نهضت بهدوء وثقة، وقد شجعني أنها لم تنتبه إلى جلوسي إلى الطاولة المقابلة لها. وقفتُ أمامها ثم قلتُ بصوت خفيض: هل تمانعين في الجلوس معك؟
-لا، لا أمانع، يمكنك الجلوس.
بعد فترة قصيرة نظرت إليّ نظرة متفحصة، ثم قالت بلهجة واثقة:
-أنت غريب، أنت لست إنكليزياً بالتأكيد.
-نعم أنا لست إنكليزياً، أنا عربي.
لم تجب ولم تعلق بل عادت إلى ذهولها، قلتُ لها بعد أن فكرت ملياً في سؤالي التالي الذي قد يكون مفتاحاً لبدء حديث طويل:
-هل تعرفين لماذا أردتُ الجلوس معك؟
-لا، لا أعرف، ولا يهمني كثيراً أن أعرف.
تجاهلتُ القسم الثاني من ردها، وأردفت قائلاً:
-أردتُ في الواقع أن أواسيكِ، أن أخفف عنك أحزانكِ، فدموعك تشي بمصاب أليم.
-أشكر مشاعرك الرقيقة، هذا لطف منك.
انتهزت فرصة تجاوبها فسألتها على الفور.
-هل فقدت عزيزاً عليك يستحق كل هذا الحزن؟
مرت فترة صمت ثقيلة، كانت عيناها لا تستقران على شيء محدد، ثم حدقت في وجهي وقالت بصوت تحاصره ذكريات مؤلمة:
-نعم فقدتُ هوغو، خمس سنوات ونحن نعيش معاً في بيت واحد، لم نفترق ولو ليوم واحد، يستقبلني عند عودتي من العمل بشوق جارف، يشاركني كل زياراتي، ولا ينام قط إذا أحس أني قلقة أو مريضة.
توقفت بعد أن طفرت الدموع من عينيها، ثم تابعت وهي تغالب نوبة انفعال مفاجئة:
-منذ شهور قليلة أصيب بمرض عضال، استشرت عدة أخصائيين، أجمع الكل على ضرورة القيام بعمل جراحي. صمتت، ثم بدأت تمسح دموعها، وبعد لحظات أردفت:
-منذ ثلاثة أيام أُجريت له العملية الجراحية، البارحة مساءً فارق الحياة.
تغير لون وجهها، وتهدج صوتها، وامتدت يدها نحو محفظتها، وكأنها تبحث عن غصن يحميها من الغرق، ثم قالت لي وهي تهم بالمغادرة:
-شكراً على اهتمامك.
قلتُ لها وأنا أودعها:
-سامحيني إذا أثرتُ شجونك، عزائي أنكِ لا بد وقد خلفت طفلاً من هوغو.
نظرت إليّ باستغراب شديد ثم قالت:
-لقد أخطأت الفهم، هوغو ليس إنساناً، إنه كلب.
غمرني شعور بالحرج الشديد، وانتصب أمامي سؤال ملحاح: لماذا أخطأتُ الفهم رغم أني استوعبتُ كل كلمة من كلماتها؟؟