الدخان الأبيض يتصاعد من مدخنة القبو الغامض في مكان ما من أحياء بيروت.
بعد ألف رصاصة طائشة
وألف إصابة طفيفة
ومائة إصابة بليغة
وعشر ضحايا
رُقّي الموهوب، القاتل، إلى مرتبة ((قناص))
الإجماع كان نادراً، كمهرجانات الانتخابات الفلوكلوريّة، في الدول ذات الكتل الجماهيريّة العائمة، القنّاص المتوَّج أطفأ خمساً وعشرين (شمعسنة)... رذاذ الشمبانيا يذكّره بصفعة المعلّمة اللذيذة على وجهه، فأكثر من التشاغب، لكنَّ الصفعات التالية لم توقّع توقيعاً مناسباً، فجاءت ألماً خالصاً.
عربون التتويج كانت البندقيّة الجديدة الأتوماتيكيّة، بمنظارها الذي يكاد يضع الأشياء في حدقة العين... أو يزجُّ العين في تفاصيل كلّ الأشياء مهما كانت صغيرة وبعيدة.
شعر وهو يقبلّها أنّ بين يديه امرأة فاتنة، قاتلة، وشهيّة، ومصدر إثارتها خطورتها لمعت بعينيه رصاصات المخزن الملساء المروّسة كأسنان تلك الفاتنة وهي تبتسم له قبل أن تُجهزَ عليه... أملى عليه قائد مجموعة التتويج مهامه شفويّاً:
اعتراض المواكب والحشود
تحويل الانتباه عن موقع آخر
تسخين خطوط التماس
تغطية تسلّل أو انسحاب
الضغط على أعصاب المتفاوضين
هذه اللائحة المنتخبة بعناية الخبراء المحنّكين شحنته بتداعيات ذاتية عن مهام تلقائية يمكن أن يلعبها:
تثقيب الأرغفة ثمّ الأكفَ ثمّ الصدور
تقليم الأصابع والسجائر
تدويل المشي إلى هرولة
والهرولة إلى رقص والرقص إلى نوبات صرع وجنون. أودَعُوه مركز تقنيصه بأمان، وواعدوه على ترقية أخرى إذا أثبت جدارته، تركوا لديه بضع مئات من الدولارات، ودزّينة سجائر أمريكية فاخرة، وتعهدوا بإيصال بعض المشروبات الروحيّة بين وقت وآخر وهتفوا معاً بصيحة الجماعة التي ينتمون إليها.. وهبطوا الدرج المسهب الفاصل بين عرين القناص وأرض الشارع الذي حفرته القنابل...
إنه الآن في الدور الخامس والعشرين /المخادع، والخزائن، والأرواح تكاد تلامس فوهة البندقية/ قرى أمامه كطائرات ورقيّة تتأرجح في غلالات الشفق الجبليّ، يخيَّلُ إليه أن السماء أقرب إليه من الأرض يخشى لو أطلق رصاصة في الفضاء أنْ يسقط نجمٌ فوق المدينة، يستلقي على سرير عسكريّ ميداني قد لا تستطيع القوات العسكرية في الحروب استخدامه، أو يتحوّل إلى نعش مؤقّت لضابط كبير، حين اهتزَّ السرير تحته أشعرَهُ أنّه على صهوة حصان أسطوري.. يطير ولا يهرولُ.
أيُّ استقبال خرافيّ سيقام له حين يترجَّل؟ قد تتسارقه الحسناوات إلى كهوفهنَّ للظّفر بذريّته.. ولا يهمُّه بعد ذلك أن يموت نشوة.. ولو في الليلة الأولى.
قد يُمنح تفويضاً بأرصدة وعقارات وتتسابق مصانع السيّارات العالمية لصياغة قافلة من السيارات الأنيقة له، واحدة للنزهات، وأخرى للسباقات، واحدة رسمية وأخرى عائليّة، واحدة للصيد والقنص، وأخرى للتزلج.. انتفض من استلقائه كما لو أنّه ينهض لتسلّم مفاتيح الشقق والسيارات التي منحَتُ لـه فارتطم رأسه بقائم السرير الخلفيّ فشعر بألم شديد، كان كفيلاً بأنْ يعيده إلى واقعه شيئاً ما.. تحوَّل إلى النافذة وهو يفرك رأسه فأطلَّ على العاصمة، راوده انطباع أنَّ العمارةَ منذ غادر الرفاق غَدَتْ أكثر ارتفاعاً.. وأنّ مشهد بيروت من هذا الارتفاع الطارئ يجعلها أشدَّ غرابة وبُعداً... قلّب البندقية، ووضع عينه على دائرة المنظار ليطمئن أنّها مازالت قادرة على الرمي المجدي من هذه المسافة.. كانت المدفعيّة الثقيلة، والقذائف الصاروخية قد هدأت وتركت الصمت لرمايات متقطّعة من أسلحة خفيفة، ومتوسطة، أشعة الشمس تشيح عن السفوح المواجهة للبحر، وتنسحب عن الجدران المهدّمة، وتندمل في الفجوات والشقوق، وتضع نثاراً من حقائب المغيب على الشاطئ، وترسل في مزق الغيوم التشرينيّة حزناً بلون البكاء...
القنّاص لا يتذكر في شبح المغيب إلاّ جدَّتَه تقصّ عليه بأسلوبها البسيط المشّوق حكايا الفقر والتعتير، وزمن (العصملية) المنحوس وسَوق الرجال إلى العسكر في البلاد البعيدة وحنين الزوجات والأمهات حتّى الموت، وخلافات أهل القرية الأقرباء على سقاية الحواكير من نبع العين، والشجارات التي كانت تستخدم فيها العصيّ والحجارة، والبيك "أبو عاصم" رجل (العصملية) المفضَّل. لكنَّ القصّة التي حفرتُ في قلبه حروفها ومعانيها هي: أنّ ملكاً فاضلاً، خلع ثيابه ليستحمَّ في أحد الأنهار، فاغتنم الفرصة عفريتٌ جوّال، فارتداها، وتظاهر أنّه الملك العادل، ومن تلك الحادثة والعفاريت تتجوّل بين الممالك والأقطار لتسرق ثياب الملوك والحكّام الأفاضل وتحكم باسمهم بين الناس.. فيما كان يلتفت وقع نظره على فأر صغير كان يرمقه بعينين كبقعتي ضوء توشكان على الانطفاء، دون خوف منه أخذ يفتّش عن كسرة قوت..
لوّح برأسه وقال: لم أعد أخيف حتّى الفأر.. ماذا يحدث في هذا العالم.؟!
نظر إلى المرآة الدائرية التي لا يقوى على فراقها لم يرَ الوجه الذي كان يريد أنْ يراهُ، ازداد استغرابه.. أشعة الشمس بدتْ في الرمق الأخير.. برودةٌ واخزة شاعَتْ فيه وسرَتُ فيما حوله... لثوان ارتسمت أمامه النافذة لوحةً لظلام وقفت عليه حشراتٌ دقيقةٌ من الضوء دون حراك.. نَيُزك كإطلالة وجه أبيه.. يلتمع وينطفئ، جدّته من جديد على خطّ تداعياته..:
بلادٌ نقلَتُ على ظهور الرجال وبيعت في بلاد أخرى، رجالٌ بلا أسرّة...
ونساءٌ لهنَّ كلّ سرير..
نظر في المرآة مرّة أخرى فرأى حدقتيه ووجهه كزجاج سيّارة قديمة على طريق موحلة.
جدته من جديد... ولكنْ مسجّاةٌ في صندوق خشبي يحمله بضعة أقرباء لتدفنَ في المقبرة الملاصقة لبيوت القرية.. لكأنَّ الأحياء والأموات في تجاوز وتواصل عبر التراب والفصول، لم يتمالك نفسه فتهادت دموعٌ لم يسارع إلى مسحها.. نهض كحصان عربة مسن، سار ثلاث خطوات فسمع صوتاً كصرير مدفع يجرُّ إلى معركة خائبة.. حدّق في المرآة ثالثة وفرك عينيه.. قرّب المرآة.. بعّدها.. إنّها نعجة بيضاء، بعينين زمرّدتين، وصوف مغبوط برغوة نبع يغتسل بطفل.. النعجةُ تفلت من أنياب الذئاب.. وتلقي نفسها إلى هاوية آمنة.. أمسك بالنافذة كأنَّ زلزالاً يتململ تحت هذه العمارة دون غيرها، هل سيعطيه هذا الزلزال فرصة أن يهبط هذا البرج الإسمنتي درجة درجة، ويهرب من دائرة الدمار المرتقب، والبحر لا يرتع تحت أقدام العمارة ليلقي حياته بين يديه من هذا الارتفاع الكافر، والماء لا يختلف أحياناً عن الصخر في قسوته.. أسلاك الكهرباء أفرغت حمولتها في أعصابه.. وانقطعت.. قبل سويعات فقط كان الخارق، الشهي، ورجل المهام الكفيلة بحسم القتال لصالح جماعته دون سواها من الجماعات الميليشياوية المتصارعة، البندقية الجديدة لم تجرب بعد... ولم يبلّ يديه بأحد الضحايا بعد تلقيه شارة القناص...
لم تعد صالحاً للقتل
قالت له المرآة:
(أحبِبْني أنقذك) هتف في غيب أعماقه طيف الفتاة الذي تخلى عنها، ليلتحق بهذه الزمرة المقاتلة فصرخ بصوت عال:
أنقذيني حتى أكفّر عن هجرك... فجأة ارتعش بعنف كأن سيفاً من أشعة خارقة شطره رغبتين جامحتين:
أن يقتل ويقتل ويقتل
حتى ينظّف الأرض
وأن يعشق.. ويعشق ويعشق
حتى ينظّف روحه
فيفتح الهواء، ويمسك بأصابعه جدائل الضياء... لكن الارتفاع ليس كافياً ولا الظلمة بلغت غايتها بعد....
الرفاق... أين الرفاق؟...
الرفاق الذين التقطوه.. حقنوا صبغيّاتِه، واغتصبوه... وتوّجوه...
ربّما قبضوا ثمن التخلّي عنه
أو انحازوا إلى الفريق الآخر
أو ماتوا جميعاً
أو لا وجود لهم أصلاً
وقد انطلَتْ عليه الخدعة فأسلمهم حياته
شهروا نَعْوَتهِ يوماً لكنَّهم عادوا فأحَيوهُ في بيانٍ لاحق، كمْ كان يودُّ لو اقتنعوا بموته لينعم بحياته الحقيقية، ويفعل ما يشاء دون إكراهٍ وتبعيةٍ لأحد، يتجوّل متخفيّاً
بين الأحياء والمناطق يندسُّ بين الهبلان والمتسوّلين يسمع الحقيقة عنه بلا تضليل وتشويه، أو يتأمل صوره على الجدران مرصّعةً بمفردات البطولة والتخليد أو يقرأ اسمه في كتب تزوير الأطفال وطبخ طباعهم وأمزجتهم لصراعات وحروب قادمة...
يتذكّر أنّه نسي أن يودِّع أمهُ، لم تكن أماً مثاليّة، ولا مُهملة، أصبحتْ الأم والأب بعد أن سقط الوالد في أوّلِ الصدامات الدموية... سقط بريئاً بقذيفةٍ طائشةٍ... بكتهُ مريراً.. لكنّ انفجار القتال وخوفها على أبنائها أرْغماها على رشف الدموع وابتلاع الغصص.. ومحاولة تأمين المدرسة وحاجات العيش.
أينَ هي الآن.. إذا كانت تصلي من أجله.. لم لا يسمع الله صلواتها فيستجيب طلبها؟
ما لجدته ساهمةً بصمتها وقد اخترقت حكاياتها وأمثالها كلَّ المسافات والحواجز إليه-
لا شكَ أنني الآن وحيدٌ في مواجهةِ العالم، كلُّ الأسلحة مصوّبة لتنفيذ حكم الإعدام فيَّ/ هذا ما أضحى ينهش وجدانه.. لا يختلف عن أيّ مُحْتَضَرٍ في جزيرة معزولة، أو جندي في الخطّ الأمامي أهمله رفاقه في انسحابهم... أقدام حافيةٍ بحفيفٍ فظيع تنهب الأدراج والجدران
بحثاً عنهُ، صنابير المياه المنقطعة تُطلق صفيراً حاداً كهذيان تحضير الأرواح الشرّيرة.. الناسُ.. هناك.. في كلّ مكان.. ماذا يفعلون الآن.. ألا يكترثون لمصيره؟ لعلَّ كلّ إنسانٍ في الكوارث يبحثُ عن خلاصهِ الشخصيّ هل يعيد إلى أبويهِ ثمنَ اللذّة التي أنجباه بسببها؟ هل أُعلنَ وقفٌ لإطلاق النار كي يصفّيَ المتحاربون أحقادهم وثاراتهم به؟ تيقّنَ.. أنّهُ لو وجَّه البندقية إلى رأسه فإنّ سنواتٍ ضوئيّةٍ تفصل الرصاصة عن هدفها.. الفأرُ الوديع وحده من يقاسمهُ مكانهُ وزمانهُ.. ولعلهُ يتهجّى مظهره ليقول شيئاً فوق بهميّته، إذا استغفر الله عما ارتكب من قبل فإن حياته ستضيع في الحالتين.. الشمس التي غابتْ ستدور حول النصف الثاني منَ الأرضِ حتّى تعود إليه.. الأرض تدور.. الشمس تدور.. جهنَّم تدور.. فليدوروا كما يريدون على حذائي.. لا دورةَ منْ هذه الدورات تفيدني.. أخرج خزّان بندقيّته وهو يردّد: يا مسكينة.. ستموتين في ليلة زفافك.. ولكنْ ثقي .. لن تموتي رخيصة.. أحصى رصاصاته.. عشر.. عشرون.. ثلاثون.. حسناً ثلاثونَ رصاصةً تكفيْ.. وبروحٍ معنويةٍ غامضةً تفشّتْ في جسدهِ وروحه كصعقاتٍ كهربائية متلاحقة اندفع نحو الجدار الذي اخترقتهُ إحدى القنابل من عيار (1.5 مم) وهبّ يقتلع حجارته حجراً حجراً حتّى أُدميتْ كفّاه ولم يتوقّفْ إلا بعد أن بلغت الحجارة المقتلعة تسعة وعشرين.. ابتعد عنها بفرحٍ عارمٍ.. وراقبها قليلاً وهو يتلمّظ.. ثمّ انْكبَّ عليها يرتِّبها على أرضِ الغرفة على شكل نصف دائرة.. وانتصب ليستعرضها من جديد.. بلغت بهجته غايتها... أسند البندقية إلى الحائطْ وهو يكرّرْ:
ألمْ أعدكِ أيّتها الرفيقة الباقية
أنَّكِ لنْ تموتي رخيصة...
وقف في مواجهة الأحجار، المتحاذية على شكل نصف دائرة، شدّ قامته إلى الأعلى، رفع قدمه اليمنى بزاوية تسعين درجة، ودقّ بها أرض الغرفة إلى جانب يسراه.. فأحدث ارتجاجاً زاد من اعتداده بجبروته.. مدّ يده إلى جيب بنطاله الخاكي المخيط بعناية وعياقة وسحب منديلاً مطرّزاً أهدته له إحدى الفتيات التي اتخذ من سطح بيتها موقعاً مشرفاً على محور لطرق عديدة.. فتح المنديل كبيان بالغ الأهمية وشرع بصوت جهوري صارم يقرأ:
باسم التراب والماء والغناء
والزهر والهواء والبكاء
والبحار والصحارى والغابات
باسم العدالة والباطل والظلام
المطر والشجر والغمام
والحرب والسلام
باسم الدول والأحزاب والجمعيات
والمبادئ والشرائع والإيديولوجيات
والجيوش والميليشيات
باسم أمي وأبي وجدتي وحبيبتي
باسم هؤلاء جميعاً
أُنزلَ حكم الإعدام حتّى الموت
بمن أضمرتهم ممّن ترمز إليهم هذه الأحجار
التقط البندقية بحنّو طاغٍ
شدّها إلى كتفهِ
وضعَ عينيهِ على المنظارِ بدقةٍ متناهيةٍ
وراحَ يطلقُ على كلِّ حجرٍ رصاصة
إلاَّ الرصاصة الأخيرة
لم يكن الصبّاح قدْ تنفَّسَ
إلا والطابق الخامس والعشرون يترجّل إلى الأرض وفي يده
زنبقة تشيّعها الظلمة إلى مثوى الصباح