أخيراً انتهت المباراة، وتحت ظلال الوقت امتد فتور قيلولة محايد.. لم يكن ما بعد الظهر مؤنساً، ولا معادياً، ولم يكن ثقيل الكآبة أو خفيف الروح.. كل ما في الأمر أنه كان متخففاً من تزاحم الأصوات.. لقّمت السيدة غسالتها الآلية وسحبت مجلة إلى غرفة النوم. وبين الغسالة والسانية خفق الزمن. كانت الناقة تدور والماء يجري، صارت الجاموسة تدور مربوطة إلى السانية والماء يجري... الغسالة الآن تدور والصوت يجري، أو الماء... يتساوى في الذاكرة الصوت والماء والزمن واللون والانتظار... وخلف النافذة يتساوى اللون والمدى والإحساس بالأشياء.. الوقت مضيع بين نور النهار الآفل، وظلمة الليل المقترب، لون خليط من الكدرة الربداء، ولا لون.. كأنها منطقة انعدام الضوء، كأنه وقت رهين الحيرة والتردد، والغسالة كالوقت تدور، كالرأس والأسئلة...
قبل ساعة كانت أشجار الغوطة واقفة كأنها تنتظر مرور أحد، وفوق دمشق يطفو ذلك اللون الرمادي المعلق، كأنه ينتظر من يهبط به فوق الأسطحة، أو من ينفخ فيه ليعلو أكثر، والريح راكدة... والغسالة تدور.
لوحة "آية الكرسي" بخطها الديواني النافر المذهب ثابتة على الجدار الغربي، ومن مكان ما تجأر موسيقى أمريكية، وعلى الجدار الشرقي يتدلى سيف يماني من علاقته. أبو محمد يغسل سيارته ويتفحصها كما يفعل كل يوم. وصوت الشيخ عبد الودود يكرر آذان المغرب بالدرجة المألوفة من الهدوء.. لعله تسجيل؟! والأستاذ أحمد أيضاً في قيلولة لا يعرف كيف يصفها: هو ليس على خلاف مع خديجة، ولكنهما لم يتفقا نهائياً على موعد الزواج، الأمر الذي ظل كما هو منذ ثلاث سنين... على غير توقع يصل الصوت سائلاً: أسخن لك القهوة؟!
-لافرق، باردة أوساخنة، لا فرق... لا فرق!!. وتتساءل: ماذا لو عممت هذا الحكم؟ من شرفة البيت حتى الأفقِ فالسماءِ يمتدّ فراغ اللون الباهت، وعلى إسفلت الشوارع ترتمي العين والدهشة كعقب سيجارة منطفئ، يموت في داخلك اللون والتعجب، وتدخل في خريف سديمي. خريف ليس بارداً ولا عاصفاً وليس حاراً، ولا ممطراً، حتى درجات الحرارة تبدو كتلك الأشجار واقفة. والأخبار فاترة كتلك المباراة المرتبكة.. ثمة كرة يدفعها القوم، ويجرون خلفها جميعهم، كأية مشكلة على الساحة السياسية.
تنكفئ نحو الداخل، وتنصت: الغسالة ما تزال تئن: بغير لهفة تفكر بمخرج من هذا الاستنقاع، وحين تستحضر الطرق والأماكن والوجوه يتساوى الداخل والخارج.
وتتساءل أيضاً: أنفسك هي التي تتململ نازعة نحو الأشياء أم أن الأشياء تتدافع نحوك؟! أيكون مصدر الضيق يفد إليك من الإطار المحيق بك، أم هو من فرز معاناة ذاتية! تقول لنفسك لا فرق، وتنصت إلى نشيج الغسالة وهي تدور غير عابئة بما حولها..
لم لا تقيم نوعاً من المصالحة والتحالف مع هذا الصمت.. إن الفصل مُواتٍ لذلك، فما الجدوى من إعادة قراءة هذه المذكرات القديمة؟! أجل، ربما كان ذلك الماضي سوياً، خلياً من الكدر والتوزع، ولكنه دفتر قديم وانطوى.. ومن العبث بذل كل ذلك العناء المجاني لرسم قسمات مستقبل قد لايجيء أبداً. وليس في الصمت صفات ذميمة، بل إنه لحميد في كثير من المجالس والأوقات.. ثم ما جدوى الكلام في زمن العلم والعمل والإنجازات والآلة؟! الكلام اليوم ينزلق على راح الوقت، ويرحل كجنازة فقير، وفي سرعة ونهم تمتص حركة الحياة الصاخبة كل الأصداء، وتتشربها فلا تصل إلى الآذان، ألا ترى كيف بدأ صوت الشعر يخبو؟! ألا تعتبر بالحس العملي لعلاقات الحب: لم يبق مجال للتسار والبوح والنجوى. لم يعد الشباب يسألون عما في النفس من مشاعر الترقب وشجون البعد، صاروا يسألون عن الممتلكات.. وإن برّح بهم الشوق تلفنوا.. حتى في العلم صار هم إدارييه أن تنجو مؤسساتهم من المشاكل أو المخالفات، وغاب السؤال عن جوهر ما تقول أو تقترح، وتساوى عند بعضهم الغياب أو الحضور، الكلام والصمت، إن الصمت جميل أحياناً، وجليل في أماكن العبادة والصلاة والمقابر.. قد يكون مخيفاً أسيان أحياناً، ولكن ثمة ما يشعرك بديمومة حركة الحياة من حولك فتطمئن: بوق سيارة منغم، طرير حوامة تعبر فوق الغوطة، أصوات أطفال يلعبون... حتى صوت هذه الغسالة يمكن أن يكون مهدئاً لأي احتدام داخلي.... وشيئاً فشيئاً تغرر بك الهواجس، ومع قليل من المكابرة والملاينة تبدأ الدخول في المصالحة، في التخلي، تبدأ تذوب في لون المساء الغبش، وتطفو راكداً كهالة كدرة مِنْ تنفُّس المدن، لابِداً في صمت البيات الشتوي، وقد تمعن في الاستكانة والرضا وتغفو ومن حولك ما تزال الغسالة تدور