بتـــــاريخ : 11/20/2008 9:46:00 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1280 0


    مـــــواقــــع

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ماري رشو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة مـــــواقــــع ماري رشو

    تسابقت عصا الرجل مع خطواته ليعبر المدخل. كان ماهر أثناء ذلك يبتسم، وهو يسترجع ما دار من طرف ونكات، في الليلة السابقة، ويقلّب بين يديه صفحات التسلية والكلمات المتقاطعة، مستعيداً وجوه أصدقائه وهم غارقون في الضحك.‏

    عبر الرجل المدخل. توقف. ألقى التحية وهو يغضّ الطرف، وكأنه يتعمّد إتاحة الفرصة، لإظهار حالته الصعبة أمام ماهر وهو يتمتم:‏

    -تبدو شاباً طيباً.. ستساعدني حتماً.‏

    نهض ماهر. استرق من الرجل نظرة. استشفّ الأسى في العينين. تذكّر أحاديث أمه عن المسنّين والواجب الإنساني. أجاب بثقة:‏

    -ما حاجتك؟‏

    نقّل الرجل نظراته فيما حوله. الجدران. النوافذ. ثم الأرض. فالمفروشات، وعاد إلى ماهر يقول:‏

    -إني غريب.. أحتاج إلى المساعدة.‏

    سيساعده.. نهض وهو يفّكر. قبل أشهر ابتاع له والده هذا المكتب، حدّثه عن أعمال لها علاقة بالبحر. راقب الرجل خلسة، كان وجهه يوحي بالأسى، أو أن ظلماً ما قد ألحق به، فحاجته للعدالة أقرب من حاجته للبحر ودرره. قال بود:‏

    -لا بأس يا عم.. أنت تبحث عن محام. إنه في الغرفة المجاورة.‏

    ردّ الرجل بتذمّر لا يخلو من التحدّي قائلاً:‏

    -لا.. إني أبحث عنك. قرأت اسمك على اللافتة.‏

    جلس ماهر أمام الرجل، فربما جاءت الفرصة للحركة والعمل اللذين يفتدهما منذ أشهر. كان الرجل خلال ذلك يحدّق بعينيه، وفجأة بسط راحة كفّه، وقد شدّ في الكف الأخرى مقبض عصاه، بينما تهدّج صوته. قال:‏

    -خدمة صغيرة. أقهر الحاجة. إني مريض، والحسنة لا تضيع.‏

    وقعت الكلمات على ماهر كالصفعات، وبدون أن يدري اختلس منه نظرة أو أكثر، حلّ صمت، كان ماهر خلاله مكفهّر الوجه، لم يكن يدري، هل هو غاضب من الرجل أما متأثّر عليه؟ وكيف سيتعامل معه؟ ماذا سيفعل؟ هل يقدّم المساعدة أم يرفض ذلك؟ هل يسأله الحديث؟ أم الحوار؟ هل يسأله عن أبنائه؟ أم أصدقائه؟ أم..‏

    حين أتته الفكرة لم يكن يقصد ماحدث، ربما كان الفراغ، أو ميله الفطري، وربما الضجر، أو؟ نظر إلى الرجل الذي لا توحي هيئته بالعوز. ونهض. دار حول نفسه مصطنعاً الارتباك، موجّهاً السؤال. قائلاً:‏

    -أنت تبحث عن السيد ماهر إذن؟‏

    توسّعت عينا الرجل. كان ماهر يتابع بصوت متهدّج:‏

    -ليتني كنت هو! إني العامل. أنظّف الأرض. ألمع الأثاث، وأطبخ القهوة.‏

    علا صوت الرجل مستغرباً، متسائلاً:‏

    -أنت؟!‏

    هزّ ماهر رأسه بالإيجاب.‏

    أطرق الرجل برهة. عاد بملامح ذكية، مستخفّاً بحياة لا توزع الأماكن الصحيحة للرجال. غير أنه أصرّ على طلب الحاجة التي هبطت نسبة الحلم فيها، قال:‏

    -أنت تعمل وكفى!‏

    بوغت ماهر. سأله بجدّية:‏

    -لم لا تعمل أنت أيضاً؟‏

    فوجئ الرجل. عاد متأسّياً، قال:‏

    -وما الذي يعمله رجل في سني؟ أصبحت مرهقاً.‏

    تمتم ماهر:‏

    -الحق معك. اعذرني.‏

    أحسّ ماهر بالخجل، فالرجل بعمر والده أو أكثر، فكّر بأمه التي ترفض طريقته في المزاح، وتخاف أن يوقعه ذلك في مأزق. غير أنه ولأسباب لا يدري حقيقة مصدرها، ولربما لأن عيني الرجل اللتين راحتا في رحلة عبر المكان، وأخذتا تجولان من خلال النوافذ والأبواب، دفعتا ماهراً لسحبه من أحلامه قائلاً:‏

    -تصور! أسكن ملحقاً حقيراً. لي زوجة وأبناء، نتشاجر في كل حوار، وأتلقّى نظرات العار من أعين الجيران، كلما التقيت بهم.‏

    اهتزّ جسد الرجل. لوّح بعصاه متسائلاً:‏

    -تسكن ملحقاً؟‏

    -وأربي طيوراً للبيع!‏

    -وراتبك الشهري؟!‏

    صمت ماهر مصطنعاً الأسى، وأطرق متيحاً للرجل فرصة معاينة حالته. سمعه يردّد مشجّعاً؟‏

    -حدثني أكثر يا بني!‏

    أصلح ماهر من جلسته، أصبح وجهاً لوجه مع الرجل. حدّثه عن الماضي، عن الحاضر، عن عمله كأجير عند السيد ماهر الذي غادره قبل أشهر، وعن مسؤولياته تجاه المكتب، ثم لا عمل، لا مراجعات. يجتر الكسل والضجر، ولا يقبض ثمن الوقت الضائع.‏

    صرخ الرجل بجدّية:‏

    -لو كنت مكانك، لغادرت وبحثت عن الرزق.‏

    اصطنع ماهر البراءة. قال:‏

    -وماذا أعمل؟ لا شهادة لدي. لم أتعلّم أو أنتسب إلى مدرسة.‏

    وتابع وقد لاحظ الدهشة والأسى، في عيني الرجل قائلاً:‏

    -هذا المكتب أمانة في عنقي، ريثما يعود السيد، ونهض بتكاسل قائلاً:‏

    -كيف تشرب القهوة؟ سأطبخها لك.‏

    تمتم الرجل:‏

    -حلوة.‏

    وضع ماهر ساقاً فوق الأخرى، وأخذ يرشف القهوة على مهل. راح في تأملاته، هل سيصدّقه أصدقاؤه؟ تصوّرهم غارقين في الضحك، يحثّونه أو يتّهمونه. يزداد نشوة، يزداد الصخب. يضحك. يضرب كفاً بكف. كان غارقاً في التفكير. قطّب. ابتسم. خفض رأسه. علا به. مال جانباً. غيّر من جلسته، وعاد ثانية للابتسام، وقد نسي الرجل الذي راح يراقبه، والذي مال نحوه بكل رقّة وثقة، مردّداً بصوت حنون:‏

    -لا تهتم يا صديقي! وتابع قائلاً:‏

    -ألا تعتقد أننا أصدقاء؟‏

    كان ماهر فاغراً فاه، حين تابع الرجل مؤكداً:‏

    -إنها الحقيقة. نحن أصدقاء. تجمعنا الحاجة.‏

    سحبته كلمات الرجل من أفكاره، وقد تلمّس في نبرات صوته الصدق. لم يستسغ ما قاله، ولم يتذمّر أيضاً. كان مندهشاً، وهو الذي انساق في لعبته هذه، ليرى نفسه متورطاً بأحاديث لم يحسب لها. شعر بأن كل ما تعلمه في حياته من مبادئ وقيم، تنهض الآن في وجهه، تحاسبه. تؤنّبه. أتاح له الصمت إطالة النظر إلى الرجل. فكّر بحالته التي دفعت به إلى التسوّل. شعر بالخجل مما فعل، بالتعاطف. كانت ملامح الرجل أثناء ذلك تزداد حنوّاً، وصدقاً. لعن نفسه. لعن أصدقاءه. لعن الفراغ، وميله الفطري. كان قد قرّر الاعتراف، والاعتذار، حين فاجأه الرجل قائلاً:‏

    -ستفرج يا صديقي!‏

    همّ ماهر بالشرح والتفصيل، لكن الرجل منعه بحركة من يده، وبنظرة تكاد أن تكون صارمة، ومن خلال الذهول الذي أصابه، استطاع أن يتلقى أجمل التعابير، وأحلاها، وكأن الحياة قد أغدقت الحنان بطريقة مثلى، وبسخاء. شعر بالارتباك، بالعجز. نهض متلاشياً، مستسلماً، خجلاً، حين رمى الرجل عصاه وقال:‏

    -سأسرّ لك، بما يؤكد صداقتي ونواياي.‏

    حافظ ماهر على الهدوء، وكأن ما سيقال أو يحدث لا علاقة له به. كان منشغلاً بالطريقة التي سيوضح للرجل بها. كيف سيبتدئ؟ ماذا سيقول؟ لكن الرجل الذي انهمك بتأكيد صداقته، عبر أكثر من فكرة، وكأنه قرّر عدم إتاحة الفرصة لثرثرة ماهر. اقترب بطريقة أقرب للصدق وهو يهمس في أذنه:‏

    -سأقدم لك مساعدة!‏

    استشاط ماهر غضباً.. صرخ بعصبية:‏

    -اصمت يا رجل!‏

    عاد الرجل للهمس مؤكّداً:‏

    -لدي أموال. بعضها في المصرف.‏

    صرخ ماهر بجنون.‏

    -أيها المجنون.‏

    استرق الرجل نظرة فيما حوله. تابع:‏

    -اخفض صوتك. صدقني لست مجنوناً و لا كاذباً.‏

    هدأ ماهر.. راقب البنطال.. القميص.. الحذاء.. أحسّ بالإهانة. ردّد:‏

    -لا أريد شيئاً بعد الآن. باستطاعتك الرحيل.‏

    ابتسم الرجل. قال:‏

    -أنت عزيز النفس. سأثبت لك صداقتي بطريقة أفضل. أحد معارفي من أصحاب الشركات.‏

    تستعيض عن سيّدك ماهر، وتعمل عنده.‏

    صرخ ماهر بعصبية:‏

    -يا إلهي!‏

    قال الرجل:‏

    -الرب موجود دائماً.‏

    كرّر ماهر:‏

    -يا إلهي! لقد تبادلنا المواقع!‏

    مع ضحكته المجلجلة، هرول الرجل خارجاً، غامزاً أن له عودة. كان ماهر في أثناء ذلك يقبض على عصا الرجل بكفّ، ويمدّ الكف الأخرى، ويصرخ منادياً. غير أن الرجل ردّد دون أن يلتفت إلى الوراء:‏

    -رائع صديقي هذا. لقد جنّ من الفرح.‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة مـــــواقــــع ماري رشو

    تعليقات الزوار ()