لا تخلو الحياة من منغّصات ومكدّرات من الأفراد أو الجماعات أو حتى أحياناً من النظم واللوائح، ولو تعامل المرء معها على سبيل الأنا والندية لاشك أنّه سيعيش حالة من الصراع النفسي والعصبي معظم وقته ولانشغل بما لا يحقق له استقراراً أو ارتقاءً، فهل معنى هذا أن يعيش سلبياً غير مبالٍ بما وبمن حوله؟!.
إذا تحدثنا عن حياتنا بشكل عام فهي تقوم في غالبها على المعاملات مع الآخرين سواء كانت في حياتنا الخاصة فتكون العلاقات مع الوالدين أو الزوج أو الأبناء والأقارب والجيران، أو في محيط العمل مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين والمراجعين أو الطلاب والأولياء عند العاملين في مجال التدريس مثلاً، أو مع العامة في مجال التجارة والشراء والبيع وقضاء حاجيات الفرد وكلها لا تخلو من أصل ما ذكر آنفاً من مكدّرات أو منغّصات، فكيف أكسب الجميع وأعيش هادئ النفس مرتاح البال قرير العين سعيد القلب؟.. إنه (التسامح) ولكن مع من التسامح هل مع من أساء إلينا بشدة دون ذنب ارتكبناه؟! أم التسامح مع الآخر المختلف عنا في بعض أو كل شيء؟! أم التسامح مع النفس وعدم تحميلها مالا تحتمل؟!
ولماذا لا يكون التسامح مع كل هؤلاء وغيرهم؟!
هل تذكرون قصة الصحابي الجليل الذي بشّره النبي [ بالجنة ورافقه ابن عمر ] لينظر ماذا يفعل فلم يجده يزيد عما يعمل الآخرون ولما سأله أخبره أنه لا يبيت وفي قلبه غِلٌّ لأحد» ما أجملها من صفة أن يكون القلب صافياً تجاه كل الناس من أساء ومن لم يسئْ.
لو نظرنا إلى قوله تعالى: {لو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك}، أو قوله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين» ووصيّة النبي [ للسائل عندما قال أوصني: «قال: لا تغضب».
فالتسامح يعني كظم الغيظ، كما يعني العفو وكذلك الحلم والأناة والصبر والوّد فكل الخصال الحميدة تجدها مجسّمة في «التسامح.
التسامح هو تنازل عن حقّ ولا يسلبك حقّك، وهو تناسي السّيّئات وتذكّر الحسنات كما أنه يأتي من العقل والقلب معاً..
والتسامح جزء من جهاد النفس الميّالة إلى إيثار قولها ورأيها وفعلها والمجبولة على التعصب لأفكارها، وجهاد النفس أعلى مراتب الجهاد، وأيضاً أعلى مراتب التحضر والتمدن.
والتسامح صفة لها حجم معين ومساحة معينة فلا إفراط فيها حتى تصل إلى حد «التسالخ» أمام الآخر، ولا تفريط فيها حتى تصل إلى «التشامخ» على الآخر.
التسامح صفة قوة بقدرتها على التنازل عند المقدرة، وليست صفة ضعف..
والبعد الآخر في التسامح في علاقات النسب والزواج إذ نجد في سورة البقرة أدباً عالياً رفيعاً في التعامل مع قضايا الطلاق وفسخ العقد قبل الدخول بتسامح وفضل وتعفف عجيب عن المال {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم}.
لقد فرض الله تعالى التسامح مع الزوجة حتى إن كرهها الزوج، فأي تسامح وسماحة أكبر من حسن المعاشرة بالمعروف مع من قرر القرآن أن الرجل قد يكرهها؟! لكنه عليه آنذاك أن يقرأ قوله تعالى {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم}، وقوله تعالى فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}.
التسامح ليس مبدأ إسلامياً فحسب، إنما هو أداة للإدارة الاجتماعية وخلق يدخل في السلوك اليومي للفرد في بيته ومتجره وفي الطريق (وفي كل دائرة يدور فيها)، فقد عذّر رسول الله [ بالجهل من بال في المسجد، وتحمّل غلظة الأعراب وسوء أقوالهم وأعرض عمن وقع في الكبيرة أملاً في توبته وستراً للمحرمات، وقد كان [ أروع الخلق وأحرصهم على حدود الله، لكنه أراد ألا تتعلم الأمة التعالي بالطاعة بل تتراحم وترحم العاصي حين تورّثه المعصية ذلاً وانكساراً، فيسأل العبد ربه العافية ولا يستكبر بالطاعة، ويخفض جناحه رحمة بالخلق وجبراً للضعف كما كان رسولنا قدوة للأمة يفعل مع أصحابه، بل رحمةً وتسامحاً حتى مع أعدائه وهل هناك تسامح أعلى من السؤال عن الجار المؤذي حين غاب أذاه؟!
فالرحمة والعفو والعدل هي الألفاظ القرآنية التي تعبّر عما يسميه الغرب «التسامح» وأشرفُ من تسامح وتسامى محمد وكان سبيله الرحمة ومنهجه العفو ومقصده العدل، وهذه قيم الشهادة التي تجعل الإسلام منهج حياة.
|