وعلى شرفة من أرق نبيل تتقد عينان كسيفين لم يغمدا.. تنتظران.. والفجر يقترب

    كلمات مفتاحية  :
    قصة امــــرأة مســعود بوبو

    تعليقات الزوار ()