(2) بصمة الجينات :
وبينما لا تزال البشرية في حالة من الدهشة والانبهار مما آلت إليه نتائج تقنية تطويع الجينات.. فاجأنا العالم الإنجليزي "إليك جيفرس" باكتشافه بعض طلاسم الجينات ليعرفنا من أنا ومن أنت ومن هم الآخرون؟! وذلك بما نحمله من جينات، أو بمعنى أدق بصمة الجينات. فما هي بصمة الجينات؟ وما هي القضايا التي تستطيع حسمها، وعجزت الوسائل التقليدية للطب الشرعي أن تجد لها حلاً؟
الأساس الجزيئي :
الجينات التي تنقل الرسالة الوراثية من جيل لآخر، وتوجه نشاط كل خلية، هي عبارة عن جزيئات عملاقة تكوّن ما يشبه الخيوط الرفيعة المجدولة تسمى الحمض النووي الريبوزي المختزل DNA, وتحتوي هذه الرسالة الوراثية على كل الصفات الوراثية، بداية من لون العينين حتى أدق التركيبات الموجودة بالجسم. وتترتب الجينات في خلايا الإنسان على 23 زوجًا من الكروموسومات في نواة الخلية، والكورموسومات مركبة من الحمض النووي وبروتينات، وهذه البروتينات تلعب دورًا مهمًا في المحافظة على هيكل المادة الوراثية، وتنظم نشاط تعبير الجينات الذي يؤدي إلى تكشف وتكوين الفرد الكامل من خلية الزيجوت. وتوجد بعض الجينات في "الميتوكوندريا"، وتورث عن طريق الأم. وتكمن المعلومات الوراثية لأي خلية من تتابع الشفرة الوراثي (تتابع القواعد النيتروجينية الأربعة التي وهبها الله للحياة، وهي الأدينين (A) والجوانين (G) والسيتوزين (C) والثيامين (T)) التي تكون المادة الوراثية في صورة كلمات وجمل تقوم بتخزين المعلومات الوراثية في لوح محفوظ مسئول عن حياة الفرد.
حديثًا تمكن "إليك جيفرس" في جامعة لستر بالمملكة المتحدة من اكتشاف اختلافات في تتابع الشفرة الوراثية في منطقة "الأنترون Intron" متمثلة في الطول والموقع. وقد وجد أن هذه الاختلافات ينفرد بها كل شخص تمامًا مثل بصمة الإصبع، لذلك أطلق عليها بصمة الجينات، باستثناء نوع نادر من التوائم المتطابقة الناشئة عن انقسام بويضة مخصبة واحدة MZT. وبحساب نسبة التمييز بين الأشخاص باستخدام بصمة الجينات.. وجد أن هذه النسبة تصل إلى حوالي 1: 300 مليون؛ أي أن من بين 300 مليون شخص يوجد شخص واحد فقط يحمل نفس بصمة الجينات. وقد وجد أيضًا أن بصمة الجينات تورث طبقًا لقوانين مندل الوراثية.
المقصود ببصمة الجينات:
بصمة الجينات هي اختلافات في التركيب الوراثي لمنطقة "الإنترون"، وينفرد بها كل شخص تمامًا وتورث، أي أن الطفل يحصل على نصف هذه الاختلافات من الأم، وعلى النصف الآخر من الأب، ليكون مزيجًا وراثيًا جديدًا يجمع بين خصائص الوالدين، وخصائص مستودع وراثي متسع من قدامى الأسلاف. وقد وجد أيضًا أن بصمة الجينات تختلف باختلاف الأنماط الجغرافية للجينات في شعوب العالم. فعلى سبيل المثال.. يختلف الآسيويون (الجنس الأصفر أو المغولي) عن الأفارقة.
تعيين بصمة الجينات :
كل ما هو مطلوب لتعيين بصمة الجينات هو عينة صغيرة من الأنسجة التي يمكن استخلاص الحمض النووي الريبوزي المختزل DNA منها. فعلى سبيل المثال نحتاج :
• عينة من الدم في حالة إثبات بنوة.
• عينة من الحيوان المنوي في حالة اغتصاب
• قطعة جلد من تحت الأظافر أو شعيرات من الجسم بجذورها في حالة وفاة بعد مقاومة المعتدي.
• دم أو سائل منوي مجمد أو جاف موجود على مسرح الجريمة.
• عينة من اللعاب.
وحديثًا تمكن العالمان الأستراليان "رولند فان" و"ماكسويل جونز" في عام 1997 من عزل المادة الوراثية من الأشياء التي تم لمسها مثل المفاتيح والتليفون والأكواب بعد استخلاص المادة الوراثية، حيث يتم تقطيعها باستخدام إنزيمات التحديد Restrection enzymes, ثم تفصل باستخدام جهاز الفصل الكهربائي Electrophoresis ثم تنقل إلى غشاء نايلون، ثم باستخدام مسابر خاصة Probes يتم تعين بصمة الجينات على فيلم أشعة.
الصراع بين العلم والجريمة : (2)
تحت هذا العنوان كتب أ.د السيد سلامة السقا في أحد أعداد مجلة "منار الإسلام" الظبيانية يقول: ويستمر الصراع بين العلم والجريمة وينطلق العلماء بأجهزتهم إلى أعماق الإنسان فى محاولات للاستزادة مما فيه من أسرار ومجهولات لا تنتهي، فتكتشف بصمات الصوت المميزة لكل شخص عن غيره ... ويستمر الصراع ... وتأتى المفاجأة من داخل الخلية من عالم الصبغيات (الكروموسومات) من الحمض النووي القابع في غرفة العمليات المحكمة داخل نواة الخلية، تأتى المفاجأة من ترتيب مناطق الجينات داخل الحمض النووي، تلك الجينات القادمة من الأب ومن الأم معاً لتشترك فى بناء نووي جديد ذي تركيب مختلف عن أحماض الأب والأم فى ظاهره ولكن تتابع ترتيب جيناته يدل ويشير إلى أصلها من الأب ومن الأم معاً ... بل يؤكد انتماءها إلى أب بعينه وإلى أم بعينها دون غيرها من البشر ... فكان ذلك ما عرف باسم (البصمة الجينية) الذي اعتبره العلماء قفزة علمية كبيرة لما لها من أهمية فى عالم الطب الشرعي وعالم الحياة بشكل عام ...
تلك البصمة الجينية التي لا يمكن محوها ولا يمكن رؤيتها إلا بعد استخدام وسائل غاية فى التعقيد، وهى بصمة تعكس بشكل ما شخصية صاحبها وتحدده، وتميزه عن سائر البشر إلى يوم القيامة.
وعند مقارنة ترتيب المناطق المذكورة بسلاسل الحمض النووي المأخوذ من الأب ومن الأم فإنه يمكن ببساطة تحديد المناطق القادمة من الأب والمناطق القادمة من الأم، وبالتالي يمكن الجزم بأن الحمض النووي للأب والحمض النووي للأم رغم الاختلاف البين بين تسلسل المناطق المصبوغة على سلاسل الأحماض الثلاثة (الأب والأم والابن) ...
إنها بصمة الأب وبصمة الأم داخل بصمة الابن تختلف داخل الرحم بأمر الخالق عز وجل "ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ" (آل عمران 34)
بصمة تلازم الإنسان طوال حياته ولا يمكن محوها أو التخلص منها بحال من الأحوال ... وبها يبعث من جديد بإذن الله، يوم ينفخ في الصور فيعود كل إنسان كما كان لم يتغير منه شئ بإذن الواحد القهار.
إن هذا الإنجاز الرائع في عالم الأحياء سيكون له شأن كبير بإذن الله فى نواحي كثيرة من العلم والبعث فى سبيل الوصول إلى معرفة المزيد من مظاهر الحياة الإنسانية ... فمثلاً سوف تستقر مشكلة تحديد الأبوة والبنوة وتتم بدقة لا يدخلها أي شك، وسوف يتأكد كل من حصل على ابن عن طريق التلقيح الصناعي (أطفال الأنابيب) إن كان المولود ابنه وابن زوجته دون شك أو خطأ، وقد يختفي مرتكب إحدى الجرائم تاركاً بعض قطرات من دمه أو بعضاً من خلايا جلده أو أنسجته عالقة بأظافر المجني عليه أو مسرح الجريمة، أو يعتدي السفاح على إحدى ضحاياه تاركاً حيواناته المنوية فكلها خلايا تحمل هويته وصورته الشخصية التي لا يستطيع تزويرها وتوقيعه في آلاف البطاقات الدالة عليه، فكل خليه نسخة مستقلة وصورة مكررة من صورة الشخصية ولا مجال للإنكار .... هنا تشهد الجلود والدماء والخلايا على المجرم. شهادة حق من شهود عدول...
إن دراسة (البصمات الجينية) قد فتحت مجالات عديدة للبحث مازال معظمها فى أول الطريق فهناك علاقتها بالأمراض الموروثة والمكتسبة، وعلاقاتها بالمناعة وقدرة الجسم على مقاومة مختلف التحديات، وهناك علاقتها بشخصية الإنسان وقدراته العقلية والجسدية واستعداداته النفسية وغير ذلك مما يصعب حصره.
وكلما بدأ البحث فى مجال بدت للباحثين مجالات أخرى كثيرة وآيات من آيات الله لم تكن تخطر لهم على بال مصداقاً لقوله تعالى :
"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (فصلت 53)
وتدبر معي قول الحق تبارك وبالتالي :
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُم ْعَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (سورة الأعراف 172، 173)
وإنها حجة على العباد وشهادة مطبوعة داخل خلاياهم ومبرمجة عليها ذرات أجسامهم، فكيف ينكرونها وهى تنتقل من فرد إلى من يخلفه وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، لذلك كان السؤال الاستنكاري "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ" (سورة البقرة 28)
فهذا هو الإيمان مطبوع داخلكم مطبوع فى خلقكم وفى حقيقة لا يعلم كيفيتها إلا الله سبحانه وتعالى: " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (سورة الملك 14)
وقد أكدت أوراق المؤتمر الذي عقدته المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بعنوان :"مدى حجية البصمة الوراثية في إثبات البنوة"، والذي شارك فيه عدد من أبرز العلماء والأطباء المتخصصين فى هذا المجال أن كل إنسان ينفرد بنمط خاص في ترتيب جيناته ضمن كل خلية من خلايا جسده، ولا يشاركه فيها أي إنسان آخر فى العالم، وهو ما يعرف بـ "البصمة الوراثية" وأكد أحد الباحثين أن هذه البصمة تتضمن البنية التفصيلية التي تدل على كل شخص بعينه، ولا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية، فضلاً عن تعرف الشخصية وإثباتها.
وقد جاءت البصمة الوراثية بالمشاهدة الحقيقية للصفات الوراثية القطعية دونما كشف للعورة، أو مشاهدة لعملية الجماع بين الزوجين ودونما تشكك في ذمم الشهود أو المقربين أو القيافة ؛ لأن الأمر يرجع إلى كشف آلى مطبوع مسجل عليه صورة واقعية حقيقية للصفات الوراثية للإنسان، والتي تتطابق في نصفها مع الأم الحقيقية ونصفها الآخر مع الأب الطبيعي، فهل بعد ذلك يجوز أن نلتجئ لأدلة الظن ونترك دليل القطع ؟
إن وسائل إثبات النسب ليست أموراً تعبدية حتى نتحرج من إهمالها بعد ظهور نعمة الله تعالى بالبصمة الوراثية، ولن نهملها في الحقيقية ؛ لأنها حيلة المقل، فإذا لم تتيسر الإمكانات لتعميم البصمة الوراثية فليس أمامنا بد من الاستمرار فى تلك الوسائل الشرعية المعروفة.
إن اعتماد "البصمة الوراثية " دليلاً قطعياً للفراش الحقيقي ينشئ دعوى جديدة يمكن أن نطلق عليها "دعوى تصحيح النسب" لم يكن لها من قبل ذيوع، وإن كان أصلها فى الكتاب والسنة.
يقول الله تعالى " وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ" (سورة الأحزاب : 4-5).
وهكذا أوجدت لنا "البصمة الوراثية" نوعاً جديداً من الدعاوى، وفتحت باباً جديداً للتنازع يجب أن نسلم بواقعه وهو ضريبة التقدم التقني والتفوق الطبي.
وإذا كان الفقهاء قد نصوا على استحباب اتخاذ السجلات لقيد الحقوق والأحكام، ونص بعضهم على وجوب ذلك إذا تعلق بحق ناقص الأهلية أو عديمها فمن الضروري استصدار قرار إدارى يمنع استخراج شهادة بقيد ميلاد طفل إلا بعد إجراء "البصمة الوراثية" لترفق وتلصق بتلك الشهادة، على أن تكون بصمة الطفل مطابقة لبصمة الأبوين اللذين ثبتت علاقتهما الشرعية فى وثيقة الزواج.
وهذا الأمر يستوجب باليقين أن تسجل البصمة الوراثية لكل من الزوجين بمجرد العقد وقبل الدخول، وتقرن تلك البصمة الخاصة بالزوجين معاً بقسيمة الزواج الرسمية، حتى إذا ما رزقهما الله بمولود توجها لتسجيل اسمه مع بصمته الوراثية التي يجب أن تتطابق مع بصمة والديه الثابتة على قسيمة الزواج.
إن في مثل هذا القرار مسايرة للعصر وأخذاً بالحقائق العلمية وله نتائج اجتماعية عظيمة ؛ حيث سيضيق الخناق على المنحرفين والمزورين دونما طفرة أو هزة.
إن هذا هو أقل حق يمنح لطفل القرن الحادي والعشرين الميلادي الخامس عشر الهجري الذي ولد في ظل الثورة المعلوماتية.
إننا نخدع أنفسنا في أحيان كثيرة، كالحمل في حال غياب الزوج وسفره للعمل بالخارج أو في حال مرضه الجنسي والنساء اللاتي عرفن بسوء السلوك والانحراف الأخلاقي مستغلين ضعف الأزواج وغفلتهم، والنساء اللاتي تسرقن المواليد لعقمهن من أجل بقاء رباط الزوجية ...
إن من حق الطفل أن يدفع عنه العار بانتمائه إلى والدين حقيقيين، كما أن من حقه أن ينتفع بتقنية عصره، كما أن من حق الزوج ألا ينسب إليه إلا من كان من صلبه.
ومن الضروري أيضاً استصدار قرار مثيل للأطفال اللقطاء ومجهولى النسب للبحث عن والديهم أو لمعرفة أمهاتهم على الأقل إن كانوا أبناء خطيئة، وذلك لانتسابهم إليها شرعاً، وما يتعلق بذلك من أحكام شرعية كالميراث وبيان المحرمات والأرحام ..، وبذلك تنعدم أو تقل ظاهرة انتشار دور الأيتام من اللقطاء الذين يشبون حاقدين كارهين للمجتمع، إن تنسيبهم للأم الحقيقية سيخفف بالتأكيد من حدة تلك الكراهية، بدلاً من فكرة الأم البديلة، وحتى تشارك الأم المخطئة في الإصلاح كما شاركت في الفاحشة، قال تعالى " وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ". (سورة هود : الآية 114).