بتـــــاريخ : 11/21/2008 6:56:13 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1485 0


    يـامنـــــــة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : الحبيب السائح | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة يـامنـــــــة الحبيب السائح

    يامنة هي سيدة الحي، والحي ولى عن ذكرها في وقائع الموت المتناقلة أخباراً ومشاهد للأحياء المنتظرين، لا ينبسط لها، كما عادته أيام عزها، بالمرمة والتنقيبة والكعب والتمرويلة، تبهر الأطفال والصبايا إذ تخرج عليهم في محفل سيدات ما بعد الاستقلال، واحداً، واحدة، تتفرسهم بخزرة تشع رهبة ومودة، تعرفهم، فإذا نادت أحدهم كنته بأمه أو بأبيه، ولم أكن أتوقع، قبل هذا العام أن تمر يامنة عبر طريق يلعب فيها الأطفال فلا ينصرفون عنها منشغلين بلعبة النينجا والإرهابي، أو الأرض والسلك، فأروح ألملم تشظيات لحظاتي التي التهمت فيها أدراج صعودي إلى جرأة أن أدعو يامنة، أقول لها، هناك في محطة الطاكسيات ذات مساء شتوي، نكون فرحان بزاف، بزاف، إذا يوم التقيت بك. ويوم التقتني صدفة في محطة أخرى قالت لي: تعرف سعاد؟ ثمة نستناك، العشية، الخمسة.‏

    السلك ينغرز في الأرض، كما السكين في السمن، فسيول الخريف وأمطار أوائل الشتاء وأيام الشمس التي أعقبت أخرجت الأطفال، مثل النمل، يرشقون أسلاكاً حرابا، ويفوزون بأرض سرعان ما يغادرونها أو يتلفون حدودها، ولا ينتبهون إلى يامنة إذا مرت، فيواصلون لعبتهم أو جريهم، أو عراكهم، ويوقفون كل شيء إذا رأوا سيارات النينجا تمر، أو أقاموا حاجزاً فجائياً، تبهرهم رشاشاتهم يمسكونها بيد واحدة كلعبة، وتدهشهم قاماتهم الفارعة وصمتهم وزرقة ألبستهم وسواد أحذيتهم الطويلة إلى الركبة مزينة عند الساق بغلافات لماعة، ويتساءلون أين يبيتون، ماذا يأكلون، وهل لهم أصدقاء وأمهات، وهل يموتون ويكونون أول المتحلقين بمكان الحصار المضروب على مسلح في عمارة التجأ إليها بعد مطاردة، وفي الغد يصنعون بنادق ورشاشات ومسدسات من خشب ويتطاردون، ويرمي بعضهم بعضاً رصاصاً يخرج من أفواهم، متسترين بالأشجار وبزوايا الحيطان وبالسيارات المتوقفة، ويصعدون أدراج العمارات جرياً وينزلونها تزحلقاً على حوافها، ولا يعبأون لزمن تنزل فيه يامنة من طاكسي أو تركبه، وينسون أنهم قبل سنة لعبوا لعبة المحيرقة، إذ يجدون طلقات المسدسات والرشاشات أكثر إثارة من طفولة لنا لم نكن قد تشربنا عفرتتها، أتملك بقبضتي الراعشتين نهديها المكابرين، أجدها لم تلد ولم ترضع.‏

    ولا أذكر لحظة أني علقت ثدي أمي، ولا رأيته مرة، ولكني في ليالي الشتاء الباردة، إذ يوقظني قضم الفأر أو جريه في سقف البيت، وأصاب بعده بأرق، لا أجد غير صدر أمي دافئاً، ندياً، مهدهداً، أشهق منه رائحة لجلدي، تهومني خفيفاً طائراً سابحاً، فقد دخلت المستشفى ذات مرة لتعود منه بثدي واحد، وفي العام الموالي بكيت أمي، ومززت حلاوة حلمة ثديها دمعاً في الغياب، ورأيتني في مرآتها دما لها وحليبا.‏

    وفي الحوض يامنة تنسيني رائحة أمي، تسترق مني بقية من طفولتي لا أذكرها لأمي، بيد أنها لا تسترجلني في الحوض خاصة، وأنا أعرف أني، بعد الحمام، أمتز فاكهة، وأستلذذ شواء، وأطفئ ظمأ بالآنيزات، وأرفع لها نخبا بالكلمات، لا تسمعها إلا مني، أدرك أنها سر من أسرار سحري، أروض بها في يامنة جموح امرأة في الأربعين، تقول لي في الفراش: لو تزوجت صغيرة كان ولدي قدك.‏

    وأنا في عينيها الصادقتين أقابل يامنة الأخرى، تلك التي تحضر فيها شابة يانعة طرية سخية، وفادحة! ولكن سرعان ما تفجيرات الكبريت المضغوط في ثقب ذراع آلة الحلاقة القديمة بالمسمار المشدود إليه بخيط، ويامنة، مثلهم، كطفلة، تخلت عن كثير من أنواع لعبها معي، وقد كنت أنا الذي يجد المتعة في أن تدعوني حيث لا أكون منتظراً، تفتح لي باباً لم أدخله من قبل، وتجلسني على فراش صوفي من خملة، وتسقيني، كما عادتها، في البدء، حليبا بتمر دقلة طولقة، تنهضني كأي طفل، تقبلني على جبهتي، ومن يدي تقودني إلى الحمام، فثمة تخلع عني ملابسي، وتجذف ماء الحوض بيدها تستطلع حرارته، ثم تدخلني فتأمرني أن أغمض عيني.‏

    لا أذكر أن أمي أدخلتني حماماً ذات مرة، ولكنها حكت لي كيف أن أبي كان يقودهم، هي وجدتي وأخوي، ليلاً، راجلين إلى حوض الحمام المعدني، يتحممون ثم يعودون في ضوء القمر فلا ألبث أن أحس البشرة البضة الملساء ترعش في جسدي، فأنصعق، فألتفت إليها، يا رب الغواية والنعيم! فتقبض على وجهي هامياً بين يديها الناعمتين المنعمتين، أبتسم لها، وأفاجئها سفحاً، وأنسى أنها سيدة، وأحضنها امرأة جسداً بين يدي عارياً من أي عجرفة خلعتها عليها الأثواب، وزكاها المقام، تطاردني كما أتوهم أفتقدها كالفراشة، لحظة أن تبدأ يامنة في بسط سيادتها فأعلن الانسحاب.‏

    واليوم لا أقوى على الوقوف في معبرها حيث لا يجب أن أكون، فقد تتجاهلني إذا عاينت أن في المكان المحيط ما يصرفها عني وعن الآخرين، غير أنها تحدس أني أكاد أكون الوحيد من يفسح لها في أن تجلي عزتها، في ما تبقى لها من فضاء أراه يضيق بها في كل حين فأجدني منقبضاً لإشفاق، ليس يجدر بامرأة مثل يامنة أن يحس تجاهها، ولكن هي الأيام! أحسبها تذكرني إذا ما أبديت لها شيئاً من الإشفاق، وقالت لي آخر مرة: إن الحكيم كحل عينيه، وهو يبيت ليلة كل اثنين وخميس داعياً متهجدا باكيا متضرعاً.‏

    القوم أضلوا كل سبيل، وفي صدورهم انعمت البصائر، فرحمتك الواسعة أنزل، يا رب هذه المدينة.‏

    وأهل الحي لا يعرفون أن يامنة زارت الحكيم ثلاث مرات، لأنهم منشغلون تائهون ضالون، ومنكبسون منتظرون، أستوحشهم، وإذا يراني نفر منهم يكب أو يغير نقطة ارتكازه في فضاء مائج، ولا أنا أقدر الذي دار بينه وبينها، ولكن نساء في الحي يزعمن أنهن رأين يامنة أوقفت سيارة لدى بابه وأنزلت له سميداً ودلوين وصندوقين، وثلاثة أفرشة صوفية: بلاك ربي يسمع دعوة الصالحين، هذا عام ما دارت فيه الوعدة، ولا انخلى فيه البارود. وقالت هي للحكيم: جدودك خايفة من سخطهم. فإنها لم تفتح نوافذها الأربع، في الطابق الأول ليسمع الجيران والجارات، أطفالهم ونساؤهم ورجالهم وفتيانهم وصباياهم، الزهدة بالطبل والقلال، وبحات الحناجر المحرقة بوجد سيدي عبد القادر الجيلالي، ترجع مدائح سلام، ترسمها العيون شوقاً إلى إشراق وتوزعها سيما وجوه فيها بقايا من زمن جميل، كلهم أبيض العمامة والعباية والحفاظ والتقاشير، وقسم شيخهم راس يامنة، منذ عام لم أعد ألقى شيخهم، أكب على رأسه، أزوره، وأترجاه أن يدعو لي، يقول لي: مولى زوج مكاحل ما يخيب له صيد، جدود أمك أهل حكمة، وجدود بوك أجواد، يامنة ما تحلف إلا بهم، ووعداتها لمرضاتهم، سيدي محمد بن يحي قراي الجنون، وسيدي عيسى بن موسى ولي الصالحين، عليك ستر الله والوالدين. لا ترد ليامنة رجا. ومنذ عام أرى يامنة لا تخرج إلا إلى الحمام متحفظة على إظهار بقايا مفاتنها تحت المرمة، أو من حفل ختان، أميرة بلا إمارة، وامرأة لا تزال تشحذ أنوثتها قواماً رشيقاً من شجرة عمرها العنيد، أسألني كم عاشقاً قبلي أو بعدي يجب أن يكون احترق فراشة على حرارة جسد يامنة المنحفر في ذاكرتي عروس بحر.‏

    رأيت ذات ليلة قارسة، على صدر أمي مريضاً بالحصباء، أنها أخذتني من الشاطئ حيث كنت أنتظر أبي يعود من البحر ونزلت بي عمق الماء الأزرق، ولكني أجد أيامي هي التي تحترق بنار قلقي يفقدني أملاً في حلم قادم، بعد يامنة، أتنفس فيه ملء قناعاتي الأشد بساطة، الأفظع تصوراً. أحسني أنا بصيغة الوجود، أعيش ذاتاً في بنية المفرد، فإني أحدس شراً بي متربصاً، يدمدمني في هذه المدينة ثم يسفيها وأقول لعلني إنما من شدة فزعي لهول منتظر، أتوهم شناعة النهاية، وأتراجع إذا أبصرت بيامنة صامتة صامدة، أستشف في طيها بكاءها على زمن لم تكتمل مزة حلاوته، ولكن مزهوة بقوام جسدها في وجه الفناء الجبان، متمردة بحرارة قلبها على موتي قبل الأوان، لا أراهما، أنا، إلا قضاء قد حل علي وعلى الآخرين، وأخشى إن كانت يامنة تحس تأثري فلا تجد لدي الشجاعة لأبديه لها علانية، فهي لا بد، كما أتيقن، متأهبة لتلقي الطعنة الفاتكة، أو الرصاصة الماحقة.‏

    قبل ليلة، في فراشي البارد من حرارة جسد أنثى، رأيت يامنة أخرجت إلى ساحة عمومية مربوطة على صدرها إلى عمود، عارية الظهر، والكرباجات صقور تنهش لحمها، ثم تحوطها خلائق كالطيور، لها أيادي البشر، ترميها حجارة، من تحتها، عند جذع شجرة أطل خيط من دم تشممه جرذ، فهبت عصفة ريح طردته، ونفضت الشجرة أوراقاً تغطي دمها الباكي، وفي السماء رعد وبرق وغضب أمطار تفوح رائحتها المببلة منذ الخريف الأخير.‏

    قالت لي لم أشعر بألم. ولم أسألها إن كانت شعرت بندم. أما الأسف فإنه كان أحق بي. قال لي شيخ الزهاد: يامنة خدمت أولياء الله الصالحين عشرين عاماً، عمر ما اكتشفت نار الغواية في جسدها، اتخذتها قواماً بين أنوثتها وبين شهوتها، حتى لا تحترق نهايتها في سعير الزنى، إذ تشهرها في عيون الرجال الظامئين إلى البشرة البيضاء. أراهم ضامرين منسحقين ومكبلين مهزومين. وسكت الشيخ على غموض، مثلما سكت على قلق أن أرى يامنة تسقط أو تضرج. وأخجل من وجودي أنا أن أتصور يد رجل تمتد إلى امرأة عزلاء رمياً بالرصاص، أو طعناً بخنجر الجزارة، وألهث خلف فحولة ضامرة في الرجال، منذ عام، وفروسية غابرة عند الأجواد، فلا حضرة أو زهدة، ولا حب ولا عشق، وفضاء القلوب أضحى مرتعاً لحقد غبي، وكراهية عمياء، تسحب من يامنة بسمة للأيام الآتية، وتسحق رعشة في جسدها إلى أنفاسي، ورشاقة في حركة رجليها غزالة في الضحى بعقبين عامرين أكزهما، تتدغدغ، وألثمهما، تهجع، وأغمر وجهها الندي بنظرتي الظمأى، فتنتشر ماء، أنساح ولا أترجى ربي منجاة: خيط ضياء لحي تاهت مسالكه، ووسخت ساحاته، فلم تعد قهقهات الأطفال تسمع ولا صرخاتهم تزعج عقب العشاء، ولكن سكن عيونهم تيقظ مجهد، وحركاتهم تنبه مصلوب، هم الذين لا يقيمون أي حد لأي منطلق، ولا يامنة عادت تعرف فيهم قباحتهم وشطارتهم وتأبلسهم، ولا تختخات الفتيان تحت نوافذ بيتها الآمن، أو تجمعاتهم مقابل بعض النوافذ الأخرى، يشللون عيونهم على ثمار فتيات المدارس والثانويات، ويكسرون نظراتهم إذا رأوها أطلت، ومن تحت عيونهم وهم يتهامسون: يامنة، يامنة، اضرب النح. فقد يملأ آذانهم شيء يسبق العصف، يفرقهم شتاتاً إن كانت هي في يوم يجب أن تغضب فيه، من حرصهم على تجاوز الحد.‏

    ومنذ عام لا شيء من هذا صار يستهويها، إذ صار الموت أبسط شيء تردده الألسن فظاظة كما تلوك الشائعة، ويتحدث الحديد بيقين بارداً وحامياً. بردي، بردي. ولولت وعيطت راكضة نحو الطاكسي، وأطفال واقفون بمحافظهم، صامتون بصباحهم، وأنا أتسمر حيث خطوتي الأولى نحو الطريق، سافرة الغرة والوجه والصدر. قتلوه، الفحل قتلوه.‏

    صباح غير مختلف علي بهم، ويوم جديد على دنيا المدينة بدم، فإن لم يبث المذيع خبر الموت جاء الموت نحوي كي يبثه، المذيع في الآخرين. لم تكن سوى أيام قليلة، إن لم تكن ساعات من الإمهال، فأهل القرية جميعاً كانوا متأكدين من عودة المسلحين، بقائدهم أو بدونه، وكانت يامنة لا تخفي عن بعض الجارات فزعها وتحرقه في صدرها بكأس من شراب الجنة كما قالت للحكيم. لم أكن في حال تسمح لي بأن أرى وجهها مروعاً، بل إني أستنكف عن ذلك، إذ لا ينبغي لي أن أوري نفسي شظايا أنانيتي في وجه يامنة باكية نادبة، لأني أذكر صورة وجه أمي المطلي بالحموم حزناً على أبي، لكأن الموت لا يفجع إلا صبحاً.‏

    عارفتها. قلت له أرحل ما بغى. بردي، ياك سبع وغدروه، خويا فحل وقتلوه. جيته بحليب البزولة.. ياك ضحك وقال. أولاد العمومية والقبايل والعديان تعرف الحسين ما يهادي على عرضه، سيلت دم زوج منهم، ورجوعهم مستنيه، غدوة ولدي يقول بويا مات وزويجته في يديه.‏

    لم تكن الحربية الصغيرة التي أقامها على سطح بيته سوى نوع من تعويض عن فقدان ما تبقى له من طمع في منجاة من قضائه، يدرك بحدس الفلاح أن السماء قد تولي عن الخلق لسبب يتعارض السؤال عن معرفته مع استقامة الإيمان، ولأنه منذ تلك الليلة قطع أي تردد يساوره في الالتجاء إلى الدرك أو الشرطة، هو الذي طالما استذل كثيراً منهم بنفوذ ماله، واستمالته رجالاً من القضاء وذوي النفوذ في الإدارة ليجد نفسه، في لحظات الفراغ عامراً عزة حفرت في قلبه خندقاً بينه وبين المسلحين الذين زاروا قريته ففجروا مقر بلديتها وأحرقوا سجلاتها ودمروا وثائقها وأتلفوا وجهها، ولما هموا بانتزاع أسلحة الفلاحين الصيدية كان هوعبأ حزامه وتأهب يتردد في مسمعه كالأمر يصدره جد محترم طاعن محتضر. الرجل يقتل على عرضه ولا أرضه ولا سلاحه. فأطلق على الشبح الأول فتعثر وترنح، وعلى الثاني، ثم عبأ وأطلق، فقطع رفع أذان العشاء في المسجد إذ دوت العصفات. ولما لم يأته رد بعد ساعة أيقن أن دما قد سال، فتنهد هازاً رأسه، ومسح جبينه واستدار إلى الجدار يستحضر وجوه ابنه وبناته، ثم مسح كل شيء في ذهنه عن اللحظة، وخمن كيف يوصل بكره غدا إلى الثانوية وفي الطريق إليها رصدوا له اليوم الأول والثالث، وفي السابع كان أحد المسلحين يراقب السيارة البيضاء تخرج صباحاً، وفي المنعرج كان لا بد لها أن تخفف سرعتها، فثمة كمنوا على طرفي الطريق ليصلوه نارا متقاطعة امتصت بقايا غبش الصباح الخريفي، وأرسلت السيارة إلى شجرة زيتون تعانقها ندية، تساقط منها حبات كثيرة فتستقر إحداها في ثقب رصاصة، وقد تشظى الزجاج الأمامي لتظهر رأس انزاحت عنها عمامة توتية، قليلاً إلى الوراء، تتوسد، في صمت، كتف فتى يئن شاداً على خده النازف مغمض العينين، يبحث عن ألم له في جسده، وعند قدميه دم يمتزج ليتجمد.‏

    ظهرا، كان الخلق عظيماً، أغرق القرية المفجوعة التائهة في عجبية ما يحدث لها، المعصوفة بتوالي وقائعها، كلحظة كسوف، المنشطرة بين نداء دمين شربتهما تربتها، الذاهبة إلى مقبرتها عصرا، في اليوم الموالي، والسحاب في سمائها يهلع في كل اتجاه، وموكب السيارات طويل صامت، كالعادة يتقدم في صقيعية الزمن، حتى لا يبدو أي شيء متحركا.‏

    ولكن يامنة إذ تبكيها المعزيات في فخر عائلتها تنوح لهن غدره لوعة محرقة إلى سماء تخلت عن بشرها، تحرك أي سكون، فلا تهتز المدينة التي لما كانت تتأهب للدخول في حظرها الخياري لدوي بندقية صيد محشوشة تحرق بطن وكيل الدولة، بعد عودته من الجنازة، وكل ما كان أن امرأة عجوزاً قالت إن القاتل كان شاباً أنيقاً، وأن الوكيل قطع كلمات قبل أن يسلم الروح شاعت في أوساط القضاء للغد. أنه لا يعرف قاتله، ولكنه أخبره قبل لحظة إطلاق النار أنه مأمور مخير بين موتين، يحمله صورته إلى قبره، وينصرف عنه بوجهه المعتصر موتاً محفوراً في ذاكرته يحس صقيعاً يقلص نسغ عموده الفقري، منتظراً الطعنة في الظهر، فيمتد غد جديد تدوس خلاله أرجل المارة رحبة وقوع الضحية، لا يفرقون بين دم الدجاج وبين دم البشر، وقد تكون المدينة ابتلعت الوقيعة، لتهيء لبشرها يوماً آخر، بخبر آخر، لدم آخر، فيرتشفون قهوة أو يصلون وقتاً متأخراً، أو يقرأون جريدة أو يبحثون عن مادة استهلاكية نادرة، أو يشربون نبيذاً أو جعة أو روحيات، أو زمبريطو، ويتكيفون أو يلوطون، ويسرقون أو ينهبون، أو يكحلون ويشللون، أو يقايضون، أو يبتاعون أو يبيعون الريح ويقبضون الصحيح، أو يتاجرون في الحجر والتراب والذهب المغشوش والعملة الصحيحة والمزورة أو يسوقون الخردة وآخر الصرخات، أو يقيلون وينامون، ويأكلون اللوبيا والعدس والحمص، شطائر الوكريف وأضلاع الخروف، والسمك الأحمر والأبيض أو اللاتشة، والأجبان المحلية والمستوردة، والكليلة، ويكفرون ويؤمنون، ويشكرون ويجحدون، ويلحدون وينيبون، ويؤدون، ويعصون اللّه والولي والآباء، وكل يستغفر الله ويترجاه، وكلهم يرى نفسه موعوداً بنعيم، أنبش عن ذاتي فيهم فألفاهم إياي وألفاني إياهم، بيد أن كفة جحيمي لا تؤرجح في أي تمن في أن يحصل لي خلاص، يسومني خبر الموت ومشهد الدم سوء عذاب صمتي المريب، لا يشفع لي عنده قلة حيلة أو عجز وسيلة لأني أعطيت الكلمات. هكذا قال لي شيخ الزهاد. ولكن الكلمات لم تعد هي الكلمات. فقد هرشم أصابعي صخر واقعي الصلد المدبب الناتئ، والتهم بناناتي بحثاً عن كلمات لمسميات الموت الجديد والحقد المبدع والإقصاء المسطر والعنف الساحق الأعمى عن كل تسبيح، وكل إنشاد، وكل نبت، فأخالني حشرة، حينها لن أندم على أني ولدت لكيلا أعيش إنساناً، وحين تشتد بي هواجس الغدر أتوهمني جماداً لن يؤلمه تشظي مخه أو انحراق صدره، ما دامت يامنة المفجوعة تبزر قلبي تلويعاً، وتنتعل رئتي ركضاً إلى قهرها، وتعتصر كبدي دمعاً تذرفه غبناً، أعزيها كلمات، فقط كلمات فقدت المسميات، وأنطوي في زاوية وحدتي، محاصراً بدمهم جميعاً، تستبكيني وجوههم النابتة منه عليقاً يعرش في ذاكرتي، فأصرخ بحثاً عن وجه أمي متسلقاً جدار عزلتي، علني أراقب من سوره وجه يامنة فأجد مدينتي غائبة.

    كلمات مفتاحية  :
    قصة يـامنـــــــة الحبيب السائح

    تعليقات الزوار ()