الحمد لله رب العالمين، والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
لا شك أنّ كل أب يتمنى لابنه النجاح في دراسته، فهو دائماً يدعو الله بتوفيقه وتسديده وتثبيته، يَعِده ويُمنّيه إن نجح في الامتحان، ويتوعّده ويهدده إن رسب، وهذا إحساس من الأحاسيس التي فُطر عليها البشر، لكن أيها الأب الحنون وقد اهتممت بابنك هذا الاهتمام بدراسته ومستقبله وأمور دنياه وأحسست إنك عنه مسؤول، فهلاّ كان الاهتمام بآخرته كالاهتمام بدنياه. هلاّ كان الاهتمام به بعد موته كالاهتمام براحته وسعادته في حياته، مسؤوليتك أيها الأب أحاطت بعلوم الدنيا الفانية وأهملت الأخرى الباقية، وشُغلت به في حياته وأهملته بعد مماته، بنيت له بين الطين والاسمنت في دنياه وحرمته بيت اللؤلؤ والياقوت والمرجان في الآخرة.
طموحك، أملك، غاية مُناك أن يكون طبيباً أو مهندساً، أو طياراً أو عسكرياُ، ويا الله كل الأماني دنيوية..! السعي والجد للدنيا الفانية مع إهمال الأخرى الباقية، وهذه ليست حالة نادرة، بل إن قسماً كبيراً من الناس على ذلك، تأهبوا واستعدوا وعملوا على تربية أبناءهم أجساداً وأهملوا تربية القلوب التي بها يحيون ويسعدون، أو بها يشقون ويهلكون وهذا هو الواقع، والأدلة على ما نقول خذها أيها الأب الحنون.... هب أن ابنك تأخر عن وقت الامتحان ماذا ستكون حالتك؟ وما هو شعورك؟ ألا تسابق الزمن ليلحق الامتحان؟ ألا تنام بعدها بنصف عين لئلا يفوته الامتحان؟ !
كأن الجواب يقول بلى...! فهل كان شعورك حين نام عن صلاة الفجر كشعورك حين نام عن امتحانه؟ ألا تسأله كل يوم عن امتحانه ماذا عمل، وبماذا أجاب؟ وعسى أن يكون الجواب صحيحاً. فهل سألته عن أمور دينه يوماً ما؟ هل سألته صلّى أم لا؟ هل سألته من يُجالس ومن يُماشي؟ هل سألته أين يكون عندما يتغيب عن البيت؟ ألا يضيق صدرك ويعلو همّك حين تعلم أن ابنك قصّر في الإجابة في الامتحان؟ فهل ضاق صدرك حين قصّر في سُنن دينه وواجباته؟ ألا تعطيه ما يريد؟ ألا تمنعه الملاهي التي رحّبت بها في بيتك، من فيديو وتلفاز وصحف ومجلات، لئلا تشغله عن المذاكرة والاستعداد للامتحان؟
فما عساك فاعل أيها الأب الحنون في امتحان ليس له دور ثانٍ ولا إعادة ولا حمل للمواد؟ فقط نجاح أو رسوب، والرسوب معناه الإقامة في النار - والعياذ بالله - معناه الخسران المبين والعذاب المهين، ماذا تُغني عنه شهاداته ومركزه وماله إذا أوتي كتابه بشماله، ثم صاح بأعلى صوته: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ [الحاقة:25-29]. ما أغنى عنّي مركزي، ما أغنى عنّي سلطاني، ما أغنى عنّي علمي الدنيوي وشهادتي، كل ذلك هلك واندثر. خسارة ورسوب، وأي خسارة؟ وأي رسوب يكون في الدنيا طبيباً، أو مهندساً؟ أو طياراً أو مدرساً؟ أما الآخرة فشقي أم سعيد. فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير...، لا نقول اهملوا أبناءكم، ولا نقول دعوهم، لا والله. بل نقول إن الآخرة أجدر بالسعي، وأحق بالعمل.
أيها الأب:
من أب حرص على إحضاره مُرب لابنه يُعلمه القرآن ويدارسه السنة؟ قليل من فعل ذلك. وليت الذي لم يفعل ذلك جنَّب ابنه عوامل الفساد والافساد، حشفاً وسوء كيل؛ جلب لابنه سائقاً وخادماً وسيارة، وهيأ له بيتاً ملأه بكل المحرمات والملهيات عن ذكر الله وطاعته...! من أب اعطى ابنه جائزة يوم حفظ جزءاً من القرآن الكريم؟ أو تعلم حديثاً للمصطفى عليه الصلاة والسلام؟ قليل من فعل ذلك. ونسأل الله أن يبارك في القليل.
البعض من الناس يعد ابنه إن نجح في الامتحان بقضاء أمتع الأوقات على الشواطئ في أي البلاد أو بشراء سيارة له يجوب بها الطرقات، وما وعده ابنه مرة إن نجح بأداء العمرة أو زيارة مسجد رسول الله .
فماذا كانت النتيجة بعد كل هذا الإهمال في التربية؟ النتيجة أن حل محل المصحف مجلة، ومحل السواك سيجارة، والنتيجة أن نشأ فينشأ كالأنعام: أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
إن ابناً بنيناه جسداً حريٌّ بنا أن نُربي عقله وقلبه ونهتم بحياته بعد موته.
وأول خطوة إلى ذلك: أن نصلح أنفسنا في صلاحنا، وبصلاحنا تكون استقامتهم ورعية الله لهم، قال تعالى وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82].
وثانيهما: أن نجعل التربية الإسلامية غاية وهدفاً، فلا مانع من تعلم العلوم الدنيوية، ولكن ليس على حساب الاهتمام بالآخرة قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77].
فيا أيها الأب:
اتق الله في رعيتك فأنت مسؤول عنهم أمام الله، اتق الله أن يستأمنك الله عليهم فتشرّع لهم أبواب الفتن من أفلام ومسلسلات وأجهزة خبيثة، ومجلات فاتنة ساقطة، إنك بذلك تخون الأمانة وتغش الرعية. قال : { ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرّم الله عليه الجنة }.
أيها الأب الحنون:
أدعوك إلى التأمل في وصية لقمان لابنه الذي يحبه ويفتديه بالغالي والنفيس. هل أوصاه بدنياه؟ هل أوصاه بزخرف؟ لا، بل دعاه إلى ما يحييه حياة طيبة وينجيه من العذاب الأليم، نهاه أن يشرك بالله إنّ الشَركَ لظلمٌ عَظِيم [لقمان:13]. ودله على ما ينجيه من الله.
ألا وهو: الهرب منه إليه تبارك وتعالى بإقامة الصلاة، وبالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ثم يدله على مكارم الأخلاق التي تَسموا به نفسه ويعلو بها مركزه، فلا تكبر على الخلق ولا ذلة، مع قصد في المشي، وخفض في الصوت: إنّ أنكَر الأصّوَِات لَصَوتَ الحمِير [لقمان:19].
تلك يا عبدالله جملة وصية الأب الحنون، فهل عملت بهذه الوصية مع ابنك؟ هل أوصيته ببعضها، أو بها جميعها؟
إن ديدن بعض الآباء مع الأسف الشديد هو تثبيط همم أبناءهم وتكسير مجاديبهم إذا ما هدى الله ابن بعضهم ذعروا وهبوا، ووصفوه بالوسواس، ووسموه بالعقد النفسية وسخروا منه واستهزأوا به، ولا أحد يدري أيسخرون من شخصه أم من دينه الذي يحمله ويمثله. أهذه هي الأمانة أيها الأب؟ أهذه هي النصيحة لرعيتك؟ اتق الله فيهم، راقب الله في تربيتهم، علمّهم ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، ولا تكتف القرار: ومَا هذهِ الحَيَاةُ الدُنيَا إلا لَهوّ ولَعِب وإنّ الدّارَ الآخِرةَ لَهِي الحَيوَانُ لو كَانُوا يَعلمُونَ [العنكبوت:64].
أيها الأب:
وأنتم تُعدّون أبناءكم لامتحانات الدنيا اتقوا الله فيهم واعلموا أنتم، وعلّموهم أن سلعة الله أغلى وأعلى من زخارف الدنيا، وعلموهم أن النجاح الحقيقي هو قصر النفس على ما يرضي الله، علموهم واعلموا أنتم أن السعادة الحقيقية في تقوى الله وطاعته، ثم اعلموا أنتم أيضاً أنه لن ينصرف أحد من الموقف يوم القيامة وله عند أحد مظلمة، يفرح الأبناء أن يجدوا عند أبيهم مظلمة، تفرح الزوجة أن تجد عند زوجها مظلمة، يأتي الأبناء يوم القيامة يُحاجّون آباءهم بين يدي الله قائلين: يا ربنا خذ حقنا من هذا الأب الظالم الذي ضيعنا عن العمل لما يرضيك، وربّانا كالبهائم وأوردنا المهالك، والذي ما من مفسدة إلا وجعلها بين أيدينا وما من مهلكة إلا وأدخلها علينا، فماذا سيكون الجواب حينئذ أيها الأب الحنون؟
فيا أيها الآباء:
اتقوا الله في أبناءكم، واحسنوا تربيتهم وحفظوهم من الفساد والضياع ما دام الأمر في أيديكم وما دمتم في زمن المهلة قبل أن تندموا وتلوموا أنفسكم في وقت لا ينفع فيه الندم واللوم.