بتـــــاريخ : 2/1/2009 8:23:37 PM
الفــــــــئة
  • الصحــــــــــــة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 984 0


    خلق الإنسان من طين في ضوء القرآن

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أ.د/عبد الفتاح محمد طيرة | المصدر : www.55a.net

    كلمات مفتاحية  :

     

    بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فإنه بدراسة المواد العصوية وعمليات إنتاجها، وبدراسة الكائنات التي تعيش عليها وتستفيد منها، تجمعت لدينا مجموعة من المعلومات يعتبر أغلبها حقائق هامة.
    ذلك أن بعضها مشاهدات حسية، وبعضها بدهيات فطرية، هي جزء من كياننا ومن الوجود نفسه، والبعض الثالث نتائج مستنبطة عقلياً، على هذه الحقائق الأساسية يجب أن نبني أخلاقنا، وسلوكنا، وأهدافنا، وأحاسيسنا، وأعمالنا، وقبل ذلك كله عقائدنا ومواثيقنا التي نلتزم بها.
    ومن أهم هذه الحقائق ما يأتي:
    1.    أتى على الأرض حين من الدهر كانت فيه خالية تماماً من الحياة.
    2.    ثم بدأت الحياة في وقت محدد، وإن كنا لا نعلم تاريخه بالضبط، بدأت الحياة بكائنات بسيطة في احتياجاتها الغذائية، إذ استطاعت العيش والتكاثر على مواد لا عضوية. كيفية نشوء الأفراد الأولي من كل نوع مجهولة لنا تماماً، لكن المؤكد لنا أنها نشأت، وتحقق وجودها، وكان له بداية، ولابد لوجودها من علة فاعلة. أول الكائنات الحية على الأرض كانت ـ على الأرجح ـ هي الطحالب .
    صنعت الكائنات الحية الأولى مواد عضوية قليلة .. مهدت لظهور كائنات غيرها تعيش عليها أو تعمل فيها.
    3.    توالى ظهور أنواع الأحياء عبر عصور تقدر بملايين السنين. ظهور أنواع الأحياء الجديدة يعني إنتاج أشكال جديدة من المواد العضوية، ومن نتائج تحللها.. مما يمهد بدوره لظهور أنواع جديدة تعيش وتتكاثر بسهولة.
    هذا هو معنى تطور الحياة على الأرض وترقيها. ما كان للبقليات والبقول ـ مثلاً ـ أن توجد وتنتشر إلا بعد توفر البكتريا العقدية، وما كان لمادة الكيتين أن تظهر على الأرض إلا بعد وجود أشجار السينكونا، وما كان لحمض اللبنيك أن يتوفر إلا بعد نشوء أحد أنواع الكائنات المنتجة له، وما كان لأي كان طفيلي أن يوجد ـ على الأرجح ـ إلا بعد وجود عائلة.
    4.    إن كل نوع من الكائنات الحية يعتبر جهازاً متخصصاً، ليس فقط من صفاته الشكلية من حجم ولون وصورة أعضاء، ولكن كذلك في غذائه الذي يعتمد عليه، وفي الظروف المناسبة لتكاثره، وكذلك في وظيفته، وفي المواد التي ينتجها، وفيما يتبع ذلك من تغيير في بيئة الأرض.التخصص يعني مثلاً ـ أن شجرة التفاح لا يمكن أن تنتج قمحاً، وأن القرد لا يمكن أن يلد إنساناً. الاختلافات بين المولود وبين أبويه لا يمكن أن تخرجه عن نوعه، وإلا كان مسخاً محتماً عليه العقم أو الهلاك.. على هذا توفرت أدلة وبراهين.
    5.    هذه التخصصات في الصورة والشكل، وفي ما يختاره أفراد النوع من الغذاء الميت في البيئة، وفي ما يصنعه وينتجه، أو فيما يعمل .. كلها ليست أموراً عشوائية وإنما ثبت لنا أنه تحكمها أوامر وتعليمات مكتوبة في نوى خلاياها بشفرة تفهم وتطاع، وتتوارثها الأجيال. وهي متوائمة مع ما في الوجود كله ومعقولة ومراده، فهي سنن ومواثيق لا يمكن للكائن مخالفتها ولا أن يحيد عنها. بل إن كان ما يحدث في الكون من عمليات وحركات تحكمها سنن وقوانين لا تتغير ولا تغير طريقها. وربما اشتقت كلمة " سنة " (وجمعها " سنن " ) من أنها لا تغير (سننها أي طريقها)ولا تتغير بمرور السنين، فبغيره ما كان ثمة علم ، وما استطعنا أن نتنبأ بحدث (كالخسوف والكسوف مثلاً)، ولا أن نصنع شيئاً بعد حساب كمياته ونتائجه والتخطيط لنجاحه، وما استطعنا أن نتقي شراً أو خيراً، أو نختار سبيلاً وأسلوباً. إن معنى ذلك أن كل شيء على الأرض مسنون بقدر قابل للحساب والتعقل، وليس ثمة فوضى ولا عشوائية، وإنما يعزى عجزنا وجهلنا إلى عدم علمنا بكل السنن، ولكنا نعلم بعضها دون شك.
    فمن السنن أن يموت كل كائن حي على الأرض، وأن تتحلل مادة جسمه إلى مكونات معينة.
    هكذا يقول وينتج العلم، بل إن هذا هو معنى العلم، وليس العلم إلا العلم بالكليات.. بالحقائق والثوابت والسنن.
    6.    عرفنا أن الكائنات الحية تتوارث مكونات أجسامها بعد فسادها، فجسم كائن حي جديد يتكون من بقايا تحلل كائنات قديمة فسدت. هكذا يدخل في تركيب جسم (جمل) ذرات من جسم (عجل) وذرات من (دورة)أو(سمكة) أو(شجرة).
    لكن تغيير الذرات في جسم الكائن أمر يحدث في كل لحظة ولا يعني هذا تغيير هويته ولا تغيير نوعه، فالهوية والنوع ليستا هما المادة.
    كل كائن جديد يتكون من (حمأ)، وهو حمأ لأن البقايا العضوية حين تتحلل تطلق حرارة حامية، وهو حمأ لأن فيه غازات ومواد تغير لون الماء ورائحته وشفافيته فهو أسن مسود كدر. فالحمأ هو الأسود الكدر كما أنه الساخن.
    وجود كل كائن حي على الأرض ـ الإنسان من بينها ـ مؤقت وملكيته لمادة في الأرض مؤقتة، ولكن وظيفته كتمهيد لما بعده يبقى أثرها. وجوده الجسماني إلى فناء، ولكن أو شره أبقى من مادته أثراً.
    7.    تأخر ظهور الإنسان على الأرض حتى توفرت فيها كل المواد المتحللة (الحمأ) الكافية في كما ويكفي لتكوين نسله المتكاثر، والتي تصلح بها حياته، والتي تلزم لعمله وأداء وظائفه. وإنه حمأ خاص اقتضى سنوات كانت ملاييناً، واقتضى سنناً، وكان من أهم السنن حتمية موت الكائنات السابقة بعد أن تنتج مواداً وتؤدي أدواراً فرضت عليها وأريدت لها ـ فهو بهذا وبصفاته الأخرى(حمأ مسنون).
    8.    لعلنا رأينا في وضوح سهولة تكون أحياء جديدة من بقايا كائنات ماتت وأن التربة والأرض تلعب دوراً هاماً وسيطاً في كثير من العلميات، فهي تتلقى بقايا الكائنات القديمة، وفيها تتحول البقايا إلى حمأ، ومن هذا الحمأ تنشأ الكائنات الجديدة وتبعث فتتحرك وتعمل، وهي في كل أمورها وحركاتها وأشكالها الجديدة وتبعث فتحرك وتعمل، وهي في كل أمورها وحركاتها وأشكالها ووظائفها تطيع وتخضع لسنن أرادها الخالق. فالبعث ليس أمراً يأباه العقل وإنما هو أمر تثبته المشاهدات التجريب العلمي.
    قد يقال إن الأرض لا تكفي مادتها ليبعث فيها كل البشر الذين عاشوا عليها في وقت واحد ما داموا سيخلدون، ولكن هذا اعتراض لا يعول عليه فقد يمثل كل فرد بجسم صغير لا يتحلل، فليس حجم الجسم أمراً هاماً، ولكن الأمر الجوهري هو الهوية والماهية. الماهية يمكن أن تتحقق بخلية واحدة، أي نفس واحدة (وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة * إن الله سميع بصير)(لقمان/28).
    ثم إن الكون مليء بكميات من المادة لا حصر لها، والمادة شيء قابل للخلق من غير المادة. قد يقال : إن الكون لابد أن يكون غير الكون الذي نعرفه وأن تكون الأرض غير الأرض التي نعرفها والسماء غير السماء ـ وكلها أمور يقبلها العقل الذي يعلم أن الخالق على كل شيء قدير.
    9.    رأينا في دراستنا أن كل كائن حي تحكم وجوده وعمله مجموعتان من العوامل إحداهما موائمة مشجعة، والأخرى مثبطة. استمرارية هذا الكائن وفعاليته تستلزمان توازنا بين مجموعتي العوامل لأن زيادة واحدة منها تعني طغيانه وإسرافه في التكاثر، وزيادة الأخرى تعني فناءه. هذا التوازن بين العوامل، المتضادة في تكاثرها هو أحد مفهومات الحق الذي به تبقى الكائنات.
    تكاثر كائن ما تكاثر مسرفاً لا يمر بغير نتائج مادامت الكائنات تتفاعل مع بعضها تعاوناً أو تحبيطاً، بأن إسراف نوع ما في التكاثر قاتل له قتلاً ذاتياً.
    تصور أن القطط تكاثرت بحيث قضت على فئران الأرض كلها ثم قضت على كل ما يمكنها أن تأكله، ألا يعني ذلك أنها تقضي على نفسها بالموت جوعاً إن لم يقتل بعضها بعضاً؟
    إن التوازن بين أعداد الكائنات أمر هام، وهو يستلزم توازناً بين أدوات العدوان وأدوات الوقاية، وبغير هذا التوازن ما بقيت الكائنات. هذا التوازن ـ أيضاً ـ هو أحد مفاهيم الحق الذي به تبقى الكائنات، والذي يمكن أن نفهم منه الإسراف والظلم والعدوان يحتم الهلاك والفناء، وأن ظن بعض الناس أنه سبيل بقائهم وسعادتهم.
    ما رأينا من بقاء الحياة على الأرض، ونشوء أنواعها، وترقي صورها احتاج إذن إلى الحق والتوازن.
    ولما كانت الأرض غير منفصلة ـ بما عليها من حياة وطاقة، وبما فيها من حركات ودوران ـ عن الشمس وطاقتها ومجموعتها، بل عن الكون ككل، وجب أن يكون المدبر للأرض وما عليها مدبراً أيضاً لكون كله، وأن تكون رقابته عليها أو عمله فيها شاملاً ودائماً. وهذا هو معنى وحدانية الخالق وربوبيته: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين )(هود/6).
    (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض، أإله مع الله !! قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين* قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله * وما يشعرون أيان يبعثون )(النمل/64ـ65). (أنظر أيضاً العنكبوت : 19ـ20، والروم: 11). (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها * وما ربك بغافل عما تعلمون)(النمل/93).
    ما أجدر الإنسان ـ بالتواضع، وبأن يعرف للخالق أفضاله وقدرته .
    إذا كان ثمة ما يزهو به الإنسان من جمال أو قوة أو علم أو قدرة، فإنها مؤقتة، كما إنها فضل من الله .. وإن في مقابلها لابد من شكر ومسئولية .
    (من صلصال من حمأ مسنون):
    في يوم لا أذكره بالضبط، من سنة 1982م، نشرت جريدة الأهرام (القاهرية) لأحد قرائها كلمة يعترض فيها على إمكانية خلق الإنسان من طين .
    قال القارئ : إنه يحمل شهادة عالية، وبدا من كلامه أنه على شيء من العلم بالكيمياء، إذ قال إن الطين هو سليكات الألمونيوم، وهو مادة لا تذوب في الماء، ومن ثم لا يمكن أن تدخل في تركيب جسم الإنسان. لمثل هذا القارئ الذي ركز على التركيب الكيميائي لحبيبات الطين ونسي أن لهذه الحبيبات سطوحاً تحمل كاتيونات، وأن بينها مسافات تحتوي هواء وتمسك بماء تذوب فيه مواد، أقدّم كلامي هذا.
    خلق الإنسان من طين لا يستلزم خلقه من كل الطين، وإنما يكفي أنه يخلق من أحد محتويات الطين أو من أحد مكوناته. يشبه ذلك قول أحدنا أنه يسكن في القاهرة أو أنه من القاهرة، بمعنى أنه يسكن في حي منها، بل في شارع، بل في منزل واحد.
    آيات القرآن يفسر بعضها بعضاً، ويفصل بضعها ما أجمله البعض الآخر.
    لهذا قالت الآية 12 من سورة المؤمنون: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)،أي من مواد تتسلل من الطين فهي محتواة فيه. التسلل هو الحركة الخفيفة، واللص المتسلل هو الذي يتحرك فلا يراه أحد. صيغة " فعالة " تدل على الشيء يفعل فيه فعل ما، فالسلالة ما يسل ويخرج في خفاء، والسلالة ما يسلت من شيء آخر ويفصل عنه (القاموس المحيط للفيروزابادي)،والخلاصة هي ما يستخلصه وينقي مما يختلط به الطين الذي تتكون حبيباته من سيلكات الألومونيوم فيه مسافات تكون 50% من حجمه، وتحتوي ما يمكن أن يحرك ويستخلص، وهو " السلالة " التي عرفنا بالوسائل العلمية أنها ماء ذابت فيه غازات وأيونات وجزيئات صغيرة من أصل عضوي وبعض الأملاح.
    ولأهمية المسافات البينية والمسام الموجودة في الطين وصف القرآن هذا الطين(صلصال كالفخار)،وذلك في الآية 14 من سورة الرحمن.
    من ذا الذي لا يعرف أن الإناء الفخاري يتسلل الماء من داخله إلى خارجه فيبخر ليبرد الإناء وما فيه؟!!!
    وإذا كان الماء محتوياً على ملح أو سكر مذاب ترسبت بعض بلوراته على السطح الخارجي بعد تسللها من داخله، وقيل حينئذ إن الإناء نضح بما فيه، وفي الأمثال " كل إناء بما فيه ينضح " . الصلصلة هي الرنينن وهي ترجيع الشيء للصوت إذا نقرت عليه أو قرعته كصلصلة الجرس. الفخار الجاف يصلصل لوجود الهواء في مسافاته البينيه، بينما لا تسمع صلصلة إذا نقرت على قطعة من الجرانيت الذي تكون سليكات الألمونيوم 60% منه، وذلك لتراكم حبيباته والتصاقلها بغير مسافات بينيه. كذلك لا تصلصل قطعة من حجر الإردواز، وهو صخر متحول من سليكات الألومنيوم الخالصة فقد مسافاته البينيه بالحرارة والضغط.
    ولكيلا يحدث لبس، مثل الذي حدث لقارئ جريدة الأهرام، قال الله تعالى (في الآية 26 من سورة الحجر):( ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)، أي من حمأ مسنون من الصلصال. وبمقارنة هذه الآية بآية 12 من سورة المؤمنون ندرك أن (الحمأ المسنون) مرادف أو بديل (السلالة من الطين). وأسلوب التعبير (.. من .. من ....)أسلوب شائع في اللغة العربية، ويقصد به التفسير والتفصيل، فيذكر المتكلم الشيء مجملاً أو كلياً ثم يتبعه التخصيص أو الجزئي، تقول مثلاً: أنا آت من القاهرة، من الروضة أي : من حي الروضة الذي هو جزء من القاهرة. هذا الأسلوب شائع وكثير الاستعمال في القرآن، من أمثلته ما يأتي :
    في الآية (172) من سورة الأعراف: (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم من ذريتهم.. )أي أخذ من بني آدم ذريتهم ـ أخذا من مكان خاص في ظهورهم[1]. وفي سورة الزخرف آية 33(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة)، أي لجعلنا لمن يكفر بالرحمن سقفاً من فضة هي لهم إجمالاً ولبيتهم تفصيلاً وتخصيصاً. (الحمأ) سائل يتحرك بين حبيبات التربة الصلصالية، ومنه يتسلل الماء وبعض وبعض ما ذاب فيه إلى جذور النباتات أولاً حيث يتكون منه غذاء وحب وفواكه وثمار يأخذها الإنسان لبناء جسمه ولتعطيه الطاقة.أو يأخذها الحيوان أولاً ليكون منها اللبن والعسل وما أحله الله من مأكل وشراب للإنسان الذي تصنع به مادة جسمه وتطلق منه طاقة وحرارة.
    من الواضح أن ذلك الأسلوب القرآني في التعليم والتعريف يضطر قارئ القرآن أن يتدبر المعاني ويعمل فكره ويتنقل بعقله في مخلوقات الله وكونه ليصل بنفسه إلى ما يهديه إلى الحق ـ لهذا تتساءل آية قرآنية : (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )(سورة محمد/24).
    طرائف لغوية:
    من الطرائف العجيبة أن أتعشم أن تحظى باهتمام وعناية بعض اللغويين ما لاحظته في دراستي هذه من تشابه واضح بين بعض الألفاظ العربية وبعض الألفاظ الأجنبية في المبنى والمعنى.
    أولاً: كلمة (السلالة)هي ما يتحرك في الخفاء والإذابة في الماء من أهم طرق الإخفاء. الإذابة في عدد من اللغات الأوربية يعبر عنها بكلمة " Solute" والشبه بين هذه الكلمة وكلمة (السلالة)واضح.
    ثانياً: (السلالة)هي ما يسلت كما يدل على نضج الملح والسكر على سطح الإناء الفخاري. الاسم الإنجليزي للمادة المذابة القابلة للنضج هو لفظ " Solute" والتشابه في النطق بين سلاته وسوليوت تشابه لافت للنظر.
    ثالثاً: المادة العضوية المتحللة التي تختلط بالتربة في كثير من اللغات الأوربية " Humus" ، والمتكلمون بهذه اللغات ينطقون (الحاء)العربية (هاء) تكتب وتنطق إذن : " همأ " أي " Humu" وإضافة حرف (S) في اللغة اللاتينية إلى آخر الكلمات تكاد تكون شيئاً ثابتاً، فنيكولا تكتب وتنطق (نيكولاس)، ويوليو تكتب وتنطق (يوليوس) . تفاعل اللغتين اللاتينية والعربية في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا في عصر النهضة (أو الإستنارة) أمر لا يمكن تجاهله، وهو العصر الذي بدأ الأوربيون فيه ينقلون علومهم عن العربية .
    التسلسل والسلالة :
    (التسلسل) هو التحرك في خفاء، والسلالة هي ما يحرك في الخفاء. والخفاء قد يتعلق بالشيء ذاته وقد يتعلق بالحركة، وقد يكون كلاهما خفياً.
    والشيء يكون خفياً حين يكون مفرط في الصغر أو مفرط في الشفافية أو في العتامة، أو مفرط في البعد، أو حين يتخفى وراء غيره أو في ثناياه.
    والحركة تكون خفية حينما تكون مفرطة في السرعة، أو مفرطة في البطء، أو حين تحدث وراء ستار، أو في الظلام ولا تكون مصحوبة بما ينم عنها كالجلبة وشدة التأثير.
    وحين يكون التخفي بسبب بطء الحركة وانخفاض الصوت والتأثر، فإنه يسمى " تلطفاً " والشيء يكون لطيفاً حين يكون خفياً لخفته أو لشفافيته أو حين يتلطف في حركته وتأثيره . وفي القرآن يقول أهل الكهف ناصحين رسولهم إلى المدينة .. " وليتلطف ولا يشعرن بكم أحد " فالرسل في عالم السياسة والتجارة أدنى إلى النجاح حين يتلطفون.
    إذا كان التلطف والتسلل فن يطلب إتقانه في عوالم السياسة والتجارة والعسكرية واللصوصية وفي مجتمعات المدينة، فإن عالم الطبيعة والفيزياء والكيمياء والأحياء مليء بالخفاء: خفاء الحركة وخفاء الأشياء، ولكل منها أصوله وقوانينه التي تحكمه، وعلى العالم أن يدرس ويبحث ليكشف أسرار الكون وخفاياه، ومن هنا كان العلم قوة جبارة في نفعها وضرها. فإذا كان صاحب العلم ممن أوتوا العلم والإيمان معا تيسر له أن يضفي على كل ما حوله خيراً وصلاحاً وسلاماً، أما إذا كان من الظالمين المشركين طغى وأوقد للحرب ناراً، وعاث في الأرض فساداً ودماراً.. ولكن أمره لن يخفى على من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو اللطيف الخبير.
    مداخل السلالة ومصائرها :
    جزء من السلالة التي في الطين ينتهي به الأمر لتصنع من لبنات يبنى منها جسم الإنسان وتمده كذلك بكثير من الطاقة والقوى . ولكن الأجزاء الأخرى تفيد الإنسان في أغراض أخرى إذ تمنحه المتعة والمنعة وتصلح بيئته والوسط الذي يعيش فيه. ولسنا نبالغ حين نقول إن المصير النهائي للسلالة هو الرجوع إلى مصادرها الطبيعة التي منها تكونت، أو الرجوع لتكوين سلالة طينية جديدة في مستقبل الزمان.
    هذا الذي يحدث للسلالة ومكوناتها من دوران يعني أن المصير والمبدأ دائماً واحد، وكأنها تعبر عما يعبر عنه كل شيء آخر في الكون يدور من شهادة بصدق القول الكريم: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)(طه/55).
    أو كأنها تشهد بأنه حق قول الله : (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون)(الروم/11).وأن الله (هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم)(الحديد/3).ولكن رحلة السلالة من الطين إلى حيث تكون جسم الإنسان، أو لتخدم أغراضه الأخرى وبيئته. أو لترجع إلى مصادرها الأصلية ولتكوين سلالة من جديد، ورحلة طويلة .. دعنا نسير معها خطوة خطوة.
    أهم مداخل السلالة جذور النباتات:
    لكل نبات تعود الناس أن يعتمدوا عليه لإطعام أنفسهم، وإطعام أنعامهم ودواجنهم ودوابهم جزءان رئيسيان هما : (أ) ـ جزء يمتد في الهواء فوق سطح التربة ونسميه (الجزع) أو الساق Stem، وهو يعطي فروعاً وأوراق وزهوراً وثمار. (ب) جزء يختبئ في باطن التربة، نسميه (الجذر Root) وهو يتفرع ممتداً إلى أبعاد شاسعة في جميع الاتجاهات داخل الأرض، ولهذا نسميه أحياناً(المجموع الجذري) أو الشبكة الجذرية.
    وللشبكة الجذرية وظيفتان رئيسيتان:
    الوظيفة الأولى:تثبيت الشجرة في الأرض، أي أنها الجهاز الذي يحتل به النبات من الأرض مستقراً يثبت به لمقاومة العوامل التي تحاول اقتلاعه واجتثاثه. ومن أهمها الرياح والعواصف والسيول، وهو ما يحدث بسهولة حين تصاب الشجرة بمرض يضعفها، أو حين يقتلعها بكاملها إنسان مفسد.
    الوظيفة الثانية:استلام السلالة من الطين. وذلك أن في المجموع الجذري أماكن خاصة أسمها(الشعيرات الجذرية) هي المدخل التي يتسلل خلالها الماء وكثير مما فيه من غازات وأيونات وأملاح معدنية وجزيئات عضوية بسيطة ليستعملها النبات في أغراض شتى.
    لعلنا لا نعجب بعد أن عرفنا هاتين الوظيفتين للمجموع الجذري لماذا سماه القرآن : " أصل الشجرة " في قوله تعالى : (ألم ترى كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء* تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها * ويضر الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون)(إبراهيم /24ـ 25).
    وفي الطب نسمي العلاج " جذرياً " حين نستأصل الجزء المريض كله ونزيل أسباب المرض. ولعل الأولى باسم " العلاج الجذري " لمشاكل الإنسان ذلك العلاج الذي ينصح به القرآن حين يقول: (.. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..)(الرعد/11)، ذلك أن ما بالنفس هو الأصل المختبئ الذي تنجم عنه المظاهر المشاهدة والسلوك والأفعال المؤثرة، فإن كان ما بالنفس طيباً نتج عنه بإذن الله كل خير، وإن كان خبيثاً نضح خبيثاً ثم هلك سريعاً.
    وللمجموع الجذري وظائف إضافية ليست عامة في كل النباتات. وإنما يميز كل منها مجموعة من النباتات . من هذه الوظائف الإضافية:
    الوظيفة الثالثة:إخراج الأشطاء. والأشطاء جذوع وليدة تخرج فوق سطح التربة إلى جوار جذع شجرة قديمة مشتركة معه في الجذر والأصل، وبذا تصبح أشجاراً من أصل واحد، قد يهلك الجذع القديم فيبقى الجديد حياً والأصل مستمراً. إخراج الأشطاء إذن يشكل أحد طرق التكاثر. وتتميز بها بعض النباتات كالنخيل والموز والبلوط وكثير من أنواع الأشجار غابات المناطق المتعدلة.ويتكلم القرآن عن أخراج الأشطاء ضارباً منه مثلاً للمسلمين في تآزرهم وتراحمهم وتوحدهم حول كلمة التقوى : (.. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآذره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار* وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً)(الفتح/29).
    الوظيفة الرابعة: تخزين الغذاء: في هذه الأنواع من النباتات تكون بعض أجزاء الشبكة الجذرية هي الأجزاء الرئيسية فيه التي تؤكل ويتخذ الناس منها طعامهم. من أمثلتها درنات البطاطس والبطاطا، ورؤوس البنجر واللفت والفجل والقلقاس.
    الوظيفة الخامسة : الربط بين حبيبات التربة، لتثبيتها ووقايتها من تأثير رياح يمكن أن تذروها أو ماء يمكن أن يجرفها، لعل مما يجب على الناس معرفته وقد كاد تكاثرهم وتزاحمهم غير متوازي يقضي على الأرض الزراعية أن أول خطوة في تعمير(تعمير الصحارى)قد تكون تثبيت الكثبان الرملية بنباتات ذات شبكات جذرية كبيرة لا تحتاج إلى ماء كثير. إن كثيراً من الأراضي الزراعية التي كانت خصبة فقدت خصوبتها أو إنتاجيتها بسبب الإسراف في الاستفادة منها إلى حد اقتلاع الجذور أو تركها لإعداد كبيرة من حيوانات الرعي تدكها أو بنيان مدة عليها أو قريباً منها، أو تجريفها، أو إهمال العناية بها ..!!
    الوظيفة السادسة: إثراء التربة بالمواد العضوية والكائنات الحية: بعض خلايا الجذور رقيقة تموت وتعوض بخلايا جديدة، وتجذب الخلايا المنفصلة والميتة كائنات كالبكتريا وبعض أنواع الفطر لتتغذى عليها وتسد الدين بتحويل المواد العضوية فيها إلى مواد ذائبة يعاد امتصاصها أو تسري بين حبيبات التربة فتحسن من خواصها ونسيجها، وتزداد خصوبتها بذلك.
    الوظيفة السابعة:الإفراز: خلايا الجذور القديمة تفرز على سطحها مواد كيتينية أو فلينية أو قلفية لتحمي الجذور من عوامل الاحتكاك ومن حيوانات وبكتريا التربة التي لا يرغب في غزوها. وتفرز الجذور في التربة مواد خاصة تحقق التوازن وتحمي التربة والبيئة ... فهي عمليات هادفة خيرة .
    مداخل أخرى للسلالة :
    ليس دخول السلالة خلال شعيرات الجذور أمراً لا استثناء فيه، ففي النباتات المائية تدخل السلالة من السوق أو الأوراق المغمورة في الماء. بعض النباتات الطفيلية تخرج من سوقها أجهزة ماصة تمتص السلالة من عصارة النباتات العائلة. تتعايش جذور بعض النباتات مع بعض أنواع البكتريا وخيوط الفطر التي تعتبر مداخل إضافية لبعض مكونات السلالة. هذه الاستثناءات قليلة ولكنها ذات معنى وفائدة، فكأنها تقول إنه لا شئ يعجز الخالق أو يلزمه، فهو على كل شيء قدير، وكل ما شاء يكون. وهو لا يريد إلا خيراً، وإن كان بعض الناس يعمى عن حكمته وخيره.
    وعن أثر الماء في إشعال جذوة الحياة والإنبات وفي محتويات التربة الهامدة يقول القرآن :(.. وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)(الحج/5) . ولعل الانتحال في النبات يقرب إلى عقولنا فهم بعض ميول الإنسان العسيرة الفهم. إن شيئاً ما في الإنسان يدفعه للنمو والترقي، بينما شئ آخر يثقله ويخلد به إلى الأرض أو يهوي به إلى الحضيض، وشيء ثالث في الإنسان حائر بينهما وعليه يختار الانحياز إلى أحد الدافعين، ولذا فهو دائماً في صراع بين النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء. دعنا نوضح الأمر فنقرر أن الإنسان في صراع دائم بين غاية تستهدفها الروح وفيها سعادتها، وغاية يستهدفها الجسد وفيها لذته، وإنها لحيرة كبيرة يعانيها الإنسان بين أتباع الحق وإتباع الهوى الذي يزينه الشيطان : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {176} سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ)(الأعراف: 175ـ177).
    الفرق بين الإنسان والنبات في هذا الأمر هو أن التوازن في النبات بين الساق المتسامي إلى النور والجذر الضارب في الأرض، قد حدث، فتحققت بينهما مصالحة وتعاون. من الممكن للإنسان أن يحقق تصالحاً بين حاجات الروح وضروريات الجسد دون أن يسمح لأحدهما أن يطغى على الآخر وعندئذ يفلح ويسعد. إن المحنة والشقاء يحدثان حين يختل التوازن بينهما ويكون من الطغيان أن يطلب الجسد أن يكون له السمو والخلود وأن تفتعل للمادة بعض صفات الروح.. يا ويل الإنسان من الإسراف والترف والاستكبار بغير الحق، ويا ويله من الجهل وعمى البصيرة..!!
    يقدم الساق والجذور للإنسان درساً آخر، وهو لو أن زمام الأمور كان في يد العوامل الفيزيائية أو الكيميائية وحدها لكان من الطبيعي أن يتضخم الساق وفرعه وأن يعجز الجذر عن النمو والتثبيت. ذلك أن الساق ينمو في الهواء، والهواء لطيف بطبعه لا يشكل أي مقاومة ضد الساق وحركاته، ولكن الجذور تتحرك ضد مقاومة واحتكاك شديدين، ولتتغلب عليهما لابد أن تتسلح بقوة شديدة وأن تعان باحتياطات لا يمكن ألا أن نصفها بالذكاء والعقل والحكمة والقدرة، وهي ليست من صفات الطبيعة الميتة أو الجماد ولا يمكن أن تكون نتاجاً للتخبط والعشوائية. يتجه الجذر الابتدائي في نموه نمواً عمودياً وكأنه يشير إلى مركز الأرض، فإذا وجد عائقاً قوياً انحرف عنه ليتحاشاه ثم عاد إلى الاتجاه العمودي من جديد.
    من الجذر الابتدائي تخرج فروع ثانوية تأخذ اتجاها مائلاً، أي نحو الجوانب والأسفل. ثم تخرج منه فروع ثالثة تأخذ اتجاهاً أفقياً، ومن هذه الفرع تخرج فروع تمتد في جميع الاتجاهات فتشق طريقها بين حبيبات التربة وتدخل في شقوق الصخور وفي أنفاق صنعتها الديدان والحشرات باحثة عن السلالة، وبذا تتكون شبكة طويلة عجيبة تنتشر في رقعة واسعة ليكون إمساكها بالأرض قوياً.
    يجب أن نعرف أن الماء الذي يدخل في تركيب المادة العضوية في النبات لا يجاوز عادة 1% من الماء الذي ينزل على التربة. أما الباقي (99%) فإنه يتبخر من التربة مباشرة أو بعد دخوله جسم النبات، ويكون معظمه قد تبخر عندئذ عبر ثغور في أوراق النباتات (وهو ما يسمى بالنتح)، أو يتسرب إلى أعماق الأرض مكوناً المياه الجوفية، أو رشاحات الصرف، أو تستعمله الكائنات الحيوية الدقيقة والصغيرة في التربة، وكذلك الجراثيم الهادمة للبكتريا والطحالب والفطريات، وكذلك البذور القديمة التي كانت في سبات مؤقت. لا غرو أن تشير آيات القرآن إلى كثير من هذه الوظائف، ولكن بطريقة يتعذر على غير العلماء إدارك أعماقها، فعلى قدر العلم يكون النور من الله فضلاً ورحمة، ونذكر من هذه الآيات:
    (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض...)(المؤمنون/8). (ألم ترى أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض..)(الزمر/21). (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء أهتزت وربت* إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير)(فصلت/39)، (.. وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا تؤمنون)(الأنبياء/30). (والله خلق كل دابة من ماء ..)(النور/45). (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء..)(الأنعام/99).(والله الذي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها..)(النحل/65). (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة..)(الحج/63). (ألم ترىأن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها..)(فاطر/27). (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون)(الواقعة/68ـ69). (... فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين)(الحجر/22). (الأرض بعد ذلك دحاها* أخرج منها ماءها ومرعاها)(النازعات /30ـ31).
    (وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون)(النحل/10). (..وأنزلنا من السماء ماء فأخرج به الثمرات رزقاً لكم.. )(البقرة/22،إبراهيم/32).
    من الإحصائيات الطريفة التي قام بحسابها بعض العلماء أن (5000)رطل من ماء المطر تكفي لإنبات كمية من الحشائش تكفي لتكوين (1) كيلوجرام من اللحم. وما نحب أن نؤكده للقارئ أن كلاً من ماء التبخر وماء النتح والماء المتسرب إلى جوف الأرض، يؤدي للإشجار والنباتات وظائف ذات أهمية تقارب أهمية تكوين المواد العضوية.
    مصائر السلالة في النبات:
    بعد تسلل السلالة من الطين إلى النبات عبر مداخلها في الشعيرات الجذرية، أو الجذور المستعادة، تتعدد مصائرها:
    1.    فجزء يحتفظ به النبات في خلاياه.
    2.    وجزء يدخل في تفاعلات كيميائية وتغيرات فيزيائية تسمى في مجموعها " عمليات الأيض، أو التمثيل الغذائي". ذلك أن أهم أهدافها هو أن تتحول إلى مواد تماثل المواد التي يتركب منها جسم النبات. فبرغم أن السلالة التي تمتصها الشجرة هي نفس السلالة التي يمتصها عشب القمح المجاور لها، إلا أنها في التفاح تتحول إلى أوراق وأزهار وثمار شجر التفاح، بينما هي في القمح تكون السنابل والبر والأعماد والقش الذي نعرفه لأعشاب القمح.
    3.    وجزء ثالث يتبخر إلى الهواء في عملية تسمى عملية النتح، وهي تبخير متحور.
    ومهما كان المصير النهائي للسلالة فإننا لا نبتعد كثيراً عن الحقيقة إذا قلنا إن عليها أن تذهب إلى الأوراق، فهي هدفها الأول أو الرئيسي، لأن الأوراق الخضراء هي الأعضاء التي يتم فيها النتح، والتي يتم فيها أول عمليات التمثيل الغذائي: وهي عملية التخليق الضوئي.
    الصعود إلى الأوراق والتبخر:
    إننا نقف أما عملية صعود السلالة إلى قمم الأشجار مشدوهين متعجبين، فإن بعض الأشجار ترتفع فوق سطح الأرض أكثر من مائة متر، بينما تمتد جذورها إلى أعماق الأرض لأكثر من عشرة أمتار أحياناً. أية قوة تلك التي تدفع السلالة المائية لأكثر من مائة متر ضد الجاذبية الأرضية وليس في الشجرة مضخة تشبه قلب الإنسان أو الحيوان، وليس بها عضلات تنقبض وتدفع، كما يحدث في الأمعاء والحالب والأوعية الدموية؟!
    المصائر والمصادر:
    تبعاً لمبدأ الدوران والدورات الكونية لابد أن تتلاقى وتتوحد المصادر والمصائر. على أن الدورة قد تكون محلية وقد تكون واسعة كونية، وقد تأخذ وقتاً وجيزاً وقد تحدث في ملايين السنين.بعض المعرفة عن هذه الدورانية قد يفيدنا في تحاشي أضرار حدوث نقص المعادن على خصوبة الأرض وعلى النبات والحيوان وفي علاجها إذا حدثت، ولا شك أن القيام بالوقاية والعلاج يعتبر من أهم الواجبات التي واثق الله عليها البشر إذ استخلفهم في الأرض وسودهم عليها ـ ذلك الميثاق الذي نزلت به الرسالات السماوية: (.. قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروا ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب)(هود/61).
    كلمة " استعمركم " تعني أنه طالبكم بعمارتها أو كلفكم أو ألزمكم بها. حين ندرس الرسالات السماوية ومنهجها نجدها في الحقيقة خير أسلوب وخير ضمان لإصلاح الأرض والبيئة وحياة الإنسان، أفراداً وجماعات. وسوف نرى والأدلة كثيرة على أن الخالق يمن على الإنسان بالأنعام والخير، وأن الإنسان هو الذي يفسد حياته بكسبه السيء، الأمر الذي يلزمه بالرجوع عن كسبه إلى الفطرة الأولى بعد تفهم كيفية انزلاقه إلى الأخطاء، وهو حقيقة الاستغفار. يقول القرآن:( ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم)(الأنفال/53).
    ويقول عن عبرة التاريخ : (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات * أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)(التوبة/70).
    يسهل إثبات مبدأ الدوران الكوني وتوضيح آثاره الخيرة في الغابات والمجتمعات الفطرية. فحينما تسقط أوراق الشجر وقلفها وثمارها وما مات من أجزائها على الأرض فإن الشجرة بذلك تكون قد أعادت إلى التربة كثيراً مما أخذته من عناصرها، بل إنها تكون في الحقيقة قد قامت بتقليب الأملاح في التربة إذ تأخذ الجذور من الأعماق وتعيدها الأجزاء المتساقطة إلى السطح لتكون في متناول الجذور القصيرة والنباتات الناشئة أو الضعيفة. وأوابد الحيوانات التي تعيش في الغابات تنتقل بين أرجائها تعيد إلى تربة الغابة كل ما أخذته النباتات من مائها وهوائها وأملاحها، بل وضوئها وطاقتها ونتاج عمل كل أحيائها. بل إن التربة أو البيئة تتحسن في الحقيقة، وسنرى أن هناك قوانين تحكم التوازن والعلاقات بين أحياء التربة، خفيها وظاهرهها، وقوانين تحكم نظاماً للتابع يرقى بالغابة فتنموا أفقياً ورأسياً.
    وبحكم هذه القوانين تحتفظ الغابة في تربتها أو في أحيائها بمعظم ما امتصته الأجيال المتعاقبة من أوراق من طاقة الشمس وما امتصته البكتريا من نيتروجين الجو، وما ثبته البرق من هذا النيتروجين، وما أنزلته السحب من ماء وتراب، وما أتت به الأنهار والسيول من ماء وصلصال وثروات معدنية، وبذا تصير الغابات مخازن هائلة للصلصال والأملاح والطاقة والمواد العضوية ونتاج عمل الحياة وكل كائناتها عبر أزمان طويلة. وحتى إذا احترقت بعض أجزاء الغابة أو فسدت بسبب كارثة ما فإنها لا تلبث حتى تصلح ذاتياً وإن طال الزمن.
    تبدأ المشاكل مع ظهور الإنسان وأنعامه، ولا تكون المشكلة بذات شأن طالما عاش الناس في مناطق الحشائش والمروج عيشة طبيعية : تعود بقاياهم وبقايا حيواناتهم كلها إلى الأرض فلا تكاد التربة تفقد شيئاً. في هذه الحالات يكون عدد السكان قليلاً وحياتهم بسيطة سوية ويكون الاستهلاك معتدلاً والإصلاح ذاتياً بل إن الترقي يحدث تلقائياً.
     في المجتمع الزراعي التجاري، الذي يقوم بتصدير محصولاته والذي يستهويه بعد ذلك الثراء والترف والإسراف، تفقد الأرض أملاحها وتفقد النباتات ما صنعته إذ يرسل بعيداً عن المنطقة. ويزداد الأمر سواء مع ما يقود إليه الإسراف والترف من البحث عن المال بإجهاد الأرض وتكليفها ما لا تطيق، وتصدر مع المحاصيل لحوم النعام وألبانها وأصوافها وعظامها، أي أملاح التربة وموادها العضوية.. يزرع المسرفون الأرض أكثر من مرة في العام وتروى صناعياً وبكثرة من المياه الجوفية أو الماء الآتي مع الأنهار من مصادر بعيدة، فيفلت الزراع بعد ذلك من حكم نظام المطر الذي يجبرهم على الاعتدال والتراوح بين الترف والشظف. وزيادة الري والمصارف تزيح كثيراً من أملاح التربة بعيداً عنها لتصل في النهاية إلى المحيطات والبحيرات البعيدة.
    تنشأ قريباً من هذه المجتمعات المدن بمصانعها ومتاجرها وتزاحم سكانها، ثم تزحف على الأرض الزراعية فتنتقص من مساحتها ويؤخذ طينها وصلصالها ليحول إلى طوب وأواني فخارية بإحراقه، ويقل عدد الذين يخدمون الأرض، وتقل الثروة الحيوانية التي تخدم الأرض كذلك، فتبدأ التربة في التدهور. وهنا يحتاج الزارعون إلى علوم الزراعة والعناية بالأرض وإلى التسميد ووقاية النبات ويحتاجون إلى حسن اختيار ما يزرعون وإلى تحديد الكميات. وسوف يجد المفكرون منهم أنهم يحتاجون ـ أكثر ما يحتاجون ـ إلى محاسبة أنفسهم خطأ في التقييم أو الحكم ـ أم هي أخطاء يسلم بعضها إلى بعض في دورة شريرة مفزعة.
    (.. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك * قال إني أعلم ما لا تعلمون )(البقرة/30)، (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين)(فصلت/10)، صدق الله العظيم
    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()