إشكالية العلاقة بين الآباء والأبناء:
من خلال الجلسات النفسية الفردية وجلسات العلاج النفسي الجمعي ينكشف الستار عن اضطراب العلاقة بين الأبناء والآباء, ويكون هذا الاضطراب من أهم العوامل المهيئة والمرسبة للاضطرابات النفسية لدى الطرفين. وفي أغلب الحالات تضطرب هذه العلاقة دون قصد فالوالدان بدافع فطري يريدان السعادة والنجاح لأبنائهما ولكنهما أحيانًا يفقدان الطريق الصحيح عن غير قصد فيتورطان في الإفراط أو التفريط وتكون النتيجة في الحالتين اضطرابًا نفسيًا في الطفل الذي أحباه ودفعا حياتهما ثمنًا ليكون سعيدًا. ومما يزيد الأمر صعوبة في بيئتنا الشرقية أن اضطراب العلاقة بين الآباء والأبناء يظل تحت غطاء ساتر طوال الوقت ولا ينكشف إلا في ظروف شديدة الخصوصية كالعلاج النفسي الفردي أو الجمعي أو العائلي, أما في غير هذه الظروف فإن الأبناء -غالبًا- لا يجرؤن على الاقتراب من هذه المنطقة الحساسة وهم في حالة الوعي العادي, أما الآباء فإن لديهم اعتقادا بأنهم قدموا أفضل ما عندهم لأطفالهم ولكن تمرد الأطفال وعصيانهم للأوامر هو الذي جعلهم في حالة اضطراب.
مفهوم الصحة النفسية:
تراكمت في السنوات الأخيرة معلومات مفيدة حول أفضل الوسائل للوصول إلى الصحة النفسية للطفل وعلاج الاضطرابات النفسية لديه, وقد حاولنا -بعون من الله- أن ننتقي من المعلومات المتوافرة ما يتمشى مع ثقافتنا ويساعدنا في تربية أبنائنا وبناتنا بشكل صحيح. ولا يعتقد أحد أن عملية التربية عملية سهلة, وإنما هي دائمًا تحتاج إلى جهد وتواجه مشكلات وصعوبات, ونحن هنا نحاول أن يكون الجهد المبذول على الطريق الصحيح.
وسنحرص على ألا ندخل في عرض نظريات تربوية ترهق القارئ وربما لا تعنيه كثيرًا وإنما سنتكلم بشكل عملي من خلال الرسائل التي تصلنا كل يوم أثناء الجلسات النفسية العميقة سواء كانت فردية أو جماعية مع الأطفال والكبار. وفي هذا الصدد نواجه سؤالاً بالغ الأهمية، ما هي الصحة النفسية؟ وكيف يصبح الإنسان صحيحًا نفسيًا؟
قد تكون الإجابة ببساطة هي أن الإنسان الخالي من الأمراض النفسية هو الإنسان الصحيح نفسيًا، لكن هذا التعريف للصحة النفسية مختزل جدًا، ولا يؤدي الغرض، لأن هناك بعض الأشخاص لا يعانون من أي مرض نفسي لكن أداؤهم في الحياة أقل مما هو متوقع لأمثالهم، فحركتهم في الحياة وتكيفهم الاجتماعي وإبداعاتهم أقل مما هو متوقع، فلا نستطيع أن نقول عن شخص ما أنه صحيح نفسيًا لمجرد كونه خالي من الأمراض النفسية بالمعنى الإكلينيكي لها، إذًا فهنالك تعريف أكبر وأشمل وأوسع للصحة النفسية.
واختصارًا لجهود كثيرة، وصل العلماء إلى أن الصحة النفسية هي مفهوم إيجابي متعدد المستويات يكون فيه الإنسان صحيحًا على المستوى الجسدي ثم على المستوى النفسي ثم على المستوى الاجتماعي، ثم على المستوى الروحي، إذًا فهو مفهوم متعدد المستويات لابد أن يكون في حالة توازن ما بين إشباع هذه المستويات وتنشيطها، فلو بالغ أحدهم في إشباع الجانب الجسماني على حساب الجانب النفسي أو على حساب الجانب الروحي، فبالتالي يكون قد أخل بالتوازن، ويصبح غير صحيح نفسيًا.
قواعد الصحة النفسية للطفل:
وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص وحاولنا الإجابة على تساؤل أحد الأمهات (أو الآباء): كيف أتعامل مع ابني لكي يصبح صحيحًا نفسيًا؟
والإجابة على هذا التساؤل الهام تتمثل في اتباع القواعد التالية:
1- التوازن بين التطور والتكيف:
هناك قاعدة تربوية هامة يمكننا اعتبارها قاعدة ذهبية في هذا المجال، وهي أن الطفل كائن نامي، ينمو كل يوم، ينمو في جسده وفي تفكيره وفي طاقاته وفي إدراكه وفي كل شيء، فهذا الطفل النامي يتغير من لحظة لأخرى ومن يوم لآخر، وفي ذات الوقت يحتاج مع هذا التغيير المستمر وهذا النمو المطرد أن يكون في حالة تكيف وانضباط وسلام مع البيئة والمجتمع المحيط به، وبهذا سنقول أن هذا الطفل لكي يكون صحيحًا نفسيًا ونطمئن عليه، فلابد أن يكون هناك توازن بين متطلبات نموه وتطوره ومتطلبات تكيفه مع المجتمع والحياة.
ولكي نرى هذا المفهوم بشكل أوضح، سنفترض أن هناك كفتين، الأولى كفة التطور والثانية كفة التكيف، ولكي يكون الطفل صحيحًا نفسيًا، لابد من حدوث توازن ما بين هاتين الكفتين، فلو تخيلنا أن كفة التطور زائدة عن كفة التكيف أو أصبحت هي الحائزة على الاهتمام فسيتطور الطفل وينمو بسرعة في جسمه وفي ذكائه وفي تفكيره وفي كل شيء يخصه، ولكن–وبالمقابل– ليست له علاقة بالمجتمع الذي يعيش فيه ولا يتكيف معه، فهو في حالة تطور مطلق بدون قيود، وإذا ترك بهذا الشكل سيصبح أنانيًا ولديه حالة نرجسية شديدة ولا يفكر إلا في نفسه ونموه وتطوره، وفي النهاية سيكون مدمرًا لمن حوله ولنفسه أيضاً وفي حالة صراع دائم مع البيئة التي يعيش فيها، برغم كونه متطورًا وناميًا ومبدعًا .
وعلى العكس، إذا كان هناك طفل آخر متكيف بدون تطور، بمعنى أنه مطيع جداً، هادئ جداً، ولا يفعل شيء إلا بأمر من الأب أو الأم، ويحتاج لأمر آخر ليوقف هذا الفعل، فهو مطيع تمامًا لكل ما يأتي إليه من أوامر وتوجيهات وليست له أي حركة تطور أو نمو أو تفكير أو إبداع أو أي شيء.
هذا الطفل في معيار الأب والأم وهو صغير طفل مريح جداً لأنه (بيسمع الكلام) وهذا هو هدف كل أب وأم, ولكن عندما يكبر سيدرك الأبوين أن هذا الطفل عبء شديد جدًا عليهم لأنه لا يمتلك أي مبادرة ولا يمتلك أي ملكات أو قدرات ولا يستطيع عمل أي شيء بمفرده، شخصية اعتمادية سلبية مملة.
إذًا ولكي تتحقق الصحة النفسية لأطفالنا لابد من مساعدتهم حتى يتطوروا وينموا وفي نفس الوقت نساعدهم على التكيف مع البيئة التي يعيشون فيها، وهذا التوازن ليس توازنًا جامدًا أو ساكنًا بحيث نزيد هذه الكفة وننقص الأخرى مرة واحدة وتنتهي المهمة، لكن طالما كانت حركة النمو والتطور سريعة ومتغيرة فلابد من أن يواكبها تغير في حركة التكيف، فالتوازن هنا توازن ديناميكي بمعنى أنه يتطلب قدر عالي من المرونة، كلما زادت كفة نزيد الأخرى بمقدار مناسب وهكذا.
2 - الدوائر المتسعة: صحة الطفل - صحة الأم - صحة الأسرة - صحة المجتمع:
وهذا التوازن (المذكور أعلاه) لا يكون فقط في دائرة الطفل ولكن هناك دوائر أخرى متتالية تحتاج للتوازن فلن ننظر للطفل على أنه كائن وحيد، لكن سننظر إليه باعتباره دائرة تحوطها دائرة الأم تحوطها دائرة الأسرة تحوطها دائرة المجتمع، ولهذا يجب أن تكون هناك حالة توازن بين هذه الدوائر فننظر لصحة الطفل وصحة الأم وصحة الأسرة وصحة المجتمع، فالأم هي الحضن الأقرب للطفل، فلا نتصور وجود ابن صحيح نفسيًا وله أم مضطربة نفسيًا، والأسرة هي الحضن الأكبر الذي يحتضن الطفل والأم معًا، فلا نتصور كون الطفل والأم صحيحين معًا في حين أن الأسرة مضطربة، والطفل والأم والأسرة يحتضنهم المجتمع وهو الدائرة الأكبر فلا نتصور أن يبقى هؤلاء في صحة في حين أن المجتمع في حالة اضطراب.
وعندما نقوم كمعالجين بتقييم حالة طفل ننظر لهذه الدوائر ونحدد موضع الخلل, فأحيانًا يأتي الطفل باضطراب معين، وحينما نفحصه نجد أن هناك خلل في أحد هذه الدوائر أو في أكثر من دائرة، فلابد من التفكير في إصلاح هذا الخلل، ولا نتوقف عند الطفل فقط، لأن الطفل هو ممثل هذا الاضطراب، فالطفل أكثر صدقًا وأكثر براءةً وشفافية، فيظهر فيه الاضطراب بوضوح لكن لا يكون هو أصل الاضطراب فقد يكون هذا الاضطراب من أم مكتئبة أو مجهدة أو مدمنة أو الأسرة أو المجتمع، فننظر إلى أصل هذا الاضطراب. أحياناً نتجه مباشرة لعلاج الأم أو لعلاج الأسرة، أو يكون هناك خلل اجتماعي معين ولو تم تصحيح هذا الخلل يكون هذا الطفل في حالة أفضل