بابا.. أُريد إجاصة
كرذاذ بلّور تحت شمس الظهيرة برقت عينا الأب بوميضٍ حانٍ:
-خذي يا روح بابا.
ومن الكيس المفضوض على عجل حلّقت الثمرة لمسافة قصيرة، وتطايرت الطفلة لتلتقطها بجمع يديها.. فركتها براحتها وطرف فستانها، تأمّلتها مأخوذة بلونها الجميل وقالبها المخصور، ومن البطن المنتفخة باستدارة كاملة أخذت قضمة.
الأسرة المؤلّفة من خمسة أشخاص حطّت رحلها (للسيّران) في بريّةٍ من تضاريس نزقة، فإلى اليسار غابة مسطّحة، ومن الخلف جبل صخري يوشوش الغيم.. ويميناً ينحدر وادٍ طائش إلى دركٍ سحيق بلا تدرّج ولا بادرة إنذار خلا لافتة صفراء انغرست في سياج مهلهل كُتب عليها:
-تجنّب الحُفر
في بقعةٍ موشومة بالسواسن والرياحين فردت المرأة الشابة الحُصر وهيّأت المبارك بفراء الماعز ومساند الإسفنج والطراريح.
وشرعَ الزوج الودود يفرّغ خبايا الأكياس والصناديق المحزومة على الجذوع الساقطة للشجر.
كان كل من "كيمو" و"بيرو" .. وصديقهما "شوشو" يُعدّ خطة للخلوة العائلية واستقصاء الغابة.
كيمو لبيرو: -احزر كم "زنبوراً" سأصيد
بيرو: - هس.. ستسمعكَ أمكَ وتفشل خطّتُنا
-ولكنني جئت لصيد الزنابير
-وأنا يا غبي، لكن سنمتطي الأشجار أولاً ونجلب فراخ العصافير.
تدخّلَ شوشو: -الزنابير القانصة خطرة، والتسلّق إلى العصافير أخطر، إن كان لا بدّ من الصيد أقترح /الزيزان/… إنها حشرات مسالمة عموماً.
لم يخب ظنّ الأخوين ببداهة صديقهما. أبرمَ الثلاثة اتفاقاً وضربوا في جهات متعاكسة، فلا أحبّ إليهم من قنص الزيزان وربطها بخيوط والتلويح بها حتى تنطبش على العشب دائخة مُجدّفة بأذرُعها وأرجُلها.. فيثملون من الضحك..
صاحت الأم في يقظة انتباه:
-لا تبتعدوا يا أولاد..
وتلملمت الأصوات الغرّة في أصداء متراتبة لتلئم الخدش الحاصل في اطمئنان الأم:
-لا تخافي يا أماه..
وبكل حنان الأبوّة وزخمها وقلقها ناشد الرجل طفلته:
-بابا "رنين". لا تذهبي بعيداً..
انبثق الصوت الطفولي مغناجاً ماكراً كموسيقا أجراس صغيرة:
-حاضر يا بابا.
خلال دقائق أعدّت المرأة مبركاً لائقاً بجلسة أُنس. وأنهى الرجل فرز المتاع وصف أطباق الفواكه لتأتلق بنور الشمس الغامزة من كوى في غصون الشجر.. أشعل الزوجان النرجلية الممسّكة بمعسّل التفاح، ولحظة تساندا بالأكتاف يعبان منها بافتتان شاعري تناهى هدير صاخب لرحلة مدرسيّة اختارت الغابة ذاتها محطّاً لها.
جَفَلا، انفضَّا عن بعضهما وهبّا مستطلعَيْن
تدفقّ الطلاب من الحافلات الصافّة كغزاة تتريين يمجنون إثر غزوة ظافرة، وانفلشوا في المكان ودفوف (انتصاراتهم) تدوّي على إيقاع أغنية رائجة:
لا بَاكُل ولا بَشرب
|
|
لا بَاكُلْ ولا بَشرب
|
باللّيل يا دادا باللّيل
|
|
بس اطلّع بعيوني
|
استاء الزوجان. وقبل أن يهمّا بالبحث عن مقيل آخر أفلحَ المشرفون المرافقون –احتراماً لخلوتهما- بترك مسافة فاصلة بين التجمع الطلابي والمستراح العائلي، وما لبثا أن استظرفا الطقس الاحتفالي حولهما، واندغما به.. حتى شفاه "رنين" ترنّمتا بصمت باللحن الأليف:
بيت الشعر يا عيوني
|
|
بيت الشّعر يا عيوني
|
بالليل يا دادا بالليل
|
|
كلّن راحوا وتركوني
|
زهدت "رنين" بإجاصتها، ووقفت تهرس بقايا القضمة ببطء بين أسنان مترددة، سلبها المشهد حواسها، دنت من تخوم المحفل البهيج.. غلمان يطبّلون، فتيات يغنّين، جَمعٌ يصفق وجمع يزغرد.. حلقات خجولة للدبكة تتشكل في الوسط، قامات يافعة وخصور مرنة رفيعة تتلوّى في رقص إفرادي.
في صقعٍ من الغابة تغلغل أولادٌ ثلاثة قانعين بتفويت فرصة فرح وإشباع فضول، والبحث عن حشرة محزّزة بأجنحة ضامرة قائم بحماس عند منابت العشب وتجاويف الأشجار وركام القشّ وحواشي التربة المقلوبة.
قال الأب ممازحاً:
-ارقصي معهم يا رنين.. سيُجنّون بكِ
استحت رنين، ابتسمت وهي تلعب أكتافها تأكيداً لرغبة غير صادقة:
-لا أريد.
واستثيرت الفتيات ببراءة البنت وخفرها، فاختطفنها إلى الحلقة الراقصة، عانقنها، قبلنها بالتناوب، دُُرن بها وتمايلن..
أخلينَ لها الساحة وصفّق الكل مشجعاً مقحماً مقطعاً مرتجلاً على الأغنية..
خدودا بلون التفاحة
|
|
نزلت معنا عالساحة
|
بالليل يا حبيّب بالليل
|
|
شفافا بسكوت وراحة
|
يا بترقص يا ما بترقص
|
|
يا بترقص يا ما بترقص
|
بالليل يا حبيّب بالليل
|
|
جاعل عمرا ما ترقص
|
ورفعت رنين ذراعيها الرّيانتين ومعهما الإجاصة، واجتهدت عبثاً لفتل وسطها الممتلئ ولوي خصرها الكربوج يميناً ويساراً.. أعادت المحاولة مرات، فتجسدت كدمية معدنية جامدة إلاّ من هزّات مرتبكة متقطعة تحدث كأنما بكبسة زر أو إدارة محور حركي.
وانطلق ضحك خنق الحلاقيم والأنفاس ونكز الخواصر والأكباد..
رُدت رنين إلى أبويها وكانا يشهقان مقهقهين من إخفاقها وانفعالها الرافض للهزيمة.
صاحت مستشعرة فقدان شيء عزيز مع كرامتها:
-الإجاصة
ناولوها الإجاصة الساقطة من يدها في لحظة انكسار وتراخٍ ذليل.
وانبرى والدها يقبّلها مكفّراً عن (ذنبه):
-تسلميلي.. يا إجاصة البابا انتِ..
تلوّت في حضنه بعنف، تفلّتت من ذراعيه الحميمتين، وثبت إلى العشب.. كدشت بحنق إجاصتها واستدارت عابسة
عمدت أمها إلى استرضائها:
-العبي قليلاً يا "رنوّ" ريثما يجهز الغداء..
"رنّو" لم تلعب.
بل خاضت في السهب مبتعدة حتى ركنت إلى حجر أملس قرفصت عليه. تأملت بحزن إجاصتها المنهوشة في موضعين وأجهشت في بكاء، حينها.. شرع أبواها يعدان المشاوي والسلطات فيما أولئك البنات "السيئات" في ظنّها يواصلن غناءَهُنّ "الكريه" مع "السيئين" من الصبيان منشدين:
رح ضَلّ وما رَحْ أبْعُدْ
|
|
لعيونك يا بو أحمد
|
باللّيل يا عمري باللّيل
|
|
لا تبكي ولا تتنهّد
|
جعلك تتهنّا وتسعدْ
|
|
جعْلكْ تتهنّا وتسعد
|
بالويل يا عمري بالويل
|
|
ويبلى الشامت والحاسد
|
وفي الطرف المنفي للأجمة الظليلة لم يعرف الصبية الثلاثة ما جرى للطفلة، ولو عرفوا.. أطلقوا زيزين أو ثلاثة ضبطوهم بعد لأي وعناء، وحضروا لكفكفة دموعها. عندها، سينقفون طلاب المدرسة بالبحص ويسفقون الرمال في عيونهم وأطباق طعامهم مجبريهم على مغادرة المكان إلى حيث لا يزعج أحدٌ "رنّو" أو يضايقها.
دامَ نشيج الطفلة لحظات قبل أن تُنقّل عينيها بحثاً عن ورقة خضراء طرية تمسح بها أنفها وتقطع نسيل المخاط الراعف، ولمّا امتدّت أصابعها الناعمة تتقرّى زهرة جميلة شعّت كياقوتة في طبق من قرنفل ونرجس وأقحوان.. طار تويج الزهرة، ولم يكن حقيقةً إلا فراشة بلغت من روعة التكوين وكمال الصورة ما جعل الطفلة تخرّ على الأرض وتشهق تلقائياً.
أرادت استقدام أبويها للفرجة، وأقعدها عن ذلك خوفها من فقد الفراشة، وكانت هذه تطبق على الثغور وتمتص رحيق الحب مسافرة من زهرة إلى أخرى، افتتنت رنين بلونها الفوسفوري الأخاذ ونقوش بنّية غريبة التصاميم انطبعت على جناحيها، كما انطبع في عينيها البنفسجيتين حجمها الكبير ووضوح قرني استشعارها.
أُغريت مجدداً بدعوة أبويها.. بابا.. ماما.. تعالا انظرا.
ولجمت صوتها بداعي الحرص على استبقاء الفراشة ومحاولة صيدها وكم تمنّت حضور كيمو وبيرو خصوصاً..، إنهما صيادان بارعان ولولا هذا ما ارتفعت حصيلة زرازيرهما إلى عشرين في وقت قصير، خيالُها المتفائل حدّثها بذلك فقد استرقت السمع إلى أخويها ولم تشِ بهما.
تسلّلت باستنفار تام فوق أقراص /الأرضي شوكي/ التي طقطقت وقرقشت كشرائح خبز يابس تحت أقدام لص.. ومن فوق شجيرات (حبّ الآس) بسطت ذراعين لاهفتين ساعيةً لغلق قبضتَيْها على فراشتها الغاوية.. وكدأبها، رفرفت الفراشة بخفّة نسيم صيفي وحطّت على صخرةٍ مدببة.
زعلت "رنين".. حردت هنيهةً لكن ممّن؟! فأبواها يصالحانها عقب كلّ (حَرْدة) تفتعلُها، أما تلك (الزهّورة) المهفهفة الطيّارة فلا تعيرها أقل اهتمام.
وقررت أن ترتقي الصخرة إليها.
في جهةٍ ما.. ضحك كيمو وبيرو وشوشو بخلاعة وتشفّ جبان على الأزياز المعلقة بالخيطان والتي كانوا يسمّون واحدتها (أم علي) وكانوا يلو لحونها عالياً صارخين..
بوْعَلي بوْ عَلي تَعَاشوف أم علي
وتحت ظلال الخرنوب أكبّ الرجل على الحطب اللاهب يهوّي بمروحة كرتونيّة متفحصاً شرائح لحم البقر وجوانح الدجاج، والمرأة تقلّب بأصابعها خليطاً مفروماً للبقدونس والبندورة والبصل والنعناع... وراءهما تماماً، لم تغفل حناجر الفتيان دقيقة عن الغناء دفعاً لجوع ألهمهم أنشودة طريفة قبيل الغذاء:
تا ياكُلْ خبزة وبصلة
|
|
طِلِعْ وْليفي عالنخلة
|
بَالّليل يا ساري بَالّليل
|
|
يمكن مانو مشتاق لي
|
يا بينزِل يا ما بينزِلْ
|
|
يا بينزِل يا ما بينزِلْ
|
بَالّليل يا ساري بَاللّيل
|
|
جاعل عمرو ما ينزِل
|
تعلقت البنت بنتوءين حادّين على جدار الصخرة وشدّت أعضاءها إليهما، فانزاحَ الجسم بصعوبة وتثاقل إلى فوق، وانخمشت ركبتاها كأنما بأظافر قطة متمردة... تمددت لاهثة فوق الصخرة، فستانها بلون خدودها تشمّرَ عن جسمها وإلْيتها..، لم تهتم تلك الساعة إلا بفراشة فوسفورية مُنقّشة مُزوزقة تتقافز من موضع لآخر على السطح الصخري المدبّب، ثمّ تحطّ قريباً منها.
رفعت يدها. وقبلَ أن يفضح الظل المنسحب اتجاه اليد وغايتها صفعت بكفّها ذلك الموضع ...، رَعشت الفراشة وحلقت باضطراب وبطء ملحوظين ثم تأرجحت على سياج أسفل الصخرة... فرحت البنت، والتمعَ الخبث في عينيها البنفسجيتين المحملقتين...، ستصيد أخيراً فراشةً حلوه.
هبطت إلى الأرض بوثبة متهورة، دارت حول الصخرة لا يعنيها شيء من أمر الأشواك التي مزّقت (كنار) فستانها. الواجهة اليمينيّة للصخرة تقترب من سياج حديدي صدئ على مشبك من مشابكهِ لاذت الفراشة الياقوتية بالتخفّي ...... بين الصخرة والسياج مسافة ذراع وعيدان شوكية جارحة تسامقت بقاماتها فبدت الفراشة محاصرة مُحرجَة، وتحتَ شمسٍ صاليةٍ توهّجَ ضوءُها فيروزيّاً يخلّب الروح.
مدّت أصابعها رنين. وساعةَ أوشكت تلمس جناح الفراشة المصاب ولدهشتها... خفقت تلك وطارت بعنفوان إلى ناحية أخرى من السياج... اقتلعت الطفلة قضيباً شوكياً وظلت تهشّ به على الحشرة الفارّة، ومن فتحة في السياج هربت الفراشة واستقرت على باقة أقحوان تاخمت الأسلاك الشائكة من الجهة المقابلة.
جثت البنت منتظرة. ولّما لم تتحرك الحشرة نبقت برأسها خلال الفتحة المستديرة. ركزت نظرها على الفراشة المتغافلة ولم تَجُسْ بعينيها الأبعاد .... وحين استجرّت باقي جسمها وأفلحت في تخليص إليتها العالقة بالشِّباك... سمعت المخلوقات الغابيّة أسفل الوادي أصداء ضعيفة ممزّقة لصرخة طفليّة تُشبه تناغيم أجراس صغيرة متلاطمة، وكانت كتلة ضئيلة حمراء متذبذبة مترجرجة تطوح إلى هوّةٍ مريعة منساقةً لجذبٍ أرضيّ لا يختلف في قوانينه الفيزيائية عن شُرعة الغاب من حيث حياديّته العمياء للضحية- موضوع التجربة.
ووقتَ توجّسَ قلب الأم من غياب البنت وهَمَّ الصبيان الثلاثة باستدعائها...، وقبلَ أن تتحضّر الأسرة المنكوبة لفاجعتها...
كانت الإجاصة المنهوشة في موضعين لا تنفكّ تستريح على حجر أملس.
ومُزقٌ لقماشٍ أحمر ترفرف على سور شائك مثقوب على بُعد يسير من لافتة صفراء خُطّ عليها
"تجنب الحفر"...
ووحده الله يعلم أين كانت الفراشة الآن.
أما جوقة الفتيان فودّعت الجوع بمقطوعة أخيرة...، ها هي تهمّ بالطعام غافلةً عما يدور هاتفة:
تتشيل من البير الزيرْ
|
|
والزّينة طلعت عالبيرْ
|
بَالّليل يا أسمر بَالّليل
|
|
ما بتعرف شو رح بيصير
|
يا بتوقع يا ما بتوقع
|
|
يا بتوقع يا ما بتوقع
|
بَالّليل يا دادا بَالّليل
|
|
جاعل عمرا ما توقع
|