بتـــــاريخ : 11/22/2008 9:17:23 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1067 0


    وتنداح الأحزان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمد عادل عبد الخالق | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    نستقبل العيد في قريتنا ونحن نزور موتانا، نأبى أن تمر أفراحنا بدون أحزان، ونرفض أن لا نشرك الموتى ببعض أفراحنا.. نقف على قبر أمي المغطى بأزهار النرجس البري. تنهمر دموع جدتي، وهي تسألني:‏

    ـ هل قرأت الفاتحة على روح أمك يا أحمد؟‏

    أجيبها وأنا مشدوه بالحشد الكبير من أهل القرية في المقبرة:‏

    ـ طبعاً، طبعاً..‏

    تقول لي أختي:‏

    ـ مضى على وفاة أمك عشر سنوات، كنت في السادسة، هل تذكر قسماتها؟‏

    لا أجيب فقد كنت مسحوراً بقسمات سعاد الواقفة بالقرب من قبر أبيها المجاور لقبر أمي. ولأول مرة في حياتي تجتاحني مشاعر لم أعهدها من قبل. تقبلها عيناي آلاف القبلات من الخدين والشفتين ثم تحط على عينيها الكبيرتين، تلمح نظراتي فيحمر وجهها خجلاً.‏

    ولد حبي الأول في المقبرة، يومها كنت وأختي في زيارة قصيرة لقريتنا، فنحن نعيش في حلب منذ سنوات.‏

    ـ 2 ـ‏

    كثرت زياراتي للقرية، كنتُ أرى سعاد في كل مرة، تلقي عليَّ التحية ثم تختفي. تصافحها عيناي بحرارة، يبثها القلب بصمت دافئ أشواقي وحنيني، ولكنني كنتُ عاجزاً عن البوح لها بما تمور به أعماقي من عواطف متأججة. سنة مرت وأنا أكابد حباً عصياً على الكتمان. وفي ذلك الصيف عزمت على مصارحتها ومهما تكن النتائج. كان موسم الحصاد في ذروته عندما وصلت القرية، "الناس يجمعون ثمار جهودهم وأنا قادم أبحث عن ثمار أحلامي".‏

    أقول لابن عم لي ونحن مستلقيان على بيدر كبير في ضوء القمر، وصوت ناي بعيد يجعل من القرية جزيرة أسطورية مسحورة:‏

    ـ العالم طيب والحياة القادمة أجمل مما هي عليه الآن.‏

    يجيبني وهو يحدق في القمر:‏

    ـ أأنت عاشق؟؟‏

    أسأله بلهجة مستنكرة:‏

    ـ وهل هذا محظور؟‏

    يرد بأسى:‏

    ـ في هذا الوطن كل جميل محظور.‏

    لا تعجبني تأملاته الشقية وألتزم الصمت. بعد فترة يردف قائلاً:‏

    ـ زفاف سعاد بعد أيام..‏

    هل كان يقرأ مافي داخلي؟ هل كان يدرك كنه مشاعري؟ كل ما أعرفه أني بكيت بصمت. وفي الصباح الباكر غادرت القرية مقهوراً مدحوراً وفي جعبتي من الأحزان ماينوء على الوصف.‏

    ـ 3 ـ‏

    في نهاية ذلك الصيف سافرت إلى القاهرة. تحولت سعاد إلى ذكرى جميلة وسط انغماسي في الدراسة والنشاط السياسي والفكري الذي كان يطبع الحياة العامة في القاهرة في بداية الستينيات. ولكنني ورغم مشاغلي الكثيرة كنت أحس في قرارة نفسي برغبة جامحة لامرأة أحبها إلى حد الجنون. وفي بداية السنة الدراسية الرابعة تعرفت إلى أمل.‏

    كانت تجلس لوحدها إلى طاولة ملاصقة لطاولتي في مقصف الكلية، استرعى جمالها انتباهي، عيناها الخضراوان ساحرتان، بشرتها البيضاء صافية، شعرها الفاحم ينسدل بتراخ على كتفيها وظهرها، تحيطها هالة من الكبرياء والشموخ وفي نظراتها ثقة لا متناهية. استدرتُ إليها بعفوية وقلت لها:‏

    ـ ما رأيك أن نوحد الطاولة، طبعاً إذا كنتِ لا تمانعين؟‏

    أجابت وبسمة رقيقة زينت وجهها:‏

    ـ أُمانع؟ لا، أهلاً بك..‏

    نهضت عن مقعدي وجلست قبالتها مقدماً نفسي:‏

    ـ أحمد نور.‏

    ـ أمل خضر.‏

    تعارفنا بسهولة وتحدثنا وكأننا صديقان قديمان، وكانت هذه الجلسة القطرة الأولى في غيث منهمر. منذ ذلك اليوم الرائع بدأت علاقتنا تتنامى وشهدت حدائق القاهرة ومقاهيها وجسورها قصة حبنا الوليد.‏

    ـ 4 ـ‏

    عرفتُ أنها من حلب وأنها ابنة وحيدة لموظف ميسور مثقف وامرأة متحررة "أبي يختلف عن كل الآباء أو على الأقل عن الآباء الذين عرفتهم، أتاح لي أن أتعرف إلى ماحولي دون حواجز، لم يمنعني قط عن تنفيذ ما أريد، صحيح أنه سلحني بمعرفة عميقة عن واقع مجتمعنا وعن الإنسان بشكل عام، ولكنه كان يترك لي وحدي حرية القرار وحرية الاختيار، حينما أبلغته رغبتي في السفر إلى القاهرة شعرتُ بغمامة من الحزن تلفه، تأثرتُ جداً، قلتُ له: إذا كان ذلك يؤلمك فأنا على استعداد لإلغاء القرار، أنكر عليَّ التراجع وتمنى لي التوفيق. أما أمي فكانت على وفاق تام مع أبي، علمتني حب المطالعة وغرست في نفسي الثقة بالناس، لأنهم ـ كما ترى ـ في أعماق أعماقهم طيبون".‏

    في كنف ذلك الأب وتلك الأم أزهرت أمل.‏

    ـ 5 ـ‏

    مضى على تعارفنا أربعة شهور، عرف كل منا عن الآخر الكثير من الجوانب، كنا نتفق في معظم الأمور، قد نختلف ولكن خلافاتنا ليست من النوع الذي يجعل منا طرفي نقيض، إننا في صف واحد دائماً. كانت اهتماماتنا موحدة، تستقطبنا شؤون الفكر والسياسة والوطن والعلاقة بين الرجل والمرأة. تصالحتُ مع العالم واقترب قاربي من ميناء النار والنور.وفي مقهى مطل على النيل، قالت لي:‏

    ـ أحمد، هل أحببت في حياتك؟‏

    تشابكت نظراتنا وتعانقت، وددت لو ضممتها، لو اعتصرتها، لو قلتُ لها إني لم ولن أحب سواكِ، ولكنني أجبتُ بصوت مرتعش:‏

    ـ نعم أحببتُ ومازلتُ أحب.‏

    كانت عيناي ترفرفان حول عينيها، تحطان بين الحين والآخر على كلماتها، تلامسان شفتيها المكتنزتين الشهيتين، قالت والبسمة تكحل عينيها:‏

    ـ أنا مثلك، أحب، أحب بجنون، أحبك أنت، منذ اليوم الأول أحسستُ أنك صديقي المنتظر، الأيام الحلوة التي قضيناها معاً أكدت لي صدق مشاعري، أحبك يا أحمد، أحبك حتى الموت.‏

    فقدتُ إحساسي للحظات بالزمان والمكان، غمرني فرح طاغٍ مفاجئ، وضعتُ يديها الناعمتين البضتين بين يديَّ المرتعشتين وقبلتهما بحرارة وأنا أدمدم كالمحموم:‏

    ـ إني أعبُدك.‏

    قلتُ لها ونحن خارجان من المقهى:‏

    ـ هل تقبلين دعوتي للغداء في شقتي الصغيرة؟‏

    أجابت والبسمة تنداح على وجهها وتتراقص على وجنتيها:‏

    ـ بكل سرور.‏

    ـ 6 ـ‏

    بصراحة إنني لم أمارس الجنس من قبل، كنتُ بكراً إن صح التعبير. ولكنني في الواقع كنتُ أشتهي أمل إلى درجة الحب وأحب أمل إلى حد النشوة. وصلنا الشقة دون إحساس بالزمن. كان الطقس ربيعاً وكان السحر يخيم على كل شيء. غابت في ذاكرتي كل الصور البائسة عن حياة الملايين من حولي ولم يبق إلا الأمل في وطن جميل لا تحاصره المخاوف ولا تلوثه المظالم ولا تكبح قدراته مفاهيم محنطة، وطن تنتصب في قراه المسارح والملاعب ويتنامى في ربوعه العدل والحب.‏

    دخلناها وكان الدخول إلى الجنة، منحتني أمل نعمة لم أذقها حتى ذلك اليوم، كان عطاؤها خصباً دافقاً وبلا حساب. تحولنا إلى جسد واحد، وإلى روح واحدة. وكنتُ أحس ـ في غيبوبة النشوة ـ بطفولة الإنسان على الأرض قبل القيود والحدود. لقد سقطت جميعها كما سقطت ثياب أمل على أرض غرفتي. كانت تأوهاتها أناشيد آلهة جبال أوليمبوس وعيناها الخضراوان يشفان عن أدغال اللذة. كان توقي عارماً كتوقها وكانت رغبتي جارفة كرغبتها، ساعات طويلة ونحن مخدران تماماً، ثملان بحبنا وجسدينا. قالت لي بصوت هامس وهي تضمني:‏

    ـ لقد أصبحتُ زوجتك.‏

    ـ هذا ماكنتُ أحلمُ به.‏

    ـ لقد أصبح واقعاً ًوسأكون أماً.‏

    ـ إذن لابد من إجراء عقد الزواج.‏

    ـ لا تشغل بالك، إنه أمر شكلي.‏

    ـ وأهلك؟‏

    ـ القرار لي وحدي.‏

    ـ أخشى مشاعرهم.‏

    ـ لايهمني في العالم إلا المشاعر التي تقدر مشاعري ومشاعرك.‏

    قبلتها وكأنني لم ألمسها بعد.‏

    تم زواجنا شرعياً وهي حامل في الشهر الأول، كانت حياتنا رائعة، غنية، جديدة من كل الوجوه. ندرس معاً، ونعمل في البيت معاً، ونزور أصدقاءنا وصديقاتنا ونناقش كل الأمور كما لو كنا صديقين جديدين.‏

    كانت امتحاناتي لم تبدأ بعد حينما انتهت أمل من امتحاناتها، لذلك طلبتُ منها أن تسافر قبلي. لم ترق لها الفكرة ولكنني ألححتُ عليها خاصة وأن رسائل أمها وأبيها كانت طافحة بالشوق. وافقت أخيراً ثم بدأت تستعد للرحيل. وفي مطار القاهرة ودعتُ أمل. هاجمني حزن صعب عليَّ أن أغالبه، فاضت دموعي، ضمتني بقوة ثم وضعت رأسها على كتفي كحمامة بيضاء، وكانت تردد وهي في ذروة الانفعال:‏

    ـ سأراك بعد أيام قليلة.‏

    كان لابد من الفراق، وشعرت بالندم على سفرها، ولكن الأوان قد فات. وحينما علت طائرتها في الجو شعرت بأن القاهرة كئيبة حزينة وأن الناس فيها قد هجرتهم أفراحهم منذ زمن بعيد. وحينما وصلتُ شقتنا لم أستطع أن أفتح الباب. أصبت بانهيار مفاجئ،غمامة سوداء تربعت على عينيّ، وهرولت إلى شقة صديق لأنزل ضيفاً عليه خلال مابقي لي من أيام.‏

    ـ 7 ـ‏

    وصلني الخبر الأسود في اليوم الأول من امتحاناتي: لقد ماتت أمل في حادث مروع. كان ذلك فوق قدرتي على الاحتمال. تركت الامتحانات وهمت على وجهي في شوارع القاهرة لعدة أيام لم أعرف خلالها طعماً للنوم أو الأكل. لم تكن أمل زوجة فحسب، ولم تكن صديقة فحسب، بل كانت لي بعض ما افتقدته من جرأة على مواجهة الواقع. قلتُ لها ذات مرة:‏

    ـ حينما سيصبح هذا الوطن الكبير دولة واحدة، لن تجدي يا أمل قطعة أرض قاحلة، ستتحول كل الأراضي إلى حقول خضراء، وكل القرى إلى بلدات صغيرة مبنية من القرميد الملون الزاهي، وستجدين خدود الأطفال في حمرة التفاح... حينذاك سيبدأ التاريخ. أما الواقع الراهن فيدعو للقنوط والإحباط..‏

    علقت آنئذٍ بحماس:‏

    ـ صحيح أن الطريق إلى تحقيق ذلك الحلم الجميل شديد الوعورة، ولكننا سنناضل من أجل ذلك مهما كلفنا ذلك، فالأهداف الكبيرة كما تعرف تحتاج إلى تضحيات كبيرة، أليس كذلك يا أحمد؟؟..‏

    لم أغادر القاهرة إلى حلب، لم أجرؤ على ذلك، ومرت أشهر الصيف كالحة كئيبة حارة، وكانت ذكرى أمل تلازمني كظلي. وحينما جاء الخريف كنتُ قد لملمتُ جراح نفسي، وبدأت الاستعداد مجدداً لإعادة العام الدراسي.‏

    ـ 8 ـ‏

    في اليوم الأول من افتتاح الجامعة صادفتُ ندى، كان لقاؤنا حميمياً، تصافحنا بحرارة، انهمرت الدموع من عينيها وقالت لي بصوت مخنوق:‏

    ـ كانت أحب الناس إلى نفسي.‏

    فلقد كانت ندى بالفعل أعز صديقات أمل. كانتا صديقتين منذ الطفولة، كنتُ أعرف ذلك حق المعرفة. قلتُ لها بتدفق وعفوية:‏

    ـ إني سعيد أن أراك يا ندى، إني شديد الحاجة إليكِ.‏

    يومها تناولنا طعام الغداء معاً في إحدى المتنزهات النيلية، ولأول مرة أؤمن بأني قادر على متابعة الحياة مهما حدث.‏

    في سابق الأيام لم أكن أهتم بندى الاهتمام الذي يدخلني إلى عالمها الخاص رغم حضورها المستمر لقاءاتنا الدورية، لقاءاتنا التي كانت تضم طلاب طب وفلسفة وحقوق وكتاب وشعراء من جميع الأقطار العربية. كان الجميع يبحث عن رؤية شمولية للإنسان والكون والمجتمع. كنا نريد أن نكون فلاسفة وفنانين وسياسيين وأطباء وعلماء دفعة واحدة، كنا نتحرق أن نكون شمعات مضيئة في ليل هذه الأمة الطويل. كانت معرفتي بندى محصورة في هذا الإطار، وللحقيقة لابد من الاعتراف أني قلت لأمل بعد أول لقاء بيني وبين ندى:‏

    ـ هذه الفتاة فيها شيء من الادعاء وكثير من الغرور.‏

    عقبت أمل يومها:‏

    ـ ولكن فكرها ناضج وستحبها مع الأيام.‏

    ـ 9 ـ‏

    وعلىطاولة الغداء بدأتُ أنفذ إلى عالم ندى الداخلي. تتحدث بطلاقة وتحدٍ، تشعرك بأنها تقاتل شيئاً ما غامضاً في حياتها "أبي طبيب جراح، عاش في أوروبا الشرقية عشر سنوات، أمي أجنبية توفيت منذ سنوات قليلة، لم يتزوج أبي، أولاني وأختي ـ ومازال ـ الكثير من رعايته، يعيش حياته بالطول والعرض، تعلمتُ منه أن الحياة رحلة قصيرة، وعلى الرغم من أنه كان في يوم ما مناضلاً صلباً إلا أنه قد نفض يديه من القضية ولم يعد يهتم إلا بأموره الشخصية". توقفت قليلاً ثم تابعت بهدوء فاجع "إن موت أمي ثم موت أمل علماني الكثير". لم يكن هذا اللقاء يتيماً بل تكرر مرات عديدة، فقد تمتنت أواصر الصداقة فيما بيننا وبدأت أشعر بالحاجة الملحة لها.‏

    كانت متدفقة بالحيوية إلى حد الغرابة، شعورها العدمي الرابض في أعماق أعماقها يدفعها دفعاً لمعانقة الحياة بطريقة مثيرة، تدخن بنهم، وتشرب المنبهات بنهم، ولا تتخلف عن رحلة من رحلات الجامعة، تقرأ وتكتب باستمرار.‏

    وكانت تردد على مسامعي بشكل دائم "الحياة جميلة، إني أحبها بجنون". لا أنسى ذلك الحوار المتوتر الذي جرى بيننا والذي شكل انعطافاً في حياة ندى، بدأتُه قائلاً:‏

    ـ إن الحياة جميلة فلنجعلها للجميع كذلك.‏

    تضحك من قلبها وهي تعقب:‏

    ـ أنتَ غير راضٍ عني، أعرف ذلك، تجدني أبحث عن خلاصي الذاتي، اهتمامي بالآخرين يأتي في المرتبة الثانية.‏

    ـ هذا صحيح، لقد تأثرتِ بأبيكِ تأثراً بالغاً. إنني أؤمنُ بأن التقدم الإنساني لم يأتِ اعتباطاً، إنه حصيلة جهود هؤلاء الذين يفكرون ويعملون من أجل الآخرين، فليكن لنا دور ولو متواضع.‏

    ـ بصراحة أُحسُّ أحياناً بأنني غير قادرة على ذلك. حينما نجتمع سوية مع بعض الأصدقاء، وتبدأ النقاشات أشعرُ بأنني أحتضن أنبل مافي العالم من مُثل، فالعالم القادم الرائع لابد لـه من تضحيات، ولكنني في قرارة نفسي أحسُ بالعجز، أودُ لو أنني لم أمتلك الوعي الذي امتلكته، أودُ لو أستطيع أن أعيش كأي امرأة في هذا الوطن بلا أهداف، بلا مُثل.‏

    ـ كيف تقولين ذلك يا ندى؟ كيف تحولين الوعي من نعمة إلى نقمة؟ وكيف ترضين وأنتِ الفتاة المثقفة أن تعيشي بلا أهداف وبلا مُثل؟ متى كانت العبودية مطلباً والسلبية أمنية؟ أنتِ مازلتِ في بداية الطريق وتتكلمين على هذا النحو، فماذا سيكون موقفكِ بعد سنوات؟ يؤسفني أن أقول أنك عاجزة عن متابعة المشوار.‏

    ثارت، برقت عيناها كقطة وحشية، تطايرت شظايا كلماتها في كل الاتجاهات "هكذا أنا وسأبقى هكذا، لا أحب حياة المعتقلات، أن تناضل من أجل النور يعني أن تعيش في الظلام لفترة ما قد تطول حتى نهاية العمر، أُريد أن أعيش، أريد أن أعانق الشمس، أن أتأمل تساقط أوراق الخريف، أن أسير تحت المطر، أن أستنشق نسيم الربيع، نعم أكره المعتقلات، أمقتها".‏

    لم أجب، مرت فترة صمت طويلة قطعتها متسائلة بلهجة حانية:‏

    ـ أحمد مابك،هل حزنت؟‏

    تصنعتُ الابتسام ثم عقبتُ:‏

    ـ أحزنتني رؤيتك، ومع ذلك فمن حقكِ أن تخططي حياتك بالشكل الذي تريدين، لا نملك ولا يجب أن نملك فرض مسلك معين على حياة الآخرين، يبدو أنكِ قد اخترتِ طريقك وهذا حقك.‏

    بعد هذا الحوار لم تعد ندى تشاركنا نحن مجموعة الأصدقاء جلساتنا المنتظمة.‏

    ـ 10 ـ‏

    استمرت صداقتي مع ندى كسابق عهدها، وكنتُ ألحظُ من جانبها محاولات مستمرة لتنظير رؤيتها بطريقة غير مباشرة. كانت تظن أنها قادرة على إقناعي بسلامة خطها وصحة فلسفتها متناسية آلاف الوقائع التي تشدنا يومياً إلى بحث مسؤول عن تغيير واقع أمتنا التعيس. قلتُ لها يوماً كرد على ذلك الحوار الذي كشفت فيه عن عجزها عن لعب دور ما في حياة أمتها: "هؤلاء الناس الذين يتصدون لتغيير الواقع غير مغرمين بالسجون ولا يحبون حياة المعتقلات، إنهم يحبون الحياة حباً عميقاً وأنت تعرفين ذلك، بل إن حب الحياة ذاته هو الذي يدفعهم حثيثاً لتجميل الحياة، لجعلها مقبولة وإنسانية للجميع. الطريق طويلة وشائكة، هذه حقيقة، ولكن النضال من أجل حياة أفضل، من أجل واقع أعدل يبقى عملاً بطولياً يجب أن نحني له الرؤوس". تبتسم ثم تعقب "أمل كانت لك خير صديق". لا أعلم لماذا انتفضتُ حينما قالت ذلك، فلقد كنتُ أحسُ بحاجة حقيقية لصداقتها، لوجودها معي، لاحظت انخطاف لوني فأردفت قائلة: "سأبقى لك صديقة ما حييت".‏

    ـ 11 ـ‏

    بعد انتهاء العام الدراسي عدنا سوية إلى سورية، عملتُ في إحدى الدوائر الحكومية. ورغم تنامي علاقتي بندى وقراري بالزواج منها بعد تخرجها وإدراكها ذلك بوضوح شديد، كنتُ أشعر بأنها تخفي شيئاً ما لم أعرفه إلا في أوائل الخريف قبيل سفرها إلى القاهرة عندما جاءت إلى مكتبي المستقل وهي ممتقعة وكأنها مريضة ثم قالت:‏

    ـ لا أعرف كيف أبدأ الحديث؛ المهم أنني قررتُ عدم متابعة دراستي، هذه رغبة خطيبي ياسر، إنه رجل أعمال لا تهمه الدراسة، إني أعرف تماماً أنك لن تفاجأ، لقد حدثتك مراراً عن رغبتي في أن أعيش حياتي دون هموم عامة، أريد ألا أقترب من عالم الفكر المتعب أو عالم السياسة المضطرب.‏

    لم أعلق، نظرتُ إليها بغيظ ثم نهضتُ واقفاً، وقلتُ لها بجفاف:‏

    ـ لقد انتهى مابيننا.. أرجو لك التوفيق.‏

    ترقرقت الدموع في عينيها ثم قالت:‏

    ـ ومع ذلك سنبقى أصدقاء.‏

    أجبتها وأنا في ذروة الألم:‏

    ـ ماتت ندى، هذا ما أحسه الآن.‏

    فتحت باب الغرفة وأنا واقف كالمصلوب أحملُ صليبي الذي لا يراه أحد.‏

    ****‏

    -12-‏

    كان عليَّ بعد هذه الصدمة أن أُلملم جراح نفسي وأن أبحث عن فتاتي التي طال اشتياقي لها، وكانت سهام نجمة ليالي التعسة وزورقي في تيه بحر شرس الأمواج مجنون الرياح. شاركتني مكتبي بعد فترة قصيرة من تعيينها. سمراء طويلة القامة، أجمل مافيها عيناها السوداوان الضاحكتان، حينما تبتسم تُحسُ بأن العالم أضحى أحلى وأجمل... وديعة بريئة تملؤك إحساساً بالرضى والراحة. أهلها تجار كبار محافظون "نحن من عائلة كبيرة وغنية، كان جدي أول من أسس مصنعاً للنسيج في حلب، بعد التأميم فقدنا الكثير وبدأنا نخاف المستقبل، ما زالت أوضاعنا جيدة ومع ذلك قررتُ العمل، تردد أبي كثيراً، ولكنني نجحتُ أخيراً في إقناعه". تفاخرها بعائلتها ذكرني بعائلة هكسلي في إنكلترا، تلك العائلة ـ كالكثير من العائلات الارستقراطية في الغرب ـ أنجبت العديد من العلماء والكتاب والموسيقيين. قلتُ لها وأنا أُداري شعوراً بالتهكم الشديد:‏

    ـ هل تتصورين أن أغنياء العالم الثالث يختلفون عن فقرائه؟ كلهم متخلفون، الفروق شكلية، صحيح أن الغنى عموماً ًيتيح للإنسان ظروفاً مواتية لاكتساب الحضارة، ولكنه في محيط التخلف الحضاري المرعب الذي تعيشه أمتنا لعب دوراً مضللاً خادعاً.‏

    خُطِفَ لونها وكأني أشتمها شخصياً وزالت عن نظرتها البراءة وحل محلها جِّد مشوب بالحذر وعقبت بأسى:‏

    ـ سامحني إذا قلتُ لك إني لم أفهم شيئاً.‏

    أدركتُ مباشرة بأن سهام لاتختلف عن معظم البنات المتعلمات في مجتمعنا. التعليم بالنسبة لهن طريق للشهادة لا أكثر ولا أقل. ولمعالجة الفراغ الروحي الذي يعصف بهن، يلجأ قسم منهن إلى الاهتمام المبالغ بالمظهر، وقسم إلى الافتخار بما يملكن وليس بما يعملن، وقسم إلى أحلام اليقظة الكاذبة، أقل من القليل منهن يواجهن الحياة بصلابة وحزم فيدركن بأن الوعي هو الخطوة الأولى لاكتساب الإنسان ـ رجلاً أو امرأة ـ إنسانيته.‏

    تابعتُ محاولاً شرح وجهة نظري:‏

    ـ إن أغنياء أمتنا تصوروا أن شراء سيارة أو ركوب طائرة مثلاً يجعلهم في صف المتقدمين حضارياً. ما أبعد ذلك عن الحقيقة. إنهم يستطيعون أن يشتروا الكثير ولكنهم لا يستطيعون فهم المناخات التي أفرزت تلك السيارة أو الطائرة، لأنهم ببساطة متخلفون حتى السمحاق. إنهم لن ينقلوا إلينا مشعل الحضارة الذي انتقل إلى الغرب، بل الأصح إنهم يحاولون تجميل التخلف بكل المكياجات الحضارية. مأساتهم الحقيقية أن مصالحهم مرتبطة بشكل عضوي بالتخلف ونتائجه. ما أريد قوله أن الافتخار بهم ليس له ما يبرره، لأنه افتخار في غير محله.‏

    ران عليها صمت ثقيل أحسستُ معه بأن وجهة نظري هذه قد صدمتها في الصميم، لذلك قلتُ لها بعد فترة قصيرة:‏

    ـ سامحيني يا سهام، إذا أسأتُ إليكِ. صدقاً إني لم أقصد جرح مشاعرك، أنا أحترمكِ بحق.‏

    ردت بحماس:‏

    ـ لم أشعر قط بأنك تهاجمني ولكنني في الحقيقة لم أسمع أحداً يتكلم بهذه الطريقة التي تحدثت بها، عذري في ذلك أني من الجنس الآخر، لا نهتم بالسياسة أو الاقتصاد.‏

    كانت سهام تريد أن تقول المزيد وقد شجعها إصغائي ونظراتي المتعاطفة على أن تعبر عما في نفسها بصدق وعفوية، ولكنها أحجمت، كانت حذرة وجلة، عذبني أن أكون السبب، وتمنيتُ لو أن وجهة نظري لم تؤثر عليها التأثير الذي بدا واضحاً في كل سكنة من سكناتها. إنها لم تغضب، ولم تحزن، ولكنها بدت في غاية الارتباك.‏

    ـ 13 ـ‏

    كان هذا أول نقاش بيني وبين سهام حول مواضيع من هذا النوع، لكنه كان بداية سخية لمعرفة عميقة وراسخة بعالم سهام الداخلي. ومع توالي الأيام والشهور أصبحنا أكثر من زميلين في العمل. وخلال تلك الفترة بذلتُ جهوداً جبارة لدفعها للقراءة الجادة. كانت استجابتها مثار دهشتي، تقرأ بنهم وتناقش بمتعة وتختزن ذاكرتها معظم الأفكار الجديدة، نقطة الضعف الوحيدة كانت حساسيتها المفرطة إزاء واقع الحياة. كلمة جارحة قد تكون عرضية تجعلها تعاني من آلام مبرحة أياماً طويلة.‏

    معاملة والدها القاسية تؤرقها وتنغص عليها حياتها. وشيئاً فشيئاً بدأت تحتلُ في حياتي موقعاً متميزاً "فهل ستدخلين حياتي يا سهام" أمل كانت الحب والنضج ثم ماتت، وندى كانت الضعف والخيانة ثم تلاشت، فهل سيكتبُ لي أن أعيش معكِ أيامي القادمة، أن أزرع جسدكِ قبلاً محمومة، أن يروي شوقي ظمأ لذاتك الخافية الخجلى... أن تعبث يداي وعيناي بتضاريس جسدكِ اللدن؟؟ إن أحببتكِ سأحميكِ من الموت، سأقاتل من أجل أن لا تشوهي وجه الحياة القصيرة بخيانة، وسأجعل من جسدي قارباً تعومين به أطراف العالم لتري كم هو جميل‏

    يمكن أن يكون، كم هوعظيم يمكن أن يكون،‏

    وسنبصق معاً في وجه العالم القديم ونعانق العالم الجديد بشبق مجنون".‏

    ـ 14 ـ‏

    بدأت مشاعر الحب تهب عاصفة في قلبي فتؤجج نيران الرغبة والشهوة وتثير شريطاً طويلاً من الذكريات حلوة ومرة. وبعد شهور طويلة على تعارفنا قلتُ لسهام بعد تمهيد قصير:‏

    ـ أحبك يا سهام، نعم أحبكِ، وكأنني لم أحب من قبل.‏

    تلألأت دموع الفرح في عينيها وغمرت وجهها ابتسامة دافئة وأجابت بتدفق:‏

    ـ لن أحب غيرك، أنت كل شيء في حياتي.‏

    كنتُ أعرف أن طريقنا شائك وأن اليوم الذي سيضمنا فيه بيت واحد بعيد المنال، ولكن ما العمل؟ لماذا يُفرض علينا أن نعاني من أمور لا علاقة لأحد بها سوانا؟ قلتُ لها وأنا أحاول أن أخفي حزناً خيم عليَّ فجأة:‏

    ـ هل ستبلغين أهلكِ؟ إني أود التعرف إليهم جميعاً، لابد من بحث الموضوع معهم بلا مواربة.‏

    أجابت وهي تحدق شاردة إلى السماء من نافذة مكتبنا:‏

    ـ كما تريد يا أحمد، كما تريد.‏

    مرت أيام كانت فيها سهام مبلبلة عاجزة عن التركيز. جرفني حزن عميق وتأثرتُ لما تعانيه من متاعب ومصاعب، حاولتُ أن أبحث معها الموضوع ولكنها كانت تردني برفق وتقول:‏

    ـ سأخبرك كل شيء في الوقت المناسب.‏

    ولكنني عزمت أن أعرف لأنه لم يكن هناك أنسب من تلك الأوقات لأشارك سهام ظروفها المعذبة. قالت بعد تردد:‏

    ـ أبلغت أمي عن مشاعري تجاهك وعن رغبتك في زواجي، صُعِقَت، قالت هل يمكن أن يوافق والدك على زواجك بمثل هذا الموظف؟ هل نسيتِ التاجر الكبير ابن السهلي؟ إنه يطلبك بإلحاح، إنني بصراحة لا أجرؤ أن أفاتح والدك بالموضوع، فاتحيه أنتِ ولتعلمي أن حبكِ لزميلك مجرد نزوة عابرة. لم أجبها، بقيتُ صامتة لأني أعرف أمي معرفة حقيقية، إنها سليلة أسرة إقطاعية كبيرة تحتقر كل مالا يمت لطبقتها بصلة، فكرتُ أن أوسط أخي المهندس، أخبرته عن كل شيء، كان يصغي إليَّ باحترام أكبرته عليه، قال لي بعد فترة صمت طويلة إن اختيارك سيسبب لنا أحزاناً كبيرة، ومع ذلك أعدك بأن أفاتح أبي بالموضوع، وأن أطلب منه أن لا يتسرع في اتخاذ القرار وأن يسمح لأحمد بزيارتنا فقد يحبه ويوافق. بعد يومين وقع أبي مريضاً وحينما هممتُ أن أدخل غرفته أبلغتني أمي رغبة أبي في أن لا أعوده، حز في نفسي ذلك وبكيت، ولو لم تكن في حياتي لوضعتُ حداً لها.‏

    ـ لا تقولي هذا يا سهام، لشد ما يحزنني أن يخطر على بالك مثل هذه الهواجس، الانتحار هروب وعلينا مواجهة الحياة لأننا محكومون بالأمل، فإذا لم يوافق أهلكِ هناك حلول عديدة.‏

    ـ هناك حل وحيد كما أرى ..‏

    ـ وما هو ذلك الحل؟‏

    ـ أن نهرب معاً ونتزوج..‏

    ـ لا مانع عندي، ولكنني أود أن نحاول معاً كل الأساليب، وحينما نفشل يفرض رأيكِ نفسه.‏

    ـ 15 ـ‏

    بعد ثلاثة أيام من هذا الحديث اعتقلت، لم أستطع أن أودع سهام، غابت عني أخبارها وأسدلت جدران المعتقل ستائر سميكة بيني وبين العالم الخارجي، لا رسائل ولا زوار ولا أخبار ولكن صورة سهام بقيت ساكنة في قلبي "ماذا تفعلين يا سهام في غيابي القسري؟ هل تبكين حظنا العاثر؟ هل واجهتِ أباكِ وانتقمتِ من أخلاقياته العتيقة برفضكِ ابن السهلي؟ هل ضغط عليك حتى تتركي العمل فلا أراكِ بعد إطلاق سراحي المحتم؟" أسئلة عديدة كانت تؤرق حياتي في المعتقل ولكن الأمل في رؤية سهام، في لقائها كان حافزاً طيباً للاحتمال والصبر. والغريب أن حلماً واحداً لازمني في المعتقل سهام"في فستان أبيض تعدو وسط سهول خضراء وخلفها أسراب من طيور ملونة وفراشات بيضاء تزين رأسها الجميل، أعدو وراءها ولكن غيمة داكنة تحول بيني وبينها، أبكي... أصرخ، ينتصب أمامي رجل قاسي القسمات يسألني ماذا تريد منها؟ أجيبه إنني أحبها، إنها حبيبتي، يرد بغلظة حاقدة ألا تعلم من أنا؟ أنا ابن السهلي وسهام زوجتي". أستيقظ في ليل المعتقل، تنساب الدموع من عيني حارقة وتضطرم الأشواق في دمائي.‏

    ـ 16ـ‏

    بعد شهور طويلة يطلق سراحي، أغادر المعتقل، وفرح عظيم يكاد يفجر قلبي الملتاع" سأراكِ يا سهام، مهما كلفني ذلك من ثمن، فلا بد أن تكتحل عيناي بعينيكِ فذلك أمل عشته لحظة إثر لحظة في المعتقل". أصل الدائرة، أسأل عن سهام فيخبرني زميل عن انتحارها، لم أعد أرى طريقي، تدفقت الدموع في عيني "لماذا فعلتِ ذلك يا سهام... يا وداعة العالم القادم، يا نبلاً يولد وسط مزابل الحقد والكراهية، يا زهرة تفيض أريجاً في مستنقع نتن"، أهيم على وجهي، تقودني قدماي إلى مقبرة بعيدة عن المدينة، أضع على قبرها زهرة حملتها لها هدية للقائنا الذي ما تم. ووسط الدموع والذهول رأيتها قادمة من بعيد في فستان أبيض، ترفرف بذراعيها وتناديني بأعلى صوتها، نهضتُ بسرعة لاستقبالها وعدوتُ باتجاهها، ولكني تعثرتُ بشواهد القبور وسقطت على الأرض فاقد الوعي.‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()