لم تكن المدينة الخاملة لتصدّق أنها ستشهد حدثاً فريداً في ثاني أيام موجة صقيع تدهمها، وأنّ فرقة مشاة ستؤم شوارعها في مسيرة غير منتظرة، فتشحذ حواسّها لمراقبة ما يجري بحيادية بلهاء وتخاذل جبان.
ساحة "المشبكة" الأزليّة لا تفتأ تعلن على الملأ أنها قلب المدينة وسواها الأذرع والأقدام، وتشمخ بساعتها المنغرزة وسط (الدوّار) كجاسوس يستقصي خطراً محتملاً فيرشق الجهات بنظرات منذرة.
قبالة الساعة في اتّجاه: جنوب شرق، تهالكت سينما "العبّاسية" على رصيف واطئ كعجوز (نحس) أعيا أنفاسها تقادم العهد، ونضح من عينيها شوق لمجد غانية أفلَ نجمها إلاّ من بريق يغري طفلاً مشرداً أو غلاماً تعساً بالاقتراب. أمّا روادها مِن البالغين فيصعب التكهن إن كانوا بشراً أسوياء، أم استولت عليهم البلادة.
على الضفة الثانية للشارع الرئيسي يقدّم مطعم شعبي وجبات سريعة لزبائن عابرين، وتسمح الواجهات الزجاجية للمطعم بتأمل منظر جزئي لشارع الثورة في ذروة نشاطه.
على امتداد المطعم بانحراف شمالي غربي يصادف المستكشف لطرطوس محلّ عطور أنيق ومخزن فخم للألبسة الأجنبية.
وعلى الكتف المقابلة للطريق تتربع الحديقة المركزية بأبهى إطلالة شمال شرق الدوّار، ويشكل شارع الثورة الذي تتوسطه الساعة عموداً فقريّاً للبَلَد تتفرّع عنه أذرع وذيول.
في هذا المكان من طرطوس، حوالي الخامسة من مساء /18/ شباط 1999.. لفظَ الزمن آخر أنفاسه، وأحنى عنقاً تعمشقت به خطايا بني آدم حتى لم يعد يقوى على الانتصاب..، وكان على الساعة البرجية أن توقف عقاربها احتجاجاً على ما وقع في حضرتها، لكنها أوتيت قدرة فائقة لاستئناف العد خارج نطاق التاريخ مراهنةً كبعض شهود الواقعة أنّ (العَيَان سيعلن زواله) قريباً.
عند مدخل بوابة ثانوية للحديقة، انتحى بائع (ترمس) بعربته.. إلى جواره تربَّع طفل على كرسي واطئ من القشّ.
على حائط السينما استند شخص مكتوف اليدين، ذو لحية أتت على معظم وجه نحيف أسمر يشيع الارتجاف في الأوصال.
أمامه على بعد خطوات وقفت امرأة مكتنزة وشابة نحيلة تنتظران باص النقل الداخلي، ولاح من اضطراب ملامح الفتاة أن (تلطيشاً) مقذعاً يصلُها من وشوشات المتطفل الغريب.
أمام المطعم، فوق صندوق مهمل جلس شيخ نحيف مسنداً ذقنه على عكاز استقرت ساقه بين ركبتيه، وجسَّد بمعطفه الكئيب وغطاء رأسه المنحسر عن صلعة مرقطة أنموذجاً لمشرّدي الحروب أو ضحايا الفاقة والعَوَز، بالقرب منهُ رجلان ضخمان يأتيان بنهم على شطائر (جبن) فيما تجمهر بعض ناشئة قدّام متجر الألبسة المستوردة يحدّقون بوقاحة في السيقان المكشوفة لعارضات أزياء من البلاستيك الخالص.
وعلى رصيف الدوّار انزرع شرطي مرور بوجه عابس وصفارة تماهى صراخها الحادّ بزعيق رياح مشبوبة بعثرت منثور الأوراق المصفرة والأتربة الناعمة في الطرقات والعيون.
بقي كل شيء راكداً ناعساً حتى أفلتت صرخة استنكار من إحدى أربع بنات دلفن إلى الشارع..، وما أسرع ما صوبت السبابة سهمها في اتجاه السينما، وسجل (الأنا الأعلى) أوّل أحكامه:
-مجنون.. انظروا.. مجنون..
شبّت نارٌ في هشيم، وتداعت الأنظار من كل ركن مسلطةً سيوفها على شاب ثلاثيني قصير، مربوع، ضاقت على بطنه النافرة كنزة بنيّة من قطن رديء، انزاحت قليلاً لتبرز انخماصاً جلدياً مستديراً كاد يضيع في تلافيف البطن المترهلة.. ولطخت الأكمام بقع صفراء نجمت عن إتيان التمخط في غير أصول..
تحت البطن المندلقة ظهر حزام رفيع من المطاط الأبيض، بالكاد لملم أطراف (بيجاما) مهترئة انفصلت عنه لتشكّل فجوة عند الخاصرة اليمنى، وأخرى واسعة في الخلف، وكان من دواعي الأسف أن تفضح الفجوتان غياب أثر اللباس الداخلي وتكشفا عورة الرجل في وضح النهار..
كان يمضي قاطعاً الشارع بقلق ظاهر، وتوتر يائس.. وجهه أحمر منمش، شعره أجعد تدلّت خصلاته شعثاء على جبهة عريضة وعنق ثخين.. واتصل سالفاه بلحية قذرة اتفقت مع حاجبين غليظين وملامح خشنة على إحياء مشهد لإنسان الحضارات الأولى.
على باب الحديقة.. توقف ابن بائع الترمس عن قرط الحبّات الصفر، ووثب إلى كتف أبيه الذي ابتعد به مسافة خمسين متراً لمعاينة المشهد عن قرب.
وكفّ المراهقون غلاظاتهم عن حسناوات محل الأزياء عابرين الشارع بحماس أعمى، مسابقين حركة المرور الخطرة وصولاً إلى الساحة حيث يمضي المجنون هارباً.
العجوز المركون على باب المطعم تلقى المشهد ولم يعه مباشرةً.. ثم أجفل فاستقام على عكّازه بصعوبة، ممعناً النظر في الطرف المقابل ماسحاً جفنيه المحمّرين بطرف شاله.
ودهشَ الرجلان النّهمان فعافا الطعام ولاحقا عابر الطريق بعيون هازئة..
على الرصيف الدائري ما عاد شرطي المرور يبالي بمخالفات السير وانجرف مع آخرين في تَتبُّع حدث فريد.
وعلى رصيف السينما الذي يبعد أمتاراً عن (الدراما الحيّة) انقطع الرجل المشبوه عن التحرش بالبنت وأمها، وهاتان انشغلتا عن الباص وعن التذمر من الرجل مع أنه اقترب وحاذاهما..
فالكلّ متأثر بعدوى القطيع، منجذب بقوى قسرية لرصد عُري رجل يعبر قلب المدينة في معمع عاصفة.
أربعُ البنات انزوين جانباً.. غضضن الأبصار حياءً وشفقة، توقفن عن السير في انتظار اختفاء (المجنون) من الشارع خلافاً للحافلات التي أبطأت سرعتها لتواكب محنة عابر السبيل فتأخذ نصيبها من الانشراح والفرجة.
تابع المجنون سيراً لا يحسد عليه وسط الشارع متحاشياً الدنو من الرصيف اليميني حيث احتشد الناس، واستطالت قاماتهم خلف المرأة والبنت والرجل المريب.. واهتدى وهو يمضي قدماً إلى فكرة تسعفه من حيرة وعار، فانحرف صوب الحديقة الطولانية الفاصلة بين شطري الشارع، هناك، ينأى عن (المتفرجين) وتتكفل شجيرات النخيل العتيقة داخل السياج الحدائقي بحجبه قليلاً عن الرجال الثلاثة الواقفين عند المطعم ومن انضم لهم من مشيعين.
(البيجاما) المتآمرة، أمّ الرّقع والفجوتين والأطراف السفلية المهترئة رفضت الاستجابة لكفين خشنتين لم تكفّا لحظة عن شد قماشها المتراخي ولفّه حول الحبل المطاطي علّه يثبت عليه، لكن سرعان ما ينزلق على إيقاع خطّى عجلى فاتحاً (شباكي) عار على اليمين والخلف حتى إذا انزلقت العين للأسفل أبصرت قدمين حافيتين ذواتي أصابع مشعرة وكعبين مطرزين بشقوق غائرة.
الرّيح شمالية غبراء.. بحر هائج من موج نشط لا مرئي يتكسر عند الساعة حيث تتضارب الجهات وتتباعد العمارات الشاهقة مفسحةً مكاناً لإمارة الساحة على المدينة دون منازع.
ما إن حاذى المجنون في سيره مدخل سوق "الصالحية" حتى تشكلت خلفه مسيرة افتتحها المراهقون بالتصفير والتندّر المسفّ، ولحق بالرّكب أطفال تسوّلوا في طرقات البلد أياماً وعادوا صفر اليدين.
وهبطَ الساحة نزلاء الفنادق الرخيصة الضّجرين، وساهم معظم من مروا (مرور الكرام) في مرافقة موكب الرجل الضليل الذي اشتم رائحة تآمر، فضاعف سرعته هرباً، وضاعفها الماجنون فأدركوه بسهولة.. وقف برهة ملتفتاً حوله بحيرة ومهانة قبل أن يلتقط جريدة وسخة لفّها حول خصره فاشتد التصفير، واحتدّ هتافٌ ولمزٌ خبيث..
وطارت (ناعوسة) المدينة وهي تتابع بعينين مغتبطتين مسير قافلة تهادت خلف قائدٍ تعس على طول شارع الثورة..، وكم سهل في ظرف كهذا أن تتلقى خاصرة البنت قرصة من الرجل المتطفل الذي تركها وشأنها لاحقاً بالآخرين.
وغدا يسيراً على العجوز أن يختطف بقايا (السندويشات) التي عافها الرجلان في لحاقهما بالمسيرة فمكثت على طاولة قريبة من مدخل المطعم.
وباتت عربة الترمس وحيدة على الرصيف دون أن يفكر أحد بسرقتها.
وعبثت الريح (بالتيورات) المعروضة في محل الأزياء بعد أن خرجت العاملات وأشرعن الأبواب فجعل الغبار يرشق بعنف شاشة الكومبيوتر المسمّر في قسم المحاسبة.
وبقيت البنات الأربع واقفات كشموع مطفأة دون أن يجرؤن على استراق نظرة إلى الرجل الهارب والحشد الماجن خلفه، وتناهت إليهنّ قهقهات مارّة انضموا لشرطي المرور الذي بارحه الهمّ تماماً وتهلّلت أساريره لطرافة ما يدور.
وختم كثيرون تفكّههم على الرجل بتصاريح موجزة:
-مجنون.. أو سكران.. أو الله أعلم.
آخر ما فعله المجنون رداً على المهزلة التي ارتكبها مطاردوه ويئس من ردعها: جلوسه على الرصيف..، وبعد أن صوّب نظرة يتيمة ملؤها أسىً إلى وجوه المهرجين الذين التمّوا حولهُ كأنما ليخنقوه.. دس يدهُ في كُمّهِ وأخرج شيئاً كالخبز وشرعَ يأكل بأناةٍ وهدوء..، ولم يرفع رأسهُ بعدها.
***
عدلت البنات الأربع عن التسوّق، وذهبن كلٌ في ناحية.. واخترتُ- وكنتُ إحداهُنّ- طريقاً إلى مطبعة أعرفُها.
فكرّتُ خلال سيري بموضوعية أن يكون المرء (مجنوناً) أو (ثملاً) أو منحلاً أخلاقياً، ويجهد في الوقت ذاتهِ لستر عُريه عن الناس. واهتديت إلى اعتقاد مفادُهُ أنّ الأحكام التي تصدر عن البشر بوصفهم حيوانات (عاقلة).. قلّما تتسم بالتبصر والعقلانية. وحتى لو أُدينَ المجنون بهذا الداء أو سواه فهل كان صعباً على تجّار الأقمشة والألبسة الجديدة أو المستعملة أن يهبوا خرقةً أو منشفة أو ذراع قماش أو ثوباً بالياً يُداري سوأة سكّير أو مخبول أو مختلّ أخلاق؟!
في /18/ شباط 1999، لم أكن أعلم أنني والحزن على موعد، فيما تنطرب مدينتي، ويهلّل أهلها ويهزجون لمرأى غريب جهد لمواراة عاره عن أنظار الناس وشماتاتهم.
جاش الحزن نقمةً عارمة في صدري، فاقتحمت المطبعة كلصوص البنوك. بعد شرح دهش له الحاضرون، مكثت وقتاً ثم غادرت وبيدي رزمة أوراق رحتُ ألصقها على الجدران..
قرأ بعض الناس المنشور ونظر إليّ بغرابة، وثمّة من أومى إليّ ليستفسر عن أمر، وآخرون تهامسوا، وكثيرون بدؤوا يتعقبوني في تقدّمي الحثيث بمنشوري عبر أحياء المدينة.
قد تتشكّل في إثري مسيرة أو يُقال أني مجنونة أو ثملة أو الله أعلم.
مع هذا شعرت بهدوء حميم عمّني في ختام يوم عاصف إثر لصقي للورقة الأخيرة وكانَ كتب عليها:
"عموم آل بني آدم بأصولهم وفروعهم، من كل مكان وزمان بأنسابهم المعمّرة في التاريخ والمستحدثة فيه، وألقابهم المتجذّرة في أحشائه والعالقة على جلده.
ينعون إليكم بروع لا يدانيه روع.. موت فقيدكم الذي لا يعوّض:
الزمــــــــــــــان
الوقت أضيق من أن تُقام معازي أو تُقبل تعازي
الوقت وقت احتضار
فليحمل كلٌ منكم فأساً فيحفر قبرهُ بيديه..، وجميعكم.. ناساً كنتم أم غير ناس، ملائكة أو قطاع طرق، أحياء أو شبههم، موتى أو ما يعادلهم..
وزمنكم معكم إلى بارئكم عائدون".