التقت عيناي بعينيه في إحدى الليالي الطويلة. كان الفجر يقترب وأنا في رحلة مع الأرق والتفكير، كنت متحفّزة، متفائلة، مملوءة نشاطاً، يفوق قدرتي
عشرات الأضعاف.
أجلس بعينين مفتوحتين. أعبّ من هواء الغرفة نفساً مفعماً بالأفكار، وقد توصّلت إلى مواجهة هامّة مع تعايش لابدّ منه، إذ حللت عبر الحلم، أكثر ما ترتّب علي من ديون، خلال مرض أمي وعلاجها الضروري، فالهموم تلاحقني في ساعات القنوط، فأضطر للبحث عن طريق وأساليب مغرية، عبر دراسة وتمحيص، أؤجّل تحقيقها إلى فرص لاحقة، أزيّن بها الخطّة، أحيك الطرق، أحوم حول أهم مادّة تستحق الاهتمام والاحتفال اللائق، فتبرز في كل مرّة قبّعة جدتي.
تصبح أجمل وأهم، تستيقظ أحلامي حين أتذكّرها، أو حين أقارنها بقطع فنيّة نادرة، وأكتشف باستمرار طابعها الخاص، المميّز، أو أسترجع مواصفاتها عبر التذكّر، فجدّة جدّتي اعتمرتها في المناسبات، اختالت بها، افتخرت، إذ حاكتها أمهر يد، وصنّعها أسلوب فنّان. أنتشي مع ومضات الأمل، تُحلّ مشاكلي عبر احتفال أو استعراض. تدخل القبعة في مزاد، أو تهافت علني، كاحتفالات في الذاكرة، يُخضع مثيلاتها لما يعود بالنفع، أو الفخر، أو كليهما، فتحلو لعيني القبّعة، أهرع إلى الدرج الخشبي، أحاورها، أرفق بملمسها. أصل إلى قناعة بتغيير جذري في أمور حياتي، أستجلب الطمأنينة، إذ سأفاجئ الجميع بمسببات الراحة.
أجفلت في اللحظة التي التقت عيناي بعينيّ الجرذ، غير أنه لم يجفل، استقبلت أفضل فكرة هاجمتني، وأنا أشحن نفسي بتهديده. أزحت الغطاء بقوّة أثبت وجودي. حملقت بعينيه متحدّية. تحفّزت. صرخت. لم يعبأ بي. كان عند الباب الذي لا يبعد عن السرير كثيراً، جريئاً، قوياً، حرّك ذنبه وشاربيه، تملّكتني جرأة، نهضت، أصبحت في منتصف الغرفة.خطوت. خطا. تحفّزت، تحفّز. أدار ذنبه وقفز. قفزت وراءه، كان سميناً، له رأس وذنب متعاكسان في الحركة. أدرك تعقّبي. تباطأ، أصبحت المسافة بيننا واحدة. اقترب من مملكته العظيمة. دخل المطبخ. تخفّى فوق أحد الرفوف، ليظهر شاربه مهتزّاً بثقة. وخلال رهبة قادمة، تملّكني شعور بالضحك واليقظة معاً. تسمّرت في مكاني.
دخلت اللعبة معه. استطعت التوصّل إلى عالمه الليلي، هو أرق وضجر مثلي، يهوى اللعب والمزاح. أقصى أحلامه تنتهي هنا، حيث يمتلك أسباب العيش، وأقصى أمانيّ تدور حول شعور مواز لأحلامه، شعور ينهض بي، يرفع الضغوط عن كاهلي، أقهر الحاجة، وأقهره، فقد تمادى أكثر، وكبر أكثر، أصبح أكثر جرأة، ونداً لي، يراقبني يتحداني، شعرت بالخوف. هربت. أغلقت باب المطبخ. عدت أدراجي نحو السرير.
لم تكن القبعة وليدة المصادفة، بل تخضع لمدّ وجزر، بين الحاجة والاكتفاء. أول الشهر وآخره. تتكرّر وتصبح هاجساً وحلماً، وفكرة مؤجلّة من خوف قادم، أو مناسبة أهمّ، فشقوق البيت تهدّدني، ومؤجّره يهدّدني، والجرذ مذ أصبحنا أكثر من كائن، ومذ خبر الحياة، وتعلّم، واعتاد السمّ، وتحاشى المصيدة التي وصفها جزّار الحي بالخبرة والاحتيال، أيضاً يهدّدني.
كتبت رسالة في إحدى عشيّات التفاؤل، إلى صديقتي التي تسكن بلداً شقيقاً، وتعمل لكسب المال، حدّثتها عن أحلامي القادمة، عن الفكرة، عن شوق وخطط لتحقيق الأمنيات. حدّثتها عن قبعة جدتي. وصفتها، لونها، عمرها، صناعتها. ستهبط الثروة ذات يوم وأغتني. لم يفتني تذكّر الجرذ، الذي سيهاجر في أول مناسبة، وختمت الرسالة بالتمنيات.
غفوت على حلم عذب الصورة.. عوالم لا حدود لأفراحها، قبعة ومزاد وجماهير، أصابع تتسابق. أرقام تعلو، وجوه تتحفّز. عيون تنتظر، وأنا بين الحقيقة والحلم، بين قبعة جدتي والثروة، العوز والاكتفاء، الحاضر والمقبل، استيقظت.
بدا ما حولي، وعلى اتساع عيني، وحشاً ضخماً، غولاً بشعة، فركت عيني، هززت رأسي، قلبي يخفق، أحلامي تنأى، تساقطت آمالي دفعة واحدة. نهضت كالمشدوهة، ألاحق آخر محاولات صديقي الجرذ، الذي ملأ شدقيه بطرف القبعة، وكان يهرول. يطوف في البيت، وزواياه، زرع الأرض، المطبخ، حاول دخول الجدار المتصدّع، مجاهداً، مناضلاً، مخلفاً لي الأسى، وبقايا إرث اندثرت عنه المعالم والأحلام.
أغمضت عيني، ورحت في إغفاءة عبر الحلم الذي لا أدري إن كان سيتجدّد