كنتُ في قرارة نفسي أبحث عن فرصة، عن مناسبة أؤكد فيها لنفسي أولاً وللجميع ثانياً أني أدخل مرحلة جديدة في حياتي، مرحلة لا علاقة لها بتلك التي تزوجت فيها وأنا في الخامسة والعشرين، ولا تمت بصلة للمرحلة التي عشتهاوَنَمَتْ فيها بيني وبين الدكتور رامي صداقة حميمة وإعجاب متبادل، تلك العلاقة التي استمرت فترة طويلة ثم انتهت منذ سنتين تقريباً، مرحلة أحسستُ فيها بأني على أبواب النضج وأني امتلكت شيئاً فشيئاً مفاتيح الحياة واختلفت عن الآخرين في أمور أساسية.
وقد وقع اختياري على أن تكون حفلة ميلادي الخامس والثلاثين الحد الفاصل بين عمرين إن جاز التعبير.. وكنتُ أريد أن يكون شهود الإثبات على كل ما عزمت أن أؤكده، زميلاتي وزملائي في مستشفى الشرق الذي أعمل فيه كطبيبة منذ عشر سنوات، إلا أن الأمور في تلك الحفلة سارت على نحو لم أخطط له ولم يخطر على بالي، وتحولت إلى مقدمة غنية بالمؤشرات، وقادت إلى ذلك اللقاء العجيب الذي لم أتخيله قط.
حضر الدكتور رامي ومعه هدية قيمة أثارت شكوك الجميع. لقد طلق زوجته قبل أيام، إنه واثق من موافقتي على الزواج منه، إني خير من يعرفه، لا يمكن أن يتصور أني رفضته إلى الأبد. ذلك فوق قدرته على المحاكمة، عسير عليه أن يدرك تطوري الروحي وما طرأ على أفكاري ومشاعري من تغيرات وتحولات، أما الدكتور حسين فقد أدهش الجميع. عرض علي الزواج هكذا، وبلا مقدمات، لقد سبر حقيقة مشاعري الحالية نحو الدكتور رامي. وجد أن الساحة خالية ـ كما تصور ـ وما عليه الآن إلا أن يتقدم خطوة قد تكون فاتحة لخطوات أخرى عديدة. ولكن الدكتور حسين لم يكن الرجل الذي أريد وما كان في يوم من الأيام يوليني عناية خاصة وما كانت هناك أي نقاط لقاء تجمعنا على أي صعيد. أما الدكتور كمال الذي اقتحم حياتي بمشاعره الدافئة وأفكاره المحيرة فقد لاذ في الحفلة بالصمت على غير عادته، فرغم الخمسين سنة التي يحملها على كتفيه ورغم زواجه وأبوته لصبية وشاب، كانت روحه شابة مفعمة بالحيوية. لقد سيطرت عليه في الحفلة كآبة واضحة حتى أني شعرت بأنه على وشك الإغماء. ولم تجدِ مداعبات الزميلات والزملاء فتيلاً، وفجأة غادر دون أن يقول لي وداعاً. لقد أثارني موقفه، وأحزنني ما ألم به، وتأكدتْ لي مشاعر بدأت تتبلور شيئاً فشيئاً.
ـ 2 ـ
الماضي
للموت حساب طويل معي. ماتت أمي وأنا في التاسعة، ثم لحقها أبي وأنا في الحادية عشرة، عندها انتقلنا أنا وأخي الوحيد إلى بيت عمي "أبو حامد" كان ذلك البيت نقيضاً لبيتنا في كل شيء. عمي يختلف عن أبي اختلافاً كبيراً، شخصية طاغية لا يعرف الحب إلى قلبه سبيلاً، زوجته وأولاده لا وجود لهم في حضرته. حتى حامد، ولده البكر، كان لا يجرؤ على تركيز بصره فيه، يتكلم معه وهو مطرق إلى الأرض.
في ذلك الجو المقيت كانت العودة إلى طفولتي المبكرة عزاء لا مثيل له. كان أبي رقيق المشاعر رحيماً بنا جميعاً ومحباً للآخرين أيضاً. كان موضع ثقة القرية كلها، يحتكمون إليه في خلافاتهم ويطلبون منه المساعدة في حل مشاكلهم ويعتبرونه رجلاً حكيماً نظيف اللسان والضمير. حينما مات، شاهدتُ بأم عيني دموعهم الغزيرة وقسماتهم التي تشي بالتأثر العميق. وكانت أمي كريمة تعتبر أهل القرية أسرة واحدة. أذكر بوضوح أنه في موسم التين والعنب كانت في كل قطفة تحمل منهما إلى المحرومين الحصة نفسها التي نحصل عليها نحن أصحاب الكرم، وحينما نعترض نحنُ على حصتنا القليلة تردد:
"الناس لبعضهم البعض، وتينة مثل تينتين، والواحد ما بياخد من الدنيا إلا السمعة الطيبة".
توالت السنوات وأصبحت صبية ـ في تلك الفترة وجدت في الانكباب على الدراسة مهرباً من إحساسي بالغربة وقسوة الجو العائلي المحيط. كان من عاداتي في أيام الربيع وحتى بدايات الصيف أن أحمل كتاباً وأتجه إلى حقول القرية الخضراء التي ماتزال محفورة في قاع الذاكرة، حقول واسعة يتسلل وسطها نهران صغيران يحملان الخير على مدار السنة. كان حامد يلحقني أحياناً، يغازلني ويعدني بالزواج في المستقبل القريب. كانت مشاعري نحوه مزيجاً من الحب والعطف يخالطهما رغبات بدأتُ أحسُ بها دفاقة حارة عنيفة خاصة عندما يلفني بذراعيه القويتين ويشبعني لثماً وضماً. ورغم انتقالي مع أخي إلى مدينة قريبة لمتابعة الدراسة الجامعية، استمرت علاقتي العاطفية بحامد التي كان يباركها عمي علناً. كان حامد طموحاً في مجال محدد: الحصول على القوة والجاه، وبالفعل فقد تبوأ خلال سنوات قليلة مركزاً مرموقاً مكنه من اكتساب سلطات واسعة وأصبح مرهوب الجانب وتحت إمرته إمكانات واسعة، وحينما كان أخي يناقشه في مدى مشروعية هذا النجاح، ينبري حامد قائلاً:
ـ أنت مسكين يا علي، عالمنا ليس عالم قيم، إنه عالم تحكمه القوة. السلطة في عالمنا هذا طريق آمن للامتيازات المادية والمعنوية.
كنتُ، دائماً في صف أخي، فلقد كان علي صورة عن أبي، يعلي من شأن القيم ويعادي كل ضروب النجاح القائم على العسْـف والظلم،ولم يكن هذا الجانب فيه منفصلاً عن رؤية جديدة متكاملة بلورها أخي خلال معاناتنا في بيت عمي إلى جانب قراءات مستمرة جادة. لقد فتح علي عينيّ على أمور كثيرة، وبذر بذوراً ما زلت أحس بجذورها في سويداء قلبي.
كانت وجهات نظره انقلاباً كاملاً على كل ماهو سائد في حياتنا من قيم ومفاهيم، وكنتُ أحس إلى جانبه، رغم أنه أصغر مني سناً، بالأمن والأمان، وحينما قرر حامد أن يتزوجني، سألته رأيه، فقال: إنها حياتك يا سارة، ومن حقك أن تتصرفي بالطريقة التي تريحك. ثقي بأنني سأبقى إلى جانبك أبد الحياة وسأدافع عن قرارك المستقل، هذا عهد لن أخونه مهما كانت الظروف. تزوجت بعد تخرجي من كلية الطب مباشرة. لم يدم الزواج سوى شهر واحد. فلقد مات حامد في حادث سيارة كان يقودها بسرعة جنونية.
ـ 3 ـ
الدكتور رامي
بعد وفاة زوجي بفترة، انتقلتُ أنا وأخي إلى هذه المدينة البعيدة عن قريتنا، والتحقت بمستشفى الشرق حيث قابلته لأول مرة. كان عائداً من الولايات المتحدة بعد غياب طويل. متوسط القامة جميل القسمات حيوي الحركة. لم يستطع بداية أن يخلف انطباعاً مؤثراً عليّ، بقي مجرد زميل. وحينما تزوج بعد التحاقه بالمستشفى هنأته ببرود يوازي فتور العلاقة بيننا، إلا أن هذا الفتور لم يطل. بدأ يخطب ودي ويحاول أن يقتنص الفرص للتقرب مني، لم أمانع. حدثني عن بؤس حياته الزوجية التي لم يمضِ عليها سوى شهور معدودة وعن سوء الفهم المستحكم بينه وبين زوجته.
كان الدكتور رامي، كما اتضح لي بعد سنوات، خدعة كبيرة. يصب كل ذكائه في تغيير صورته الحقيقية أمام الآخرين. لا أنسى حديثه في بداية علاقتنا عن زوجته وعن الثقافة:
ـ أنا أحب المرأة المثقفة. ولكن ثقافة زوجتي لم تعلمها كيف تعيش بسعادة. سألته:
ـ ألم تفهمك؟!..
ـ تؤكد أنها فهمتني الآن، أي بعد الزواج، وتصر على أننا من عالمين مختلفين.
ـ المفروض أن تبذل أنت جهداً للتقريب بين هذين العالمين.
ـ لقد سدت عليّ كل الطرق، تقول لقد كان زواجنا خطأ فظيعاً.
كم تغير هذا الموقف المخادع؟! أعلن مرة في سورة غضب وهو يحدثني ـ بعد أن امتدت جسور الصداقة بيننا لسنوات ـ عن موقفه من زوجته ومن الثقافة:
ـ سارة أريد أن أقول لك بصراحة، أنا أحس بالقرف من الثقافة، أنا فعلاً أحتقر الثقافة والمثقفين، ومع احترامي لكِ، أعتبرهم مجموعة فاشلة، تعوض فشلها بالتنظير والتحليل وتعيش عيشة بائسة تليق بها. كل ما أقدمه لزوجتي من ضروب الرفاه لا يشبعها روحياً، تصوري هذا المنطق.
لم يدهشني هذا الاعتراف، فقد تنامت معرفتي به، وملكت مفاتيح شخصيته. أقسم أنه لم يقرأ كتاباً في حياته خارج المقررات الدراسية. عالمه صغير محدود. يفاخر أنه يملك عيادة خاصة يعمل بهامساء، وبيتاً أشبه بقصر، ودخلاً يحسده عليه زملاؤه.
ـ ماذا يطلب الإنسان أكثر من ذلك؛ وماذا تريد زوجتي، إنها غبية، تحطم سعادتها بيديها.
بدأ يردد هذه المعزوفة بعد أن اطمأن إلى رسوخ علاقتنا، ولكننا بدأنا نختلف وكان الاختلاف يتصاعد.
كان في البداية يثني على وجهات نظري ويطري ذوقي ويمتدح ذكائي. كنت في عينيه نموذجاً للمرأة الكاملة. لم أستطع أن أقيّم إعجابه آنذاك، فتطورت علاقتنا سريعاً.كان إعجابنا متبادلاً وكان هناك اتفاق غير مكتوب بيننا أن نتزوج بعد الطلاق الذي نراه آتٍ لا ريب فيه، ولكن مشاعري نحو رامي لم تتحول في يوم ما إلى حب، كنت أحس مع مرور الزمن أن هناك شيئاً ما في شخصيته ( يباعد ما ... ) بيني وبينه، ثم أدركت
بوضوح شديد عبر سنوات تلك العلاقة ذلك الشيء أو تلك الأشياء التي بدأت تباعد مابيننا والتي أدت إلىإنهاء
تلك العلاقة.
لم يأتِ قراري هذا طفرة بل كانت له مقدمات. ذكرتُ لكم مايكفي منها، ولكني لم أرو لكم مقابلة زوجته لي ذات يوم. كانت امرأة جذابة، طبيبة ومثقفة، سأنقل لكم بعض المقاطع من حديثها دون تدخل:
ـ نحن في هذا البلد نعيش في شبه قرية، هكذا بدأت، قصة صداقتك مع رامي بدأت تلوكها الألسن. لا تظني أنني جئت لأقول لك هذا عيب، ابعدي عن زوجي، هذه ليست بضاعتي، إنما جئت لأثبت لك كامرأة أن رامي حالة نموذجية تحتاج إلى عيون كثيرة كي تراه من جميع الجهات ومن الداخل أيضاً. سمعتُ عنكِ أنكِ عاقلة وتحاكمين الأمور بتبصر شديد، ولكن مع ذلك خشيت عليك الوقوع. قد لا تصدقين دوافعي هذه ولكني لست ملزمة تجاهك بتقديم وثيقة تثبت حسن نيتي، المهم أن تعرفي أن رامي يركز كل ذكائه في إرضاء من يطلب وده، وحينما يقع بين يديه يكشر عن أنيابه وهي أنياب سامة أحياناً. والمأسوي في هذا الموضوع، وهو مايستحق بحثاً نفسياً معمقاً، أنه يوقع في حبائله من لا يريده ومن يضطر لمعايشته على مضض. ماذا أقول لكِ. كان أيام الخطبة يصغي باهتمام ـ هكذا كما يبدو ـ لما كنت أقدمه من وجهات نظر في أمور كثيرة، وكان يعجب بثقافتي ومحاولتي المستمرة أن أكون مواطنة ذات دور، وبعد الزواج أصبحت الثقافة في نظره أمراً مزعجاً، والمثقفون أناس فاشلون، متزمت رغم معايشته مجتمعاً أجنبياً لسنوات طويلة. عالمه أشبه بثقب الإبرة، لا يهمه سوى بطنه وجمع المال وما عدا ذلك إلى الجحيم. في بداية زواجنا كان يعاتبني بخبث لاهتمامي بمرضاي وعطفي عليهم وصدقي معهم، ثم بدأ يُنظِّرْ، من يريد أن يعيش عليه أن يكذب ويخدع وإلا فلا مال ولا رفاه. يحتقر مرضاه، ولا يجد فيهم من مزية سوى أنهم يدفعون. ثقي بأني لن أكمل المشوار معه مهما كانت الظروف
تحدثتْ بصدق وحرارة وفتحت عينيّ على جوانب كثيرة كنتُ غافلة عنها. ولم يعد رامي بالنسبة لي أكثر من زميل. لكنه لم ييأس، حاول إقناعي بالعدول عن قراري هذا ولكني كنت عازمة على الانتهاء منه إلى الأبد. وحينما طلق زوجته، فكر بأنني سأوافق على الزواج مباشرة. أعرفه كيف يحلل الأمور. لقد حضر الحفلة وقدم الهدية وهو على ثقة مطلقة بأن كل شيء سيسير على مايرام.
بعد الحفلة، زارني عارضاً الزواج فرفضت بحزم، وبعد أيام، نعم بعد أيام، سمعت أنه تزوج، فحمدت الله أنه وجد من ترى فيه أنه مرغوب جداً.
ـ 4 ـ
الدكتور حسين
تعرفتُ عليه منذ خمس سنوات. كان في حدود الأربعين. عازب ويبدو عليه أنه سيبقى كذلك. إنه أشبه بلوح الشمع،لا إشعاع ولا حيوية، باردُ يذكر بالمناطق القطبية؛ لا يجيد الضحك من القلب. ورغم الجليد الذي يتراكم في داخله، كانت تطارده دائماً إشعاعات هامسة حول محاولاته الجنسية للتقرب من الممرضات. إنه رجل عملي، يعرف مايريد بدقة، لا تسكنه أحلام في علاقاته بالمرأة، دقيق وكأنه آلة مبرمجة.
الجانب الهام في شخصيته والذي كنتُ أكبرهُ عليه ولعه بالمطالعة وانفتاحه على الثقافة العالمية. قدم لي ولغيري الكثير من الكتب الهامة. ينتقد الكثير من الظواهر في حياتنا ويمارسها بفجاجة. يحمل رؤية متكاملة ولكنها جافة جامدة تفتقر إلى حرارة الإنسان. قال لي ذات مرة:
ـ دكتورة سارة اسمحي لي أن أعرف لك الإنسان. إنه معدة وجنس وعقل، إشباع هذا الثلاثي يعني السعادة، وما عدا ذلك أضغاث أحلام، وأوهام لا علاقة لها بالواقع الفعلي، فما رأيك؟
ـ عالمك هذا أرفضه، أمقته. إنه سجن مسموح فيه النشاط الجنسي.
قابلني بعد الحفلة، سلم عليَّ ببروده المعهود ثم سألني:
ـ عفواً دكتورة سارة، لقد عرضتُ عليك الزواج في الحفلة، فهل فكرتِ في ذلك؟
ـ دكتور حسين، نحن زملاء والأفضل أن نبقى كذلك.
ـ أليس من الأجدى أن نكون زوجين، عمرنا متقارب، وضعنا الاجتماعي والثقافي.... ثم... إني أرتاح لكِ وأتوقع أن تكون حياتنا معقولة.
ـ سامحني أن أقول لكَ أن كل العوامل التي ذكرتها غير كافية ـ في نظري على الأقل ـ لبناء حياة زوجية سعيدة. أرجوك أن تنسى هذا الموضوع.
أجاب دون تأثر مع بسمة خفيفة ارتسمت على وجهه: كما تشائين.
ـ 5 ـ
الدكتور كمال
التحق بمستشفى الشرق منذ ثلاث سنوات. سبقته أخباره، فلقد كان سياسياً في يوم ما، ولكنه هجر السياسة فجأة وعاد إلى عمله كطبيب، أول مايخلفه من انطباع حيويته الزائدة وحساسيته المفرطة. بعد تعارفنا بفترة قصيرة قال مازحاً:
ـ دكتورة سارة هل قال لك أحد إنك غجرية، قسماتك، زينتك، لباسك، كلها تؤكدأنك غجرية عظيمة.
ـ لا، لم يقل لي أحد من قبل. ولكن هل هذا مدح أم ذم؟؟
ـ إنه مدح شديد. فأنا أحب الغجر وحياة الغجر. الغجر يحبون الحياة إلى درجة التصوف.
ـ إذن أنا غجرية حقاً.
ـ هذا ما أراه، ثم ضحكنا..
سرعان ما تنامت علاقتي بالدكتور كمال إلى حد أن رامي بدأ يتضايق من هذه العلاقة، ويحاول أن يفتري عليه بأكاذيب ليس لها من وجود سوى في ذهنه المريض.
كان مخلصاً في عمله بشكل ملفت، العمل عنده مقدس ورعايته للمرضى نموذج يحتذى، يداوم صباحاً ومساء فهو لا يملك عيادة خاصة، رقيق مهذب مع الصغير والكبير. الآخرون، القيم الجديدة، العالم القادم، احترام الرأي الآخر، العقلانية، التسامح.... تعابير يرددها دون كلل أو ملل، كنت حريصة على الحوار معه، ففي كل حوار يولد في داخلي فكرة جديدة، أحاسيس خصبة.
قلت لـه ذات مرة ما رأيك في القائلين بأننا نولد لنواجه مأساتين، مأساة الوجود كوجود ومأساة الوجود الاجتماعي؟
قال: سارة العزيزة، الموت لا يُقهَر ولكننا ننتصر عليه باجتثاث الخوف منه، يعني أن نحب الحياة وكأننا خالدون فيها. أما المأساة الثانية فهي من صنع الإنسان وهو مسؤول عن قهرها. ثم تابع بلهجة خطابية يداخلها مزيج من الجد والهزل: الحياة رائعة أيتها الغجرية العظيمة فلنحيها بفرح ولنعمل بكل مانملك ليعيشها الآخرون كذلك.
إني أرى يا سارة أن الفرح عمل جماعي كالضحك تماماً، هل يمكن للإنسان أن يضحك بمفرده من صورة كاريكاتورية أو نكتة أو طرفة؟ كذلك لا يمكن أن نفرح فرحاً حقيقياً إن كان الآخرون غائبين أو غارقين في المتاعب والهموم.
كان كمال منعطفاً في حياتي وواحة أمان ألجأ إليها كلما ادلهمت عليَّ قسوة الظروف. يسمعني وعيناه في عيني، يلتقط كل سكنة وحركة ويحاصرني بأسئلة محرجة. أستطيع أن أقرر دون تردد أن علاقتي به كانت من العوامل الهامة التي سرَّعت في وقف علاقتي بالدكتور رامي. ومع ذلك لم يحدثني ولو مرة عن حياته العائلية، إلا أنني عرفت وبطرقي الخاصة أن زوجته مصابة بمرض عضال يصعب الشفاء منه، كان ذلك الجانب، كما يبدو، سراً دفيناً يشبه تماماً علاقتي المقطوعة برامي. يطالع باستمرار ويحرص على أن أشاركه في قراءاته، وكان يهتم بشؤون العالم ككل ويسعده أن نعيش ثورة الاتصالات ويؤكد بغبطة بالغة:
ـ لقد أصبح العالم قرية صغيرة..
قلتُ له بعد التغيرات الكاسحة التي طرأت أخيراً على العالم: لقد هزني ماحصل، فما رأيك أنت؟
ـ لا تستعجلي الأمور، المهم أن ندرك أن الوصاية على الناس خطيئة تاريخية فاحشة.
تابعتُ: هل لي أن أعرف رأيك في الدين؟
ـ ولماذا اخترتِ هذا الموضوع بالذات؟
ـ بصراحة لأنني ألاحظ أن لك موقفاً خاصاً كثيراً ما أشتم منه أنك ملحد.
مرت فترة صمت، أشعل سيكارته بهدوء وأخذ نفساً عميقاً، ثم قال:
ـ هل تعلمين أن أول كلمة أرددها بعد استيقاظي هي كلمة الله، وهل تعلمين، أن أعذب كلمة أسمعها هي ياالله خارجة من فم مظلوم، أو مقهور يشكو أمره إلى السماء. من لا يحب الله لا يمكن أن يكون إنساناً. أنا مؤمن ولكني لست مستعداً أن أقدم كشف حساب لأحد عن هذا الجانب. إنه جانب شخصي بحت، ولذلك ورغم احترامي العميق لكل الأديان إلا أنني لست مؤمناً بقيام دولة على أساس الدين.
كان يحيرني، يعذبني، يتعبني، وأحس أحياناً أنه يتحداني، ولكنه في الوقت نفسه، كان يحترم رأيي، ويؤكد أنه ليس من حق أحد أن يدعي امتلاك الحقيقة فذلك في رأيه طريق الاستبداد والعنف، فالآراء اجتهادات، مجرد اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب.
بصراحة مطلقة أصبح كمال صديقاً لا أستطيع البعد عنه، وكنت أخشى خشية شديدة أن يعرف بعلاقتي القديمة بالدكتور رامي، كنت أتساءل بيني وبين نفسي هل تسربت إليه أنباء تلك العلاقة؟ وهل استطاع رصد علاقتي الجديدة برامي؟ كان هذا السؤال أشبه بكابوس يؤرقني ويثقل على روحي.
وكانت الحفلة، وما حدث فيها مناسبة جيدة للتحقق من هذا الموضوع. وفي أول لقاء بيننا بعد الحفلة سألته: ما رأيك بالدكتور رامي؟
ضحك ضحكة طويلة ثم أجاب: كان الأحرى بك أن تسأليني هل تعرف العلاقة بيني وبين رامي؟ توقف قليلاً، فارقته الضحكة وتغيرت ملامح وجهه، ثم أردف: نعم أعرفها، وأنا حزين جداً لذلك، إنه لا يستحقك أنت الغجرية العظيمة، أنت سارة العزيزة.
ران عليَّ صمت ثقيل، لم يستطع أن يميز نوعية علاقتي الجديدة برامي، ولا كان بوسعي إبلاغه قراري الحازم بعدم الزواج من رامي وخروجه من حياتي إلى الأبد. داريت جرحي فسألته: ما الذي اعتراك في الحفلة، غادرتها قبل الجميع دون كلمة وداع، ابتسم وقال بهدوء: هذا حديث طويل، حديث ذو شجون يحتاج لجلسة هادئة، هل لي أن أزورك غداً مساء في بيتك لنتحدث في هذا الموضوع؟ أجبته دون تردد: بكل سرور.
ـ 6 ـ
اللقاء
لا أعلم لماذا شغلني ذلك اللقاء، ولماذا فجر في ذهني توقعات غامضة، وأثار أسئلة لا حصر لها، نمت بعد الظهر. وحينما استيقظت اغتسلت بماء دافئ، وبدأت أستعد، ارتديت فستاناً غريب الطراز لم ألبسه من قبل، ووضعت مكياجاً فاقع الألوان، وسرحت شعري لينسدل على ظهري بحرية، وتعطرت بعطر أثنى عليه الدكتور كمال نفسه في يوم ما.
وحينما انتهيت ألقيت نظرة فاحصة على نفسي، فاكتشفت لأول مرة أنني بالفعل غجرية، بدءاً من أحمر الشفاه فالحلق الطويل ذي الشناشيل إلى العطر فالفستان. وفي تمام الساعة الثامنة قُرع الجرس. تسارعت نبضات قلبي، هرعت مسرعة وقبل خطوة أو خطوتين تصنعت الهدوء وفتحت الباب، كان يقف وبسمته تغمر وجهه، رحبت به ترحيباً حاراً ودخلنا معا إلى غرفة الاستقبال. قال لي:
ـ أنا لست ضيفاً، حبذا أن نجلس في غرفة مكتبك، أجبته بعفوية:
ـ أنت في بيتك.
دخلنا غرفة المكتب. جلس على أول كرسي صادفه، وجلستُ قبالته. وأعدتُ الترحيب به، شكرني وهو ينقل بصره في أركان الغرفة ليستقر أخيراً عليّ. تفحصني بدقة واستقرت عيناه على عيني، ثم قال أنت رائعة كل يوم ولكنك الآن أروع من الروعة، أنت غجرية عظيمة. ضحكت، قلت له مداعبة: "هكذا أنت تريدني"، فعلق بسرعة، وهل تفعلين ما أريد؟ أجبته عندما ينسجم مع قناعتي. ضحك وطلب القهوة. كان تحضير القهوة فترة راحة لكلينا، وحينما وضعتُ فنجان القهوة أمامه تساءل بلهجة جدية: هل تعلمين لماذا جئتُ لزيارتك؟ جئتُ لسبب قد لا يخطر ببالك مطلقاً.
سرت رجفة في أوصالي، سألته: ألا يمكنني أن أخمن، أجاب بثقة، لا، لا أعتقد، مرت فترة صمت مرهقة، كان سارحاً، مشتت الذهن والأفكار، قرأت ذلك من عدم قدرته على الثبات على جلسة واحدة. قال لي فجأة وبصوت متوتر وعيناه على نافذة تنسدل عليها ستائر حريرية: سارة إني أحبك، نعم إني أحبك، هل توقعتِ ذلك، هل خطر ببالكِ ذلك؟ أجبته دون تفكير: لا، لم أتوقع ذلك.
تابع: إنها قصة طويلة، بدأت بعد تعارفنا بفترة قصيرة، سرعان ما تحول إعجابي بك إلى حب عاصف، أصبحت صورتك تسكن روحي ليل نهار. كنت أحس بعلاقتك بالدكتور رامي فيزيد شقائي وعذابي. كنت أتساءل كيف أن روحاً كروحك تنسجم مع روح مشوهة كروحه. وكانت ارتباطاتي العائلية مصدراً آخر للصراعات التي استفحلت في حياتي. ثقي بأني حاولت بجهد بالغ أن أجتث حبك من قلبي، وأن أهجر هواكِ لقناعتي أني لستُ قادراً على تحقيق ماقد تحلمين به، خاصة وأن أحلامنا بشكل عام يشكلها المجتمع الذي فيه نعيش، قد نرفضها نظرياً ولكننا عملياً نجد أنفسنا أسرى لها، أقول لقد حاولت ذلك بجهد صادق، ولكني كنت كمن يحاول أن يطفئ النار بأوراق الغار، وأن يحجب وجه الشمس بغربال لم يبق منه سوى إطاره. أحبك يا سارة، أعبدك، أقدسك ولو أتيح لي أن أقدم لك روحي هدية لما ترددت لحظة واحدة.
كان منفعلاً وعيناه لا تستقران على مكان محدد. توقف لحظة ثم أردف: نحن كبشر نحب بجنون حينما نكون في سن الشباب ولكني الآن وفي هذه السن أي حب هذا الذي يتجذر في كل خلية من خلايا جسدي، ماذا أسميه؟ ماذا يسميه الآخرون؟ أنا لست من الذين يؤمنون بأن الحب خاص بفترة معينة من فترات العمر، ولكن في الوقت نفسه يذهلني حبك لأنه طغيان غير معهود في سني. قاطعته: كمال أنا أعرف أنك قادر على حل الكثير من المشاكل، تبحث عن الأسباب، عن الجذور، ثم تجد الحل، فلماذا لم تستطع ضبط عواطفك؟ أطرق صامتاً وقد انكسرت حدة انفعاله ثم حدق فيَّ قائلاً: لك الحق، وتنهد تنهيدة عميقة ثم أكمل: من السهل يا سارة أن نحل مشاكل الآخرين لأننا نستطيع أن نراها من جميع الزوايا، أما مشاكلنا فنعجز عن حلها، لأننا محكومون برؤيتها من بعض الزوايا، وأحياناً نراها من جوانب قد تزيدنا تشويشاً وتضاعف من ضياعنا، حاولتُ، نعم حاولتُ أن أفسر حبي لكِ وأن أضع يديَّ على الأسباب الكامنة وراء جنوني بك، هل يمكن أن يكون السبب كامناً في عدم انسجامي الروحي مع من هم أقرب الناس إليَّ؟ هل يمكن أن تكون الرغبة بالانتصار على واقع شديد التعقيد قاسي الوطأة سبباً وجيهاً؟ هل أردتُ بصورة لا واعية أن أصالح بحبك العالم أو على الأقل أن أهادنه؟ هل هو البحث عن الدفء في عالم شديد البرودة؟ أسباب عديدة طرحتها وناقشتها ولم أفز بجواب حاسم.
توقف، أخرج علبة السكائر من جيبه، ووضعها على الطاولة الصغيرة أمامه ثم أردف قائلاً: ثم لا تنسي كونكِ أنتِ تختلفين عن النساء في كثير من الجوانب. توقف، عدل جلسته وكأن الانفعال قد أنهكه، سحب سيكارة ثم أشعلها بيد مرتجفة وساد صمت ثقيل قطعته محاولة أن أخفف وطأته: مارأيك بالويسكي، لدي قليل منه تركه أخي قبل أن يسافر إلى الخارج؟ ابتسم ابتسامة حزينة
ووافق مباشرة.
غادرت الغرفة ورأسي أشبه بخلية نحل. المهم رجعت بالويسكي والجليد وكان في الزجاجة نصفها. وضع قطعتي جليد في الكأس وصب كمية كبيرة من الويسكي وجرعها دفعة واحدة. أعاد صب الكمية نفسها تقريباً. أشعل سيكارة أخرى وبدأ يعب أنفاساً متلاحقة ثم التفت إليّ وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة مفعمة بالمرارة قال: ليس غريباً يا سارة أن أصاب بهذا الجنون، فالطبيعة من حولنا تمر بالأعراض نفسها أحياناً. بماذا نفسر البراكين وهبوب الأعاصير والهزات الأرضية؟ طبعاً هناك أسباب ولكن الأعراض أعراض مجنونة في كل الأحوال.
جرع كأسه الثانية ثم صب الكأس الثالثة. شعرت فجأة بحاجة ماسة لفنجان قهوة ثان، استأذنته وقبل أن أغادر الغرفة وضعت شريطاً من الموسيقى الهادئة في المسجلة وشغلتها. حينما عدت كان واقفاً أمام لوحة وفي يده كأس الويسكي. بدا الحزن في عينيه وآثار السكر واضحة في حركاته، قال وهو يحاول أن يبتسم:
"حينما ولدتِ، قالت لي أمك تعال يا كمال ألق نظرة على سارة، هل هي التي وصفتها لي؟ اقتربت منكِ، الوجه نفسه الذي حلمت به. كنت سارة التي أريد، شكرت أمك، قبلت يديها وانحنيت أشتم رائحة عنقك، خشيت عليك من القبل، كنت لا أسمح لأحد برفع صوته عليكِ- هذه سارة حبيبتي دعوها تجمل العالم، كان قلبي حارساً أميناً لكِ، إذا انحسر عنكِ الغطاء وأنت في سريرك الصغير اندفعتُ لأضع يديّ على جسدكِ الغض ليعوض الحرارة التي فقدها، وحينما ماتت أمك شاركتكِ الأحزان، وعندما مات أبوكِ بكيتِ بدموعي، لم أغب عنكِ لحظة واحدة، كنتُ دائماً معكِ وكان فرحي بصباكِ عرساً رقصت فيه كل غجريات العالم، كنتُ لا أحب حامد، فهو شاب شوهته السلطة والتسلط، ولم أحب رامي فقد شوهته المفاهيم المنحطة وروح الجشع والخسة وضيق الأفق، أما علي فهو المستقبل".
كان يمثل المشاهد كما لو كان على خشبة مسرح. هل كان يهذي؟ هل أصيب بمس من الجنون؟ كنت أرقبُ حركاته بدهشة، وشعرتُ بأني أخطأت خطأً كبيراً في تقديم الويسكي له. ركزّ بصره عليّ ثم تابع وهو يترنح: سارة إني أراكِ وفي حضنكِ علي الصغير، له نفس عيونك الجميلة، يرضع من صدرك الحنون حليباً أنقى من مياه الينابيع، إني أراكِ وأنت إلى جانبي في السرير تغطين في نوم عميق وتهرين كقطة أنيسة لها عينان ساحرتان، سارة إني أحبك. قال الكلمات الأخيرة بضعف شديد وكأنما فقد سيطرته على نفسه تماماً ثم جلس. ماذا أقولُ لكم؟ لقد تأثرت تأثراً بالغاً وشعرت للحظات إني أحبه منذ الأزل، وأن العالم بدونه صحراء صمتها مخيف ورياحها مرعبة، ولكني لم أتوقع، بل لم أتخيل، قصة حب بهذا العنف، أذهلتني حرارة العواطف.
رفع بصره نحوي ونادى بصوت ضعيف: اقتربي مني أرجوك.
اعتراني شيء من الارتباك، ماذا يريد مني ونحن وحيدان وهو سكران حتى الثمالة ؟
أجبته: أراك من هنا بصورة أفضل.
-أتخافين مني يا سارة؟
-معاذ الله أن تساورني الشكوك من تصرفاتك.
ضحك بصوت عالٍ ثم عقب: لو قبلتكِ لكانت قبلتي مشروعة جداً، ولكن ذلك لن يحدث، فأنا أريد منك روحك أولاً. توقف قليلاً ثم أردف: هل تحبينني يا سارة؟
شعرتُ مباشرة وكأنني أمام لجنة تحقيق وعليّ أن أجيب عن سؤال لم أطرحه على نفسي من قبل. فكيف أرد هكذا وبسرعة؟ أجبته بهدوء مصطنع: كمال حبذا أن تعفيني من الإجابة الآن. انتفض، امتقع لونه، زاغ بصره وقال وكأنه يحدث نفسه: من يحب رامي لا يمكن أن يحبني. حينما سمعت ما قاله شعرت أنه أهانني في الصميم، فأجبته على الفور بانفعال شرس:
نعم من يحب رامي لا يمكن أن يحبك. كنت أعني ما أقول تماماً وما يعنيه أيضاً، لا أجافي الحقيقة وأرد الصاع صاعين. نهض وهو ثمل تماماً وسمعته يقول بصوت متهالك متقطع سامحيني يا سارة إن أزعجتك، وداعاً.
نهضتُ، وقفت قبالته، اقتربتُ منه، شممت رائحة العطر الذي كان به مغرماً ممزوجة برائحة الويسكي، وتمنيتُ في هذه اللحظة أن يحضنني وأن يقبلني آلاف القبلات وأن أقول له ما يرضيه. رافقته حتى الباب، خرج دون أن يلتفت وقفلتُ الباب ودخلت.
انفجرت في بكاء عنيف، لا أعرف لماذا، ولا أريد أن أعرف. تمددتُ على سريري دون أن أنام، وفي الفجر نهضت، تناولت قرصاً منوماً ثم استسلمت للنوم، ورأيت كمال في نومي يعتذر لي عن الإساءة ويقبلني بحرارة.
-7-
الرسالة
في اليوم التالي ذهبتُ إلى المستشفى وأنا مهدودة القوى. سألتُ عنه، لم يداوم وعرفت أنه مريض. عذبني ذلك اللقاء وأثر على صحتي. غصت في أعماقي أبحثُ عن جواب شافٍ لهذا السؤال: هل أحب هذا الرجل؟ تساءلت لماذا كنتُ حريصة إلى حد المبالغة في إخفاء علاقتي بالدكتور رامي عنه؟ لماذا كنتُ أخصه بمواضيع لا يمكن أن أطرحها على أحد؟ لماذا كنتُ راغبة بمعرفة دقائق حياته الشخصية، ولماذا يسعدني أن أكون جميلة جذابة في عينيه؟ وأجبت نفسي: نعم إني أحبه، ولكنني في الوقت ذاته كنت أدرك الارتباطات التي تكبله والصراعات التي تستحكم بحياته وخاصة مرض زوجته، بين قطبي الرحى هذين كنت محشورة. باختصار أحبه وكنت أتمنى أن لا أحبه، هذه هي الحقيقة، حقيقة مرة ولكنها تعبر عن الموقف بدقة. بعد عودته توقعت أن يزورني صباحاً وكنت في شوق عارم لرؤيته، إلا أنه لم يأت حتى انتصف النهار. دخل عليّ وفي عينيه انكسار واضح. قال لي بلهجة محايدة وكأن ذلك اللقاء لم يتم: سارة عندي رسالة لك، هل يزعجك أن تقرئيها؟ قلت له ببرود مرسوم: لا، أبداً.
سلمني الرسالة ثم غادر، لم يرض أن يجلس. أغلقت الباب ومزقت الظرف على عجل وبدأت بالقراءة.
"سارة العزيزة
لم يعد الصمت ممكناً، أصبح الصمت قاتلاً لذلك كان إعلاني دفاعاً عن النفس، كان بودي أن يكون بوحي عرساً بلا رصاص، فأنا لا أحب إطلاق الرصاص في الأعراس أو سوء الفهم بين البشر، لأنه ظلم يضاف إلى ظلم الطبيعة فيحول الحياة إلى مأساة، يختفي فيها العنبر ليسود فيها الحنظل، لا يهمني امتلاك جسدك بل يهمني امتلاك روحك أولاً. في عينيك سر من يفك حروفه لا يموت. ليكن حبك صرخة احتجاج على كل عفونات العالم، وبقدر ما أحبك ستكون الصرخة مجلجلة. سامحيني إن أسأت، أدفع عمري كي تبقى بسمتك كإشراقة الصباح، وفرحك كحقول قمح معطاءة، وعبيرك يعطر مساكب الفل والياسمين، أحبك بكل جوارحي، وأحس بأنك توأم روحي المعذبة.
نساء العالم كلهن يحلمن أن يكن مثلك، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. إني محموم بحبك ولكني سعيد حتى النهاية. فهو يغسلني من كل أوضار الحياة ويمنحني القدرة على المقاومة. من يفهمك، من يحل طلاسم عوالمك الداخلية يستحقك عن جدارة. لو أتيح لي أن أعلن حبك على الملأ لما ترددت لحظة، فالوردة لا تخجل من عطرها، والصبية لا يعيبها صدرها، والأرض لا تحرجها زهورها، لن أتخلى عن حبك، إنه انتصار على قسوة الواقع وحتمية الموت، إنه جنون مخطط ضد جنون عشوائي، أحبك نعم أحبك".
قرأتُ الرسالة مرات عدة وحاولت أن أفهم ما وراء الكلمات والحروف، وتوقفت طويلاً عند نهايتها "لن أتخلى عن حبك، إنه انتصار على قسوة الواقع وحتمية الموت، إنه جنون مخطط ضد جنون عشوائي". إني أعرف طبيعته، فهو مغرم بتشريح مشاعره وتشخيص الأسباب والدوافع. إنه يحبني بجنون، ولا يسمح لأي سبب كان أن يوقف هذا السيل من المشاعر، إنه الجنون بقرار في مواجهة قدر مجنون اعتباطاً. فماذا أفعل أنا؟ وما هو التصرف الحكيم في مواجهة هذا الموقف الجديد في "عمري الجديد"؟
-8-
نهاية بلا نهاية
الشهور التي أعقبت الرسالة حزينة. لم يعد كمال يزورني، كان يراني من بعيد فيقترب ليلقي التحية باستحياء ثم ينسحب مباشرة. كنت أدركُ حجم الصراعات العنيفة التي تفتك به ومدى إحساسه بالإحباط الشديد. لقد فقد حيويته ورافقته كآبةٌ تمزّق القلب. لم يجد في زواج الدكتور رامي فرصة مواتيه لعودة العلاقات بيننا وإن وجد فيه- كما أتصور دليلاً ساطعاً على خطأ تقديراته المتعلقة بمشاعري نحو الدكتور رامي. وفي الوقت نفسه أدرك بحس سليم أن عدم ردي على سؤاله عن مشاعري نحوه يخفي وراءه صراعات كانت تتنامى وأصبحت الآن مستفحلة.
إنه يحبني ويريد الزواج مني، لقد كشفته تصوراته وخيالاته ليلة اللقاء، ولكن أنى لي أن أوافق على مشروع كهذا؟ إني أعترف إني أحبه وأتخيل أنه ليس في هذا العالم من سيحبني حبه، أنا واثقة من ذلك، ولكن بعد انتظاري الطويل أتزوج رجلاً كهلاً له زوجة مصابة بمرض خطير وأبا لابنة صبية وابن شاب؟ كم سيكون الأمر قاسياً على تلك الزوجة المسكينة، وقد يكون سبباً في موتها؟
أسئلة مضنية تلاحقني وتنغص عليّ عمري. لم توافق واحدة من اللواتي لجأت إليهن على فكرة الزواج من كمال، يناقشن الأمر بمنطق الربح والخسارة ولا شيء سواه.
قالت لي إحدى الصديقات الثريات:
-هل كمال غني؟
-لا، أبداً، ليس هناك ما يدل على ذلك.
-كيف إذن يفكر بالزواج، إن أمره عجيب حقاً، أنا لم أسمع بمثل هذه القصة في حياتي. كبار السن الأغنياء هم الذين يفكرون بالزواج مرة ثانية. أنت مجنونة يا سارة إن وافقت على هذا الرجل.
وقالت لي صديقة أخرى مطلقة بعد سنة من زواجها.
-أنا على يقين أنه سيهرب مع مشاكله إليكِ، وقد يترك لك المشاكل ويهرب ثانية.
وقالت ثالثة تفخر بثقافتها:
-أنا لا أنكر أن الحب في مثل سن صديقك ناضج كثمرة شهية، ولكن زوجة مريضة وأولاد ومشاكل.. أنا لا أرضى لكِ بمثل هذا الزواج.
لم تساعدني آراء الآخرين على اتخاذ موقف، كانت تشوشني وتزيدني بلبلة. وكنت أحياناً أضيق ذرعاً بصعوبة الموقف الذي وضعني فيه كمال فأسقط عليه بعض المشاعر السلبية، ثم أعود إلى نفسي لأواجه فيضاً من مشاعر الحب الذي يتوهج في حنايا قلبي.
ماذا أفعل؟ كان السؤال الذي يلازمني في نومي ويقظتي، وكان وجود كمال معي في العمل ورؤيته يومياً يؤجج عواطفي ويضاعف من إحساسي بوحدته وعذابه "لن أتخلى عن حبك، إنه انتصار على قسوة الواقع وحتمية الموت، إنه جنون مخطط ضد جنون عشوائي". أعرف ما يعنيه: إذا كان الحب في مرحلة الشباب ينسجم مع قوانين الطبيعة، فالحب في مرحلة الكهولة هو محاولة للانتصار على تلك القوانين نفسها، وهي محاولة جديرة بأن تعاش، ففيها من العواطف بقدر ما فيها من الفكر، إني معه، إنه النضوج الإنساني في ذروته.
لم أصل إلى قرار، أعتقد أن ذلك مستحيل في الوقت الحاضر. سأترك ذلك للزمن عله يضع نهاية لحكايتي التي ما زالت بلا نهاية].