إن صورة الوليد عن جسمه هي صورة غير ناضجة ولا يستطيع التفريق بين نفسه وبين أمه ففي الحقيقة إذا نظرنا للوليد نلاحظ أنه يتابع الإصبع التي تمر أمام عينيه بنفس الطريقة التي يتابع بها أي قلم يمر أمام عينيه، فهو لا يعرف الفرق بين مص لهّاية "pacifier" وبين مصه لإصبعه عندما يجد طريقه لفمه فهو لا يملك إحساساً مميزاً بجسمه.
إن تطور صورة الجسم هو أحد الأحداث الهامة التي تبدأ في الأشهر الأولى من الحياة، وهذا شيء هام جداً فعندما نتعامل مع مرضى بالغين نرى ثباتهم النفسي يعتمد بدرجة كبيرة على بقاء نظرتهم لأجسامهم طبيعية وثابتة غير متغيرة، وأي شيء يؤدي لتغيير صورة الجسم فإن كل الكيان النفسي سوف يتغير، وهذا ما يعرفه الجراحون، فعندما يتعرض المريض لإجراء جراحي يؤدي لتغيير في صورة جسمه فإن نظرته لنفسه ستتغير. ويحدث نفس الشيء في حالات المرض المزمن أو نقص كبير في الوزن أو زيادة فيه أو حتى تغيير جذري في نمط الشعر، فالمرء ينظر لنفسه في المرآة ويتساءل من هذا؟ هل من المعقول أن أكون أنا؟. ذلك ما ندعوه صورة الجسم، وهذا المفهوم يأخذ وقتاً حتى يتطور فهو بطيء التغيير عند حدوثه، لكن الوليد ليس لديه صورة عن جسمه وهو يبدأ بتشكيل تلك الصورة بفضل عدد من العوامل البيولوجية.
ومن هذه العوامل ما ندعوه "بلمس نقطتين Two points Touch " وهذا يعني أنه عندما يلمس الطفل جسمه بيده مثلاً فهو يشعر باللمس في مكانين: في جسمه وفي يده، وكذلك الإبهام في الفم يشعر الإحساس في مكانين، بينما المصاصة في الفم تكوّ ن شعور في نقطة واحدة، فالطفل يستكشف جسمه منذ الأشهر الأولى ولكن هذا الاستكشاف ليس إرادياً بسبب ضعف سيطرته الحركية، فحين تقع يده على وجهه يشعر هنا بنقطتين في الوجه واليد بينما حينما يلمس الشرشف الخد هنا يشعر بمكان واحد ولذلك فهو يبدأ بوضع حدود جسمه، ومع ذلك فإن حدود الجسم لا تكون واضحة خلال الأشهر الثلاث الأولى.
الإحساس بالواقـع
ومن الأمور التي تحدث في الأشهر الأولى هي التمييز بين الواقع واللاواقع، وهذا الأمر أعقد من سابقه فالوليد غير قادر على التمييز بين نفسه وبين أمه ولا يعرف كيف تدخل حلمة الثدي إلى فمه، ولا كيف تصل إليه، وفيما إذا كانت ستعود إليه مرة أخرى أم لا.. إننا نعتقد أن الطفل حين يعاني من توتر الجوع فهو يسترجع بالذاكرة ما حدث له في مرات مماثلة سابقة لتخفيف هذا الشعور وفي بداية الأمر فهو لا يميز بين الصورة العقلية للتجربة وبين التجربة ذاتها في عالم الواقع، وبصيغة أخرى فهو سيفعل ما ندعوه عند الكهول بالهلوسة Hallucinating، عندما يتخيل الشيء الذي خفف توتره في الماضي فإنه لفترة قصيرة من الزمن لن يعرف أن هذا الشيء غير موجود واقعياً في الوقت الحالي.
إن هذا المفهوم معقد ولكن يمكن توضيحه بطريقة مقنعة؛ فمثلاً إذا كان الطفل جائعاً -وليس فقط يريد أن يمص- وأدخل إصبعه إلى فمه صدفة فإنه سيبدأ بالمص وبما أنه لا يميز بين مصه لإصبعه وبين مصه لثدي أمه أو لزجاجة الحليب، فإنه ونتيجة لتجاربه السابقة بالشعور بالراحة وزوال التوتر بعد مص ثدي أمه يعتقد أن توتره سيزول بعد فترة قصيرة من مصه لإصبعه، ولكن ومن الواضح أن الجوع لن يذهب بهذه الطريقة وهذا يؤدي لخطوة هامة في التطور، فالطفل يبدأ بمعرفة أن هناك فرقاً بين الصورة الذهنية التي يكونها لشيء ما وبين الحقيقة الواقعية لهذا الشيء، وهذا ما يشكل الخطوة الأولى فيما ندعوه الإحساس بالواقع أي القدرة على التمييز بين الصورة الذهنية لشيء وبين الحقيقة الواقعية للشيء. وإذا دققنا قليلاً في الأمر فإننا نرى أن هذه هي طريقة أخرى للطفل للتمييز بين نفسه وبين العالم الخارجي وحدوث خطأ في التطور هنا يلعب دوراً في الإمراض النفسي.
الثقة الأساسية مقابل عدم الثقة
إن تطور الإحساس بالواقع يتطلب مرور الطفل بعدة تجارب ولحسن الحظ فإن بعض التجارب مشتركة في كل العالم، فكل طفل مهما كان مدللاً عليه أحياناً أن ينتظر وتمر عليه لحظات لا تلبى فيها حاجاته مباشرة، إن درجة الإحباط تبدو ضرورية لتمايز وتطور الكائن الحي خارج مرحلة الذاتية Autistic phase . والشيء الهام في الأشهر الأولى من الحياة هو التوازن بين الإشباع والإحباط البسيط، فالإحباط يحدث بشكل عفوي وليس من الضروري أن يحدث بشكل مصطنع وهو يحدث بعدة طرق، والنتيجة الهامة لهذا التوازن أن الطفل يكوّن شعوراً بالثقة أو لنستعمل تعبير Erik Erikson الثقة الأساسية Basic trust فالطفل يشعر بالثقة بأن حاجاته ستشبع من قبل الأشخاص حوله، والأطفال الذين لا يتلقون رعاية أمومية كافية لا يتكون لديهم أبداً مفهوم الثقة الأساسية، أي ليس لديهم ثقة بمن حولهم بأنهم سيساعدونهم على الشعور بالارتياح نتيجة تلبية حاجاتهم، ومن الواضح إن هذه الثقة لا يكتمل تكونها خلال الأشهر الأولى من الحياة ولكنها مع ذلك تبدأ بالتكون في هذه الفترة.
التطور الإضافي للتعلق
إن الأبحاث المجراة على تطور الإنسان أطلقت على الشهور الأولى للتطور اسم مرحلة التعايش Symbiotic stage of development وهذه الكلمة تعني نفس ما تعنيه في الأمور البيولوجية ولكن ليس بنفس الحرفية، فهي تشير إلى المنفعة المتبادلة بين الأم والرضيع فكما يستجيب الرضيع للأم فإن الأم وخاصة بعد الابتسامة الأولى للطفل تتفاعل مع الطفل بعدة طرق تذهب أكثر من مجرد إطعامه أو تغيير حفاضاته، إذ أنها تلعب معه وتحدثه وتحاول أن تولد لديه مزيداً من الابتسامات وتستعمل التماس الجسدي معه، وبذلك فإنه يتعلق بها أكثر فأكثر.
ومن مهام الطفل المستقبلية تحقيق الانفصال عن أمه لكن قبل ذلك عليه أن يتعلّق بها! ويوجد عدد من الأفكار حول طبيعة عملية التعلّق attachment؛ ففي الأنواع البدائية من الحيوانات نعرف أن هذا التعلّق عند صغارها يمكن أن يؤثر عليه بعدة طرق ومثال عليه أعمال Loreans في مجال الطيور، حيث لاحظ ظاهرة دعاها الانطباع Imprinting وهي تعني أن أي كائن يدخل إلى عش الطير في فترة بيولوجية معينة سوف يُقبل من قبل الطير على أنه الأم فإذا مرّ كلب أمام بطة صغير في هذا الوقت فسيكون بالنسبة للبطة أماً، وكذلك إذا مرّ إنسان، وهذه الظاهرة (الانطباع) غير موجودة عند الإنسان، ولكن يعتقد أن تعلّق الطفل بالأم عند الإنسان يحدث كنتيجة لتفاعل متبادل ومتكرر مع الأم، وهذا هو التفاعل الذي يخفف توتر الطفل ويقدم له التنبيهات الضرورية لنموه.
إن التعلق بشخص الأم Mothering Person يختلف في شدته بين الأطفال حسب النمط الاجتماعي والنفسي للرعاية الأمومية ونحن معتادون على نمط أن شخصاً واحداً -عادة هو الأم الحقيقية- هو من يقوم بالتفاعل مع الرضيع، لكن هناك أنماطاً أخرى تلبي حاجة الطفل وتسمح له بالتطور، هناك تنظيمات اجتماعية حيث عدد من النساء تتشارك بالرعاية الأمومية كما العائلات في مزرعة كبيرة أو النمط التي تقوم به المربية في تربية الطفل كما كان شائعاً في السابق عند الطبقات العليا في أوروبا. وأحياناً الرعاية الوالدية تتشارك مع الأشقاء أو الأجداد في العناية بالطفل. وبغض النظر عن طريقة التنشئة فإن الطفل سيكوّن تعلقاً خاصاً مع الأشخاص الذين يساهمون في رعايته وبالتأكيد فإن نوع التعلق الذي يبديه الطفل نحو الأشخاص الذين يرعونه سيكون له تأثير في نوعية العلاقات التي سيكونها في المستقبل.
ومن الهام جداً تحقيق التوازن بين الإشباع والإحباط، فمن الواضح أنه إذا لم يتم إشباع بعض الحاجات عند الطفل فلن يكون قادراً على الاستمرار في الحياة، وبالمقابل ففي سياق التطور سيصادف الرضيع درجات مختلفة من الإحباط، فانتظار الوليد أو الرضيع لفترة بين بدء توتر الجوع وبين إعطائه ثدي الأم أو زجاجة الرضاعة تساعد الطفل على تحقيق تمثيل ذهني Mental Representation عن العالم الخارجي. وفي أشهر الحياة الأولى لا يكون للوليد قدرة على تحمل الإحباط ولا يمكنه الانتظار من أجل إشباع حاجاته، وبعد مضي أشهر يكوّن الطفل قدرة على تأخير الإشباع، وهذا التطور له تأثير هام على الشخصية التي سيأخذها الطفل.
علينا أن نتذكر أن هذا التوازن بين الإشباع والإحباط تحققه الأم بصورة غريزية، وقولنا أن ذلك غريزي هو نوع من التعبير غير الدقيق عن أن الأم تملك إحساساً يشعرها كم يمكن لطفلها أن ينتظر من الوقت، أو كم من الوقت يجب أن تحدثه أو تحمله أو توجد إلى جانبه ليتحقق إشباع حاجاته. وهناك اختلافاً منذ الأيام الأولى في الشدة التي يعبر بها الأطفال عن حاجاتهم وكذلك فالأمهات يبدين صعوبة أكثر في طريقة الاستجابة لهذه الحاجات، بعض الأمهات يجدن صعوبة كبيرة في جعل الطفل ينتظر لتحقيق إشباع حاجاته، فهن يتوقعن حاجاته ويلبينها حتى قبل أن يطلبها وهنَّ ذلك النوع من الأمهات اللواتي يتواجدن بجانب الطفل منذ استيقاظه ويطعمنه قبل أن يطلب ذلك وهذا النوع لا يحب أن يسمع أي بكاء.
وهناك أمهات على النقيض من ذلك، إذ لا تلبي الأم حاجة الطفل بصورة كافية وتتركه ينتظر طويلاً، فلا يُطعم إلا بعد أن يصبح منفعلاً بشدة من شدة البكاء أو حتى يتوقف عن البكاء من شدة الإجهاد. وكما هو متوقع فإن أحد التظاهرات التي يؤدي إليها هذين النوعين من السلوك هو حدوث صعوبات في الأكل Feeding Difficulties عند الطفل، وعندما يكبر هذا الطفل يبدأ بإظهار أنماط من السلوك تتعلق بنوع هذه العلاقة التي كانت قائمة بينه وبين أمه، وهذا ما نلاحظه في حياتنا اليومية من أن البعض من أطفال أو راشدين لا يستطيعون الانتظار أبداً، فهم في الحقيقة لم يتمكنوا من تكوين قدر من السيطرة على التوتر الذي يشعرون به، ويبحثون عن تخفيض مباشر لأي درجة من هذا التوتر. وهؤلاء الأطفال عند البلوغ يصبحون أشخاصاً ليس لديهم سيطرة على رغباتهم الذاتية، وعلى العكس فإن آخرين لا يتوقعون شيئاً من الحياة ولا يعتقدون أن الحياة يمكن أن تقدم شيئاً سعيداً وهؤلاء كان الإحباط عندهم في الطفولة كثير الحدوث ومسيطراً على الإشباع. ونرى هذا الموقف التشاؤمي عند الأطفال الحزانى وعند الراشدين المصابين بالاكتئاب. وبين هذين النوعين يقع أغلب بني البشر والذين يملكون رغبة صحية في إشباع حاجاتهم لكنهم في نفس الوقت يتحمّلون تأخير هذا الإشباع وتكون لديهم ثقة أساسية بأن هذا الإشباع سيتحقق.
القلق من الغرباء
حين يحقق الرضيع الثقة الأساسية فإنه يصبح أكثر تعلقاً بالأم، فالطفل يسجل ويتذكر الذكريات الحميدة عن أمه ونظراً لتسجيل تجاربه معها في ذاكرته يصبح لديه نوع من التوقع للتصرف الذي ستقوم به الأم وعندما يحصل هذا يبدأ الطفل بالوصول للعالم الخارجي ويقارن بقية الأشخاص في العالم بأمه وأبيه، فإذا راقبنا أحد الرضع وهو يحدق بشخص غريب فهو سيبدأ باكتشافه وهو يتحقق كيف يبدو ويلمس وجهه وشعره وأحياناً حتى يتذوقونه هذا ما دعاه الدكتور Mahnler التفتيش عن الصفات Customs Inspection ، ويعتقد أن ما يفعله الطفل في هذا التفتيش هو مقارنة الغريب مع الصورة الذهنية التي كونها عن أمه فإذا اجتاز الغريب هذا الاختبار أي إذا وجدت درجة كافية من التشابه فلن يكون هناك استجابة قلق.
وفي فترة من التطور بين الشهر السابع والتاسع يبدي الطفل استجابة مختلفة لوجود الغرباء حيث يظهر قلقاً خلال وجود شخص غريب ولا نعرف حتى الآن إذا كان القلق هو من نفس طبيعة القلق عند الكبار، وحتى لو كان الغريب هو شخص مألوف نسبياً بالنسبة له فهو سيبدي استجابة قلق مثل فترة من البكاء أو الضياع، فالمعارف أو الأقارب الذين كانوا متقبلين دون صعوبة في الأشهر الأولى يرفضهم الطفل ويبكي بشدة حتى يعود إلى أمه هذا ما ندعوه "قلق الغرباء". وهذا هو وقت تمايز الطفل Time of Differentiation ،تمايز نفسه عن أمه وتمايز أمه عن بقية الأشخاص وهو يمثل خطوة في التطور البيولوجي السلوكي، وأحد الطرق التي نعرف بها أن غياب الأم يسبب شعوراً بعدم الارتياح عند الطفل هي حدوث مشاكل نوم sleeping problems في حوالي الشهر الثامن.
فحين تخطط الأم لتخرج من غرفة صغيرها حين نومه سيبدأ الطفل بالصراخ رغم أنه يبدو نصف نائم فهو لا يريدها أن تذهب فتعود للدخول وتتكرر هذه العملية كلما رغبت الأم بالخروج، فإذا شكت الأم ذلك لطبيب الأطفال سيقول لها أنه بسبب بزوغ أسنانه، ولكن في الحقيقة سبب مشاكل نومه ليس ذلك بل أن شيئاً قد حدث للصورة الذهنية للأم عند الطفل فهو في هذه الفترة يعرف أمه على أنها مستقلة عنه وعن الآخرين، لكنه لا يستطيع المحافظة على تلك الصورة الذهنية في حال عدم وجودها معه، وهذا ما دعاه Piaget "ذاكرة التعرف" Recognition Memory والمحافظة على الصورة الذهنية في حال غياب الأم لا يتطور إلا في الشهر الثامن عشر وحتى بعد ذلك، وعندها يتشكل ما يدعى بالذاكرة الحاضرة Evocative Memory وقبل تشكل هذه الذاكرة فإن غياب الأم لأي فترة من الزمن سيشعر الطفل بالقلق.
بدء الانفصال وتكوين شخصية مستقلة
إن المهمة النفسية المطلوب تعلمها في السنوات المقبلة هو الحفاظ على الصورة في الذاكرة كخطوة في الانفصال في طريق تحقيق الانفصال، وقبل أن يبدأ الطفل بالانفصال عليه أن يتعلق بأمه وبعد أن يتم التعلق عليه أن يتعلم أن الشخص يبقى موجوداً رغم غيابه عن نظره، وعندما ننظر إلى الأطفال الصغار فإننا نرى مجموعة من طرق السلوك والتي هدفها التعامل مع هذه المشكلة مشكلة قلق الانفصال separation anxiety، وعلى سبيل المثال: إذا أخذنا طفلاً رضيعاً بعمر 6- 7 أشهر وقدمنا له شيئاً يريده كلعبة ملونة ثم وضعناه أمام الطفل إلا أننا غطيناه بحيث لا يستطيع الرضيع رؤيته فإن هذا الرضيع لن يبدي أي حركة للحصول عليه، فهذا الشيء لم يعد موجوداً بالنسبة للرضيع بسبب غيابه عن نظره، لكن عندما يصل الطفل إلى عمر سنة فهو سيتصرف بشكل مختلف عن السابق إذ سيتحرك مباشرة باتجاه الشيء المخفي ويحاول الحصول عليه. فالاختلاف بين العمرين أن الأول لم يحتفظ بصورة الشيء عندما اختفى، أما الثاني فبقي بذهنه، وهذا ما نسميه التمثيل الذهني Mntal Represntation .
والأطفال في النصف الثاني من سنتهم الأولى يفعلون الكثير من الأشياء للتغلب على القلق الناشئ عن اختفاء الأشياء، وبالطبع فالأم هي الشيء الذي يرغب الأطفال في الاحتفاظ به بصورة دائمة ولكن بما أن ذلك مستحيل فهم يفعلون طرقاً متعددة كأن يلعبوا لعبة فقدان الأشياء ثم استردادها (في هذه اللعبة يقوم اللاعب بجعل شيء يختفي ثم يعود للواقع) فالطفل عندما يغلق عينيه ثم يفتحهما يلاحظ بقاء الأشياء وعدم اختفائها رغم غيابها ذهنياً عنه عندما يغلق عينيه، وهناك لعبة مزعجة أكثر للأهل يلعبها الرضيع ففي حوالي نهاية السنة الأولى وبسبب التطور الجسمي الفيزيائي عند الطفل نلاحظ أنه عندما يجلس في كرسيه العالي سوف يأخذ الملعقة أو الكأس ثم يسقطها على الأرض فتقوم الأم بالتقاطها وإعادتها إليه فيأخذها الطفل ويلقيها ثانية إلى الأرض وتعاد هذه العملية حتى تصبح الأم أكثر انزعاجاً، ربما لو عرفت الأم أن هذه اللعبة ليست فقط استنفاذية بل أن لها هدفاً آخر لما كانت على هذه الدرجة من الانزعاج، فالطفل يجعل الأشياء تذهب بعيداً ثم تأتي. ونفس اللعبة تحدث عندما يلقي الطفل اللعبة بعيداً عن متناول يديه ويعيدها إليه الأهل، وربما كانت هذه اللعبة شيء متعلق بالطفل ولا يستطيع بدونه النوم ورغم ذلك يلقيها بعيداً عن متناول يديه. وينظر العلماء إلى هذا السلوك على أنه محاولة لإتقان تجربة أن الحياة لا تبقى ثانية والأشياء التي يحبها يمكن أن تختفي كما يحاول أن يتعلم كيف يستعيد أشيائه التي فقدت.
إن زيادة النضج تلعب أيضاً دوراً في الانفصال وتكوين الفردية. ففي حوالي الشهر السادس هناك تحول في الرضيع من منعكس إطباق اليد إلى استجابة يتميز بها الإنسان هي مقابلة الإبهام والسبابة وعندما يستطيع الطفل أن يقابل أصابعه بهذه الطريقة تكون له القدرة على التقاط الأشياء، وهو بعد فترة من التمرين يستطيع إيصاله إلى فمه وحين يبدأ الطفل في ممارسة هذا التناسق اليدوي العيني الفموي فإنه سوف يحاول الوصول إلى كل شيء في متناول يده ووضعه ضمن مجاله البصري ثم إيصاله لفمه.
إن المهارة التي اكتسبها الطفل لها عدة فوائد فهو سيبدأ في اكتشاف العالم المحيطي، وستكون له القدرة على السيطرة على بعض المنبهات التي كان يتعرض لها، هو لم يعد عنصراً متقبلاً سلبياً بل أصبح له قدرة على بداية وتكرار الأحداث التي تجلب له السعادة وقريباً سيحاول أن يمتع نفسه، فحين نضع زجاجة الحليب أمامه يحاول الوصول إليها ومسكها ثم تقريبها إليه. ورغم كونه في هذه المرحلة مكتفياً ذاتياً بنسبة ضئيلة جداً فهو يعتمد بشكل أقل نسبياً على أمه. وكلما نما الطفل فإن هناك عدة مجالات يبدأ فيها بممارسة نشاطه وخدمة نفسه وعندما ينجح في خدمة نفسه فهو يشعر بانزعاج أقل من غياب أمه.
ومن المهارات الأخرى التي يكتسبها الطفل في هذه المرحلة والتي تساعده في التعامل مع انفصاله عن أمه هي الحركة Locomotion ، فبين الشهر السادس والثامن يبدأ بالزحف، وفي البدء يزحف قريباً من قدمي أمه ثم يبتعد قليلاً لكنه سيعود بسرعة إلى قدميها ويلمس كاحلها أو أي شيء آخر يؤمن الاتصال الجسمي معها، وبالتدريج سيبتعد أكثر فأكثر والبقاء بعيداً أكثر لكنه سيسرع للاقتراب منها لاكتساب الثقة من لمس أمه فهي تمثل الأمان بالنسبة له.
صورت أفلام عن القرود تظهر كيف أن صغير القرد يبتعد تدريجياً عن أمه لكنه يزحف عائداً إلى تماسها في حال وجود أي شيء يشعره بالخوف.
وحين يبدأ الطفل بالزحف والابتعاد أكثر فإنه بالتدريج يصبح أقل اعتماداً على الاتصال الجسمي المباشر مع أمه ويصبح مكتفياً بأن يرى أمه من بعيد وهي ما تزال في مكانها، وبعض الأطفال أكثر جرأة، سيخرج خارج الغرفة التي تجلس فيها الأم. وفي الواقع أغلب الأطفال لن يحتاجوا للاتصال البصري مع الأم بل يستعيضوا عن ذلك بالسمع إذ يبقوا في مكان يستطيعون فيه أن يسمعوها، وبذلك الاتصال الجسدي الفيزيائي حل مكانه الاتصال البصري أو السمعي.
المواضيع الانتقالية
أتحدث هنا عن تطور تدريجي للطفل، تطور يمتد على مدى عدة أشهر، ففي البدء يتعلق بأمه ثم يصبح قادراً على الانفصال عنها تدريجياً، وكما هو متوقع فهذه العملية يرافقها درجة من القلق، وللأطفال طرق عديدة للتعامل مع قلق الانفصال، فعلى سبيل المثال في نهاية السنة الأولى يتعلق الأطفال بموضوع معين وهذا الشيء ندعوه الموضوع الانتقالي فمعظمهم يتعلق بلعبة على شكل دب صغير أو دمية معينة أو بغطاء معين، ففي ذهن الطفل يشكل هذا الموضوع (مثل الغطاء) نوعاً من الرباط مع الأم إذ أن هذا الموضوع -وحسب طريقة تفكير الطفل- له بعض الصفات التي تذكره بأمه، لذا فهو بديل جيد عنها فهو ناعم ودافئ ويكتسب رائحة معينة، ومن المهم بالنسبة له بقاء هذا الشيء أو استبداله بشيء آخر سيجابهه الطفل بالغضب والبكاء فالغطاء الجديد أو الدب الجديد لا يقوم بوظيفته إذ لا تمثل أي نوع من الارتباط مع أمه.
إن الحاجة لوجود شيء يربط بين الأم والطفل أشد ما تكون في وقت الانفصال، وأكثر وقت يحدث فيه انفصال هو وقت النوم، فمعظمهم يستخدم المواضيع الانتقالية قبل أن يذهبوا للنوم. وقد تكون هذه الأشياء زجاجة الحليب أو الغطاء أو ربما كان الشيء الذي يربطه مع أمه هو شيء يخصها بصورة مباشرة فمثلاً بعض الأمهات تغني لأطفالها قبل النوم وعندما يكبر الطفل أكثر فإن الأم تروي له حكايات وحتى الأطفال الأكبر ينفرون من كونهم وحيدين حين يذهبون للنوم لذا يأخذون معهم كأساً من الحليب ويستمعون للمذياع فترة قصيرة، وحتى نحن الراشدين فإننا نحتفظ بنوع من هذه العاطفة فنحن نبحث عن اتصال مع العالم الخارجي قبل أن ننام! فبعضهم يتناول وجبة خفيفة وآخرون يشاهدون التلفزيون وبعضهم لا يستطيع النوم إلا إذا قرأ لفترة، هذه هي بقايا شعورنا الأولي من الخوف من فقدان الاتصال مع الآخرين، فالإنسان لا يحب الوحدة ورغم أنه يتحمل ذلك فهو يبقى ضعيفاً أمامها.
ولنأخذ مثالاً على ذلك: انتقال شخص لمدرسة جديدة أو مدينة جديدة يشعر بالغربة في البداية وربما بالانزعاج، وللتغلب على هذا الشعور ننظر حولنا للعثور على شيء مألوف يذكرنا بتجاربنا السابقة وربما نتصل بالمنزل. إن كثيراً من الأشخاص عندما يذهبون لمكان ما بعيد يحملون معهم شيئاً يربطهم بمكانهم الأصلي كصورة للعائلة، وعندما يذهب الأطفال للمعسكرات فمن المفيد إعطائهم شيئاً من المنزل وهذا مهم أيضاً عند إرسال الطفل للمشفى فهنا لا يكون الطفل فقط بعيداً عن المنزل بل في حالة الخوف، وبدلاً من شراء بيجاما جديدة أو حذاء جديد ينصح الأهل أن يعطوه أقدم وأكثر الأشياء تآلفاً معه.
إنني هنا لا أقول بأن الراشدين يستجيبون على الانفصال بنفس الطريقة التي يستجيب بها الصغار فالشخص يتطور وينضج وتصبح عنده القدرة على تذكر الأشخاص الذين يهتم بهم عندما يكون بعيداً عنهم، وبالتالي يتمكن من التعايش مع الانفصال ولكن القلق الذي يبديه الأطفال الكبار أو الراشدين عندما يذهبون بعيداً هو صدى الحقيقة القائلة بأنه في مرحلة مبكرة من التطور يخشى الطفل فقدان ما هو متآلف عليه مثل أمه وسيستغرق وقتاً للتعلم أن الشيء عندما يكون بعيداً عن نظره يبقى موجوداً في الواقع.
اضطرابات التطور
هناك عدة أمور يمكن أن تتم بصورة خاطئة في هذه المرحلة من مراحل التعلم فمثلاً قد يحدث عدم توصل الأم والطفل إلى حالة توازن بين الإشباع والإحباط وعند حصول الافتراق. فالأم هي العنصر الأساس الذي يمثل الأمان بالنسبة للطفل وهي يجب أن تكون معه فترة طويلة من الوقت. لكن كي يتعلم الطفل كيف يصبح شخصاً مستقلاً عليه أن يتعلم كيف يتعامل مع غياب الأم، وبمعنى آخر عليه أن يتعلم تجربة بقائه وحيداً فترة من الزمن حيث الأب والأم لا يمكن أن يكونا دائماً معه. وهنا بعض الأهل الشباب الذين عانوا من مشاكل أثناء الانفصال سيحاولون ألا يتركوا الطفل أبداً، وهنا نلاحظ أحد أهم أنواع الصعوبات في تطور طفلهم. وبالعكس فهناك أمهات يتركن الطفل وحده لفترة طويلة وبالنتيجة فهؤلاء الأطفال سيعانون من صعوبة في التطور من نوع آخر، فالطفل الذي يترك وحده فترة طويلة من الزمن أو نشأ في ميتم حيث لا يجد درجة كافية من التنبيهات ومن الاتصال العاطفي فهو سيعاني من فشل في النمو Fail to Thrive والذي يحدث أذية نفسية واجتماعية وحتى أذية عقلية.
إن هناك اضطرابات تحدث عندما يحرم الطفل الذي كوّن علاقة تعلق قوية من أمه فجأة. مثلاً الدخول إلى المشفى في النصف الثاني من السنة الأولى للحياة ففي احسن الظروف فإن الطفل والأم يمكن أن يكونا على اتصال يومي. ويشجع الأهل في المشفى على العناية بطفلهم. وزيارته وإطعامه واللعب معه. لكن في ظروف أخرى يمكن أن يحرم الطفل من كل اتصال جسدي مع أمه بسبب مرض شديد وما يحدث في هذه الحالة هو أن الطفل ينسحب من المجتمع ولا يبدي استجابة وهذا ما ندعوه بالاكتتاب الاتكالي Anaclitic Depression أي ارتكاس بسبب غياب الشخص الذي نتكل ونعتمد عليه، وهو مصطلح يمكن استماله لوصف الاكتئاب الذي يحصل عند الراشدين حين فقدانهم لزوجهم. وربما كان هذا المصطلح ليس الأفضل لوصف هؤلاء الأطفال الذين يعانون من الانطواء الذاتي الطفلي Infantile Autism يستطيعون أن يشكلوا أي نوع من القلق منذ بداية الحياة. وهناك أطفال آخرون يجتازون المرحلة الأولى من التعلق بشكل جيد لكنهم لا يستطيعون الانفصال عن أمهاتهم بعد ذلك، وهم توقفوا في تطورهم في مرحلة التعايش. ويحدث لديهم ذهان تعايشي symbiotic psychosis وهؤلاء لا يشعرون بأي إحساس بأنهم أشخاص منفصلين أو أن الأم يمكن أن تتركهم ثم تعود إليهم. وهذا الطفل يبدو جيداً أثناء وجود أمه لكنه بغيابها يصبح مضطرباً ومشوشاً وغير قادر على العمل.
من الشائع مشاهدة أشخاص عندهم صعوبات في الانفصال في مراحل أخرى من الحياة فبعضهم يشعر بالقلق نحو أي شيء يهدد بحصول الانفصال، وبعض التفاعلات النفسية هي نوع من هذا القلق نحو الانفصال، بالنسبة للبعض فكل شخصيته قد تتركز حول خوف وهمي من الفقدان، وطرق وهمية لتجنب هذا الخطر، ومثل هؤلاء يشعرون أن أي شيء يملكون سوف يؤخذ منهم، أو حتى يضيع مركزهم وأموالهم. وقد تغدو آلية الدفاع عندهم هي الرغبة في زيادة التملك، فحياتهم كلها يمكن أن تكون تحت ستار من هذا الخوف، وخاصة الخوف من الموت، الذي يعتبر الانفصال الأكبر، يخافون من الموت لدرجة تمنعهم من الاستمتاع بحياتهم.
وبعض الأطفال يظهرون أنواع أخرى من الاضطرابات في السنة الأولى من الحياة مثل اضطرابات تطور "الأنا" ووظائف الأنا -المشروحة في الفقرة اللاحقة- يمكن لأحدها أو أكثرها ألا يتطور بشكل طبيعي، ولقد خصصت كتاباً مستقلاً تحدثت فيه عن اضطرابات التطور التي تصادف في مرحلة الطفولة من منظور علم الأمراض النفسي.
أعمال الأنا
إن الطفل في نهاية السنة الأولى من الحياة يختلف كثيراً عن بداية حياته إذ مّر بمرحلة ازداد فيها تمايز نفسيته psychic differntiation . ومن أجل متابعة وفهم هذه العملية فإننا في العلوم النفسية نستخدم بعض المفاهيم لشرح التغيرات التطورية والسلوكية، ومفهوم علم نفس الأنا Ego Psychology هو صيغة عَمل بُنيت حولها نظريات عن تطور الإنسان، وهذه النظريات ليست مطلقة وليست واقعية بمعنى أنها لا توجد بشكل تشريحي في الإنسان رغم أنها قد تبدو كذلك، وهذه النظريات تغيرت عدة مرات مع ظهور معلومات جديدة وبالتأكيد ستتبدل في المستقبل وهدفها هو مساعدتنا على فهم مشاهداتنا وملاحظاتنا.
يكون الجهاز النفسي حين الولادة محدوداً، ولاحظنا أن التجارب ضرورية لتطوره ولترك صورة ذهنية، وعندما تكلمنا عن حالات التوتر الناجمة عن الحاجات البيولوجية فإن هذه الحاجات ليس لها تمثيل ذهني عند الطفل، إذ لا يعرف أنه جائع وما سيخفف من جوعه ولكن مع تكرر التجربة فإن الأمر الذي سيخفف من توتره سيحتفظ به في ذاكرته أي يُكوّن له تمثيلاً ذهنياً وهكذا بتكرار حالة التوتر فإن الصورة الذهنية للشيء الذي خفف منه يستعيدها بذاكرته لكن بطريقة غامضة غير محددة بدقة.
والرغبة بتحقيق واقعي للصورة الذهنية للشيء الذي خفف التوتر، أي البحث عن الشيء الذي يحقق الإشباع يحفز السلوك Motivate behavior وهو أيضاً ما أطلق عليه اسم الدافع impulse. لقد أطلق على السنة الأولى من الحياة اسم المرحلة الفموية من التطور النفسي الجنسي لأن منطقة الفم هي المنطقة الأولى للذة في هذه السنة وهي المنطقة التي يحصل فيها الطفل على الإشباع. وهذه المتعة تشمل أكثر من إشباع الجوع فهي تشمل عدة عناصر: المص والإحساس بالشفتين والحنك والذوق، دفء جسم الأم ورائحتها وحتى المنظر البصري للتجربة. وبذلك نرى أن هذه التجربة الممتعة هي ما يبحث عنه الطفل مرة تلو الأخرى وأن الأم هي المصدر السحري لإشباع هذه الرغبات، والجزء من الكيان النفسي الذي يتوسط بين رغبات الطفل وبين الواقع هو ما يسمى بالأنا the ego . إن الأنا هي مفهوم يشمل مجموعة وظائف ستصبح أكثر ترابطاً واتحاداً مع تقدم التطور.
ومن أحد وظائف الأنا هي الإحساس بالذات والإحساس بصورة الجسم. ففي خلال مرحلة اللاتمايز من تطور الإنسان حيث لا يستطيع الطفل التمييز بين نفسه وبين الشخص الذي يقوم بدور الأم، ففي هذه المرحلة يكون لدى الطفل "الأنا" بدائية جداً إذ ليس لديه إحساس بحدود جسمه، وعندما يتطور ويعرف حدود جسمه فسيخطو خطوة لتحديد صورة جسمه body image والتي تشكل جزءاً من الأنا.
وأحد وظائف الأنا الأخرى تنظيم التفاعل مع الآخرين وبكلمة أخرى العلاقة مع المواضيع object relaionship وبالنظر للوراء نجد أن الطفل يتطور من مرحلة لا يميز بين نفسه وأمه إلى مرحلة يصبح هناك نوع من التعايش بينهما، وبعد ذلك عندما يتقبل الطفل أمه كشخص مستقل منفصل فإنه يطور أيضاً مجموعة معقدة من الرغبات التي يتطلبها من الأم، وتنظيم هذه الاحتياجات والحاجة لمواضيع أخرى هي جزء مما افترضناه أن الأنا تتوسطه.
وعمل آخر للأنا هو التحكم بالحوافز أو السيطرة على الحوافز Controle of Drive وذلك لتحمل الإحباط وتأجيل تفريغ التوتر. ففي البدء الطفل غير قادر على الانتظار ولكن في نهاية السنة الأولى من الحياة يستطيع الانتظار بل أيضاً يكتفي بإشباع بديل بدل أن يحصل على ما يريد تماماً.
وأيضاً عمل آخر للأنا هو الإحساس بالواقع Reality Testing أي القدرة على التمييز بين ما هو موجود في ذهن الطفل وبين ما هو موجود في الواقع، فالوليد لا يستطيع أن يقوم بذلك إذ لا يميز بين رغبته بوجود زجاجة الحليب وبين وجودها الفعلي. ولكن في نهاية السنة الأولى يكون الطفل قد بدأ بتكوين نوع من الإحساس (الشعور) بالواقع رغم أن هذا الشعور لا يزال ضعيفاً وهو لا يزال في مرحلة حيث الأمور الداخلية يمكن أن يعزيها العالم الخارجي والعكس.
إن للأنا مجموعة أخرى من الوظائف التي لم أتحدث عنها حتى الآن وهي وظائف الدفاع Defensicve Mechanism لأن الطفل في السنة الأولى لا يملك منها إلا القليل. فهو يملك القليل من الوسائل للتعامل مع التوتر المتزايد إلا أنه يعتمد في تخفيف توتره على الأشخاص في المحيط الخارجي، ولكن الأطفال مع نموهم يكتسبون مجموعة من الوسائل للتعامل مع التوتر، وفي نهاية السنة الأولى نرى بعض هذه الوسائل، فمثلاً إذا خشي من عدم وجود أمه فإنه يحوّل تعلقه إلى شخص آخر يشبه الأم (الموضوع الانتقالي كاللعبة) وفي الحقيقة فوسائل الدفاع في السنة الأولى تكون بدائية.
كما أن للأنا وظائف أخرى ندعوها بالذاتية Autonomus وهذه الوظائف توجد بشكل أساسي ولا تعتمد على التجارب والأحداث لتطورها ومنها الإدراك والذاكرة، التفكير، العاطفة أو الانفعال، والقدرة الحركية، الكلام، فهذه الوظائف رغم كونها فطرية فهي تتأثر بالمحيط ولكن ليس بنفس الدرجة التي تتأثر فيها الوظائف الأخرى للأنا، وخلال جميع المراحل التي سأذكرها فإن الأنا ستتطور بطريقة معقدة، وإن عمل وظائفها سيكون له تأثير كبير على قدرة الطفل على التعامل والتأقلم مع الوسط الخارجي.
دعا Freud طريقة التفكير عند الأطفال بالعمليات الأولية Primary Processes وهو يعني بذلك الطريقة الأولية للتفكير أي أن التفكير يتم عن طريق الصور، ففي السنة الأولى من الحياة لا يوجد استعمال للرموز أو الكلمات، فالتفكير يكون في هذه المرحلة Animistic وهذا يعني أنه لا يميز بين الأشياء الحية وبين الأشياء الجامدة، فالطفل مثلاً سيتعامل مع الأشياء غير الحية مثل ضرب الطاولة إذا اصطدم بها فهو لا يفرق كونها حية أو غير حية، وأكثر من ذلك لا يوجد في فكره مفهوم كلمة (لا) فكلمة (لا) هي مفهوم مجرد والأشياء السلبية لا توجد في هذه المرحلة من الحياة، وكل هذه الصفات هي جزء مما ندعوه بالتفكير الأولي. ولكن في هذا السياق وكوني سأناقش التفكير عند الطفل في حالات الاضطراب والأمراض النفسية بشكل مفصّل في كتاب مستقل يكفي أن أذكر هنا أن طريقة تفكيرنا كراشدين تختلف كثيراً عن الطريقة التي يفكر بها الأطفال، وسنرى كيف يتم التحول من النموذج الطفلي للنموذج الكهلي. لاحقاً سمى Piaget هذه المرحلة من التفكير بالمرحلة الحسية الحركية من تطور الاستعراف.
أما من ناحية السيطرة الحركية والتي هي جزء من وظيفة الأنا الذاتية فرأينا كيف يتطور الطفل من الحركة بطريقة المنعكسات إلى طرق أكثر تطوراً في الحركة، فهو يبدأ بالزحف ثم يقف وبعد ذلك يمكن أن يبدأ خطواته الأولى وقد أصبح أكثر اكتفاءً من ناحية التناسق اليدوي الفموي العيني وأصبح بإمكانه مسك الأشياء، وحتى النطق يتطور عنده. وهكذا بنهاية السنة الأولى يمكن لبعض الكلمات أن تخرج من فمه، وسوف أتحدث في الفصل التالي بتفصيل أكثر عن تطور الكلام.