سأهتم في هذا الفصل بالسنوات الست أو السبع من تطور الطفل وذلك أثناء سنوات مرحلة المدرسة بدءاً من الابتدائية وحتى أول الإعدادية (ما يدعى بالحلقة الأولى من التعليم الأساسي في بعض البلاد العربية). لقد أشرت سابقاً إلى أنّه وكحلٍّ للصراعات الأوديبية يحدث ترويض عام وتعديل للحوافز، كما يحدث تعزيز في نمو تطور الأنا Ego وفعالية الأنا الأعلى Superego . لقد سمّى Freud هذه المرحلة بفترة الكمون Latency period ، وهذا الاسم يبدو مغلوطاً؛ فإذا نظرت إلى الأطفال في هذا السن ستجدهم كل شيء عدا كونهم كامنين، فهم فعّالون بشكل كبير، ويهتمون بالتعلّم وينهمكون بكل أوجه النشاطات بما فيها الاجتماعية، ويحاول البعض تبرير تسمية Freud لهذه المرحلة بفترة الكمون بأنها تشير بشكل محدد إلى تطور الطفل النفسي الجنسي Psychosexual Developmont. فبعد الوصول إلى درجة معينة من الرغبات الأوديبية هناك فترة من الزمن لا يظهر فيها أي رغبات جنسية جديدة.
وسأستخدم مصطلح (مرحلة أو فترة الكمون) نتيجة لانتشارها في وسط الخبراء والباحثين في الصحة النفسية مع العلم أن عبارة الكمون لها علاقة بالمجتمع الذي ينمو فيه الطفل ويتأثر كثيراً بالطريقة التي ينظم فيها المجتمع نفسه. ففي بعض المجتمعات يدخل الأطفال بشكل أسرع بمجالات ينظر لها في مجتمعنا على أنها مجالات للراشدين فقط. لقد كان مجتمعنا في السابق كباقي المجتمعات في كل الحضارات، يعمد إلى تشغل معظم الأطفال خلال فترة الكمون لكي يساهموا في تأمين لقمة العيش أو لكسب المال أو لتعلم حرفة أو مهنة، وفي الحقيقة حتى الآن مازال هناك بعض المجالات في مجتمعنا يعمل فيها الأطفال خلال هذه الفترة ويشاركون في دخل الأسرة، هؤلاء الأطفال ينحدرون من فئات ذات دخل منخفض، لذلك فهم يتعرضون لخبرات تتضمن حتى الجنس والموت والولادة أكثر من بقية الأطفال في مجتمعنا.
إن هذه الخبرات كانت سهلة المنال في السابق ولكن عندما بدأ المجتمع بالتغيّر بدأنا ندرك ونقول للأطفال أنّه لا يجوز لهم أن يعرفوا عن هذه الخبرات وتلك الأمور. إن ارتكاس الأطفال يكون بتجنبهم لهذه المجالات من خلال سلوكهم العفوي، وهذا ينطبق بشكل خاص على موضوع الجنس فالنظرة هي أن الأطفال يجب ألا يعرفوا شيئاً عن هذا الموضوع، وعندما كانوا يسألون حوله فإن الإجابات غالباً ما تكون غامضة، وعندما كانوا يظهرون فضولهم تجاه ذلك وبشكل أوضح فغالباً ما كان يؤدي ذلك إلى الانتقاد. ونحن نعلم أن الاستجابة في مجتمعات أخرى تكون مختلفة بشكل كامل وبالتالي فإن ارتكاس الأطفال يكون مختلفاً أيضاً.
هؤلاء الأطفال يظهرون نمطاً آخرَ من الكمون ولكنهم ما يزالون يعدّون أنفسهم لأدوار الراشدين؛ فهم يتعلّمون فرض القيود على التعبير عن السلوك العدواني والجنسي، والمجتمعات تختلف بالسماح للتعبير عن هذه المشاعر كما تختلف بأشكال التعبير ولكن القيود موجودة دائماً. إن طاقات الأطفال تُجبر على البحث عن طرق أخرى للتعبير عن نفسها وهذه الطرق تناسب المجتمع الذي يوجد فيه الطفل.
إن كبح هذه الدوافع الجنسية والعدوانية يساهم بشكل كبير في تعزيز التعلم، كما يساهم في التعلم أيضاً النضج في التطور الاستعرافي لأن الأطفال يصلون إلى المرحلة التي أسماها Piaget بالإجرائية العيانية Concrete operations والتي سأتحدث عنها في الفصل التالي. فالأطفال يفكرون بشكل منطقي ومترابط أكثر ويقل عندهم التفكير السحري، فهم يتحققون من الأفكار من خلال مراقبتهم للواقع كما يتفهمون العلاقات السببية أكثر فأكثر، ومع تقدم مرحلة الكمون يصبح التعلّم غاية بحد ذاته بدون أن يقيد بتقليد أو تمثل.
إن مرحلة الكمون هي المرحلة التي يتم فيها تعلّم قواعد وقوانين المجتمع وتعلم الطرق التي يصبح فيها الطفل فعّالاً أكثر كجزء من مجتمعه. إن هذا شائع في كل المجتمعات ويعتبر هذا عالمياً ودون أن يتأثر بتحولات التاريخ. فمثلاً الألعاب التي كنّا نلعبها عندما كنّا أطفالاً قد انتقلت وبدون تغيير من جيل لآخر عبر قرون عديدة. والأكثر من ذلك أن هذه الألعاب تلعب من قبل مجموعات لهذا فإن التعلم يتم من خلال القوانين الاجتماعية حيث يتم تعلم الأدوار الاجتماعية للبنت والصبي، كما يتم تعلم ما هو مسموح للتعامل مع الراشدين ومع الأصدقاء، كذلك معرفة ما هو مسموح في المدرسة وفي المنزل ومعرفة التفريق بين الجد واللعب. فالطفل يحاول في هذه المرحلة أن يجد لنفسه مكاناً في مجتمعه بكل ما فيه من ميزات وتقييدات.
والآن لنلقي نظرة لنعرف كيف تتم بعض من هذه الأمور.
الصبي في مرحلة الكمون
كما قلت في السابق أن الصبي في سن الرابعة أو الخامسة من عمره يريد أن يكون كبيراً وقوياً ولكنه بنفس الوقت كثير الولع بالتحطيم والتخريب. فإذا راقبنا الصبيان في هذا العمر نسمعهم يهددون بعضهم بعضاً (سأقطع رأسك، سأقطع يدك،…الخ)، وعندما يصبح هؤلاء الأطفال في سن مرحلة الكمون نجد أنه ما تزال لديهم الرغبة بأن يصبحوا كباراً وأقوياء وأبطالاً، ولكن هناك اختلاف بأبطال سن الكمون سواء أكان البطل سوبرمان أو رائد فضاء أو الرجل الأخضر في فرقة العدالة أو الرجل العنكبوت أو حتى راعي بقر في أفلام السينما. هناك قاسم مشترك بين هؤلاء الأبطال وهو حب الخير ومحاربة الشر. إن جميع طاقات الأطفال وقوتهم توجه نحو المجالات المقبولة اجتماعياً، فجميع هؤلاء الأبطال يملكون قوى سحرية؛ فسوبرمان يستطيع أن يطير وقدرته على رؤية خارقة، كذلك رجل الخفاش أو الرجل العنكبوت أو رجال فرقة العدالة الذين لديهم أجهزة خاصة كلها في خدمة الخير، فهم يقومون بأعمال الخير ويبتعدون عن أعمال الشر. إن هذه الفكرة نتيجة استدخال Internalization الجهاز المسيطر الذي تحدثت عنه سابقاً ذلك الجهاز القيّم هو الأنا الأعلى Superego .
كما نستطيع أن نرى من خلال هؤلاء الأبطال بقايا ماضي الصبية الحديث، ذلك أن أبطال صبية مرحلة الكمون يشتركون بشيء واحد وهو تجنب الاتصال مع النسوة. فمثلاًً باتمان (الرجل الخفاش) الذي ليس له حبيبة وهو لديه فقط روبين، أما سوبر مان لديه حبيبة ولكن الجميع يعرف بأنه لن يتزوجها، في حين أنّ راعي البقر لديه حصانه فقط! هؤلاء الأبطال يتجنبون الجنس، وإذا ما نظرنا إلى سلوك الصبية خلال هذه المرحلة نجدهم كذلك أيضاً، فهم يتصرفون وكأن البنات أشياء يجب أن تجتنب مهما كلّف الأمر، وكذلك نجد نماذج علاقاته مع البنات مميزة تماماً، فهم يغيظون البنات ويطلقون عليهن أسماء مزعجة ويطاردوهن من المدرسة إلى المنزل ويحاولون وبطرق مختلفة أن يهاجموهن ولكنهم لا يعترفون أبداً بمتعتهم بصحبة البنات، وفي الحقيقة فإن الصبي في هذه المرحلة والذي يلعب مع البنات يعتبر مخنثاً Sissy .
هناك عدة أسباب لذلك منها أن الصبي في سن السادسة أو السابعة أو العاشرة من عمره ما يزال يحاول الابتعاد عن الاتصال بأمه ولذلك فهو يبتعد عن كل شيء له علاقة ولو ضئيلة بتمثله بأمه، ويحاول أن يُظهِر ذكورته التي يريد أن يكتسب تعزيزها. أما السبب الثاني فهو أن أي اتصال للصبي مع البنت سيؤدي إلى قلق كبير فهي تذكره بخطر الخصي لذلك سيتجنبها.
إننا نجد بعض الرجال الذين لم يستطيعوا خلال حياتهم أن يتخلصوا من هذا القلق، وبما أن معظم المدارس الابتدائية تعتبر أمومية Matriarchy (أي معظم مدرسيها وإدارييها من النساء) لذلك فإن الصبية يشعرون بغيرة لأن البنات لهن حظوة أكثر عند المعلمات إذ أنهن يفضلن ويتفهمن البنات أكثر منهم.
سيعاني لصبي خلال هذه المرحلة من أوقات عصيبة وذلك بسبب تلك الظاهرة الممتعة ظاهرة النضج البيولوجي. فإذا عدنا بذاكرتنا إلى أطفال الصف السادس وأطفال بدء الإعدادية لوجدنا أن البنات أطول. كذلك إذا ما نظرنا إلى الصور التي التقطت في تلك الفترة من العمر سنفاجأ!! لأننا سنرى البنات أطول من الصبية ببضع سنتيمترات، وهذا ما يزيد عند الصبي مشاعر عدم الأمان والخوف من الانسحاق من قبل البنات مما يشجع آليات دفاع عدة أهمها الاستنفار والتجنب Deprecation And Avoidance .
البنت في سن الكمون
لقد أشرت سابقاً إلى أن البنات لا يلجأن إلى نفس حلول الصبية للتخلص من الارتباطات الأوديبية، وإذا ما نظرنا إلى البنت أثناء مرحلة الكمون سنجد هذه المرحلة تتظاهر بطريقة واضحة. وبالمقارنة مع معظم أقرانهن من الصبية سنجد أن البنت لا تخاف من التحدث عن تخيلاتها فهي تريد أن تتزوج عندما تكبر، والبنت خلال هذه المرحلة منفتحة تماماً وكل شيء على السطح ومقبول أيضاً. إن تخيلاتها الرومانسية تعكسها من خلال أحلام اليقظة ومن خلال القصص التي تقرأها فهي شبيهة بالجميلة النائمة التي تنتظر الأمير الوسيم ليوقظها، وهي تعجب بالصبية وأحياناً يمكن أن تقلدهم بطرق مختلفة، فهناك العديد من البنات ذوات السلوك الصبياني Tomboy في هذا السن وذلك بسبب شعور البنت بالتنافسية فلا شيء يفرح البنت الصبيانية أكثر من أن تتغلب على الذكور في لعبة خاصة بالذكورة، فمثلاً عندما تستطيع أن تقذف بالكرة أبعد مما يستطيع الصبي عندها يشعر الصبيان بإذلال وخزي مطلق فلا شيء أسوأ من هذا.
إن البنات في هذا السن هن أفضل بكثير من الصبية في جميع المجالات وخصوصاً في المدرسة فهن يقرأن قبل أن يقرأ الصبية كما أن سلوكهن أفضل في الصف الدراسي. ولا تحتاج البنات أن يلجأن إلى الأذى كما يفعل الصبية. إن التعلم لدى البنات يتضمن صراعات أقل بكثير مما لدى الصبية. كما أن البنات أكثر انسجاماً وتنافساً من الصبية ويستطعن القيام بأعمال كثيرة لا يستطيع الصبية القيام بها. ومن المحتمل ألا تكون تلك الأعمال بالجودة الكافية، ولكن البنات بشكل عام أفضل بكثير من الصبية خلال هذه الفترة