لما مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد وأُخرِجت جنازتيهما فما تخلفت امرأة بالمدينة ولا رجل عن جنازتيهما، وقيل مات اليوم أشعر الناس وأعلم الناس وغلب النساء على جنازة كثير يبكينه ويذكرن عزة في ندبتهن له فقال أبو جعفر محمد بن علي وكان والياً على المدينة:
افرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها فجعلوا يدفعون عنها النساء، وجعل يضربهن محمد بن علي بكمه ويقول "تنحين يا صويحبات يوسف".
فالتفتت له امرأة منهن وقالت: "يا ابن رسول الله لقد صدقت إنا لصويحبات يوسف وقد كنا له خيرا منكم له".
فقال: أبو جعفر لبعض مواليه: احتفظ بها حتى تجيئني بها إذا انصرفنا. فلما انصرف أتي بتلك المرأة كأنها شرارة من النار.
فقال: لها محمد بن علي: أنت القائلة إنكن ليوسف خير منا؟
فقالت: نعم تؤمنني غضبك يا ابن رسول الله؟
قال: أنت آمنة من غضبي
قالت: نحن يا ابن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب والتمتع والتنعم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجب وبعتموه بأبخس الأثمان وحبستموه في السجن، فأيٌنا كان به أحسن وعليه أرأف.
فقال محمد: لله درك ولن تُغالب امرأة إلا غلبت.
ثم قال لها: ألك بعل؟ قالت: لي من الرجال من أنا بعله.
فقال أبو جعفر صدقت مثلك من تملك بعلها ولا يملكها.
فلما انصرفت قال رجل من القوم هذه زينب بنت معيقب.
ونلاحظ هنا جرأة هذه السيدة في الرد، ولها حجتها الخاصة في الدفاع عن بنات جنسها عندما عرّض الوالي بموقف امرأة العزيز وصويحباتها من سيدنا يوسف عليه السلام، وكيف استخدمت معه امرأة العزيز الحيل للإيقاع به، ولكنه صلى الله عليه وسلم العفيف الذي آثر ظلمات السجن على نار الوقوع في الفاحشة. ومن وجهة نظر زينب أن النساء كانوا أرحم بسيدنا يوسف من الرجال؛ الذين ألقوه في الجب وكادوا يقتلونه، والرجال أيضاً هم من ألقوه في السجن بضع سنين، بينما النساء دعونه إلى التمتع برذيلة الزنا فقط!!.
وهذا بالطبع منطق مقلوب؛ لأنك لو فتشت عن الأصل في حدوث الفتن لسيدنا يوسف عليه السلام ستجده راجعاً إلى امرأتين، الأولى هي زوجة أبيه التي حرضت أبناءها على بغض أخيهم يوسف ومحاولتهم التخلص منه؛ بحجة أن أباهم يعقوب عليه السلام يحبه أكثر منهم، والمرأة الثانية هي زوجة العزيز الجميلة صاحبة النفوذ والسلطان عند زوجها وعند سيدات المجتمع في زمنه عليه السلام!!!.
ولكن لابد هنا من وقفة للاستدراك، وهي أهمية دور المرأة في تشكيل وبناء المجتمع، وأن الكثير من حوادث التاريخ بل قل معظم مواقف التاريخ الإنساني، وإن قام بها في الظاهر بعض الرجال؛ فإن فتشنا في تلك الأحداث فستجد من ورائها العديد من النساء في صورة الأم أو الزوجة أو الأخت أو الابنة أو الخالة أو العمة، وهذا ليس استرضاءً من الكاتب للسيدات ولكنه الحق الذي يؤمن به ويؤمن به كل رجل في أعماقه وفي قرارة نفسه، فالرجل عندما يهم ويصنع قراراً مصيرياً –أياُ كان- هو يستحضر في خاطره فكر وكلام أمه أو زوجته أو ابنته أومن أثر في حياته من الجنس اللطيف، ومن هذه النقطة تكمن أهمية تربية وتشكيل وبناء البنت الصغيرة أو الفتاة أو لنقل أم ورحم وحاضنة ومربية أبناء وبنات الأمة بأكملها، وإن أردت إصلاحاً وصلاحاً لأمة ما فعليك الاهتمام بتربية البنات أكثر من اهتمامك بتربية وتنشئة الأولاد، ولقد لخص شوقي كل كلامي هذا في بيت واحد من الشعر قائلاً:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
ومن ظل في نفسه ريبة وشك في حقيقة: "أولوية المرأة في بناء الأمة" فلينظر إلى مملكة النحل، وكيف أن الشغالات الإناث يربين الذكور بطريقة معينة وبغذاء معين، وبعد أن ينتهي الذكور من مهمة تلقيح ملكة الخلية –والتي يقوم بها أسرع ذكور الخلية وأقواهم– فبعدها تقوم الشغالات بطرد وقتل الذكور الكسالى منعاً لهم من دخول الخلية!.
ولنعد الآن إلى مناقشة خلق هام من أخلاق تأكيد الذات في تراث سلفنا الصالح وهو خلق الصراحة والوضوح والصدق، فمن عناصر القوة أن يكون المسلم صريحا، يواجه الناس بقلب مفتوح ومبادئ معروفة، لا يصانع على حساب الحق بما يغض من كرامته وكرامة أنصاره، بل يجعل قوته من قوة العقيدة التي يمثلها ويعيش لها، ولا يحيد عن هذه الصراحة أبدا في تقرير حقيقة ما، حتى ولو اتهمه الناس بأبشع التهم كالزندقة والكفر مثلا، ما رأيكم لو نتوقف قليلا مع أبي الفقهاء المسلمين، والذي يقول عنه عبقري زمانه الإمام الشافعي: "العلماء عيال في الفقه على أبي حنيفة"، فكيف واجه أبو حنيفة فكر الخوارج المتشدد المتطرف؟!!، والذي يصم مرتكب المعصية بالكفر؟!؛ تعالوا معا نرى هذا الحوار القوي، شديد التعقل، والصريح لدرجة قد تودي بحياة صاحبه على يد خصومه من المتطرفين:
أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى
ولد بالكوفة في خلافة عبد الملك بن مروان، أما سبب تكنًيه بأبي حنيفة، فيقال: أنه كان له بنت اسمها حنيفة فكني بها.
من مواقفه:
كان رحمه الله تعالى قد أجاز التحكيم الذي حصل بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية بن أبي سفيان –كما فعل سائر أهل السنة والجماعة– فدخل عليه بمسجد الكوفة جماعة من الخوارج على رأسهم الضحاك فقال له ارجع عن قولك في التحكيم وتب وإلا ضربنا عنقك بسيوفنا، فلم ترهبه سيوفهم ولم تفقده رباطة جأشه بل أجاب: أنتم لا تجيزون التحكيم وأنا أجيزه، أفلا تناظرونني لنرى المخطىء من المصيب؟ فقال له الضحاك: نعم نناظرك، فأجابه أبو حنيفة: إذن فالتمسوا حكماً يكون بيني وبينكم ليحكم لأحدنا على الآخر. ففكر الضحاك قليلا ثم قال: أترضى بفلان حكما بيننا وبينك؟ عند ذلك ضحك أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقال له: يا ضحاك قد حججت نفسك وحكمت عليها قبل أن تبدأ المناظرة. هاأنت قد رضيت بالتحكيم، كيف تنعاه على علي رضي الله عنه وأرضاه؟ فخجل الضحاك وأغمد سيفه هو وجماعته وانسلوا خارجين.
وفي موقف آخر، دخل عليه مرة أخرى جماعة من الخوارج شاهرين سيوفهم وكانوا يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر، بينما أبو حنيفة رحمه الله تعالى وأهل السنة والجماعة يقولون: إنه فاسق. وقالوا له بالباب جنازتان، أحدهما لشارب خمر والأخرى لزانية، فما تقول فيهما؟ فلم ترهبه سيوفهم ولم تجعله يحيد عن الحق قيد شعره، بل قال لهم بهدوء، أين ستدفنونهما، أفي مقابر اليهود؟ قالوا لا، قال أفي مقابر النصارى؟، قالوا لا، قال أفي مقابر المجوس؟ قالوا لا، قال أفي مقابر المسلمين؟ قالوا نعم. قال: إن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد قال: [رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ] ( إبراهيم، 36). وسيدنا عيسى عليه السلام قال: [إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (المائدة : 118). وهؤلاء الذين تتحدثون عنهم عصاة، إن شاء الله تعالى عذبهم، وإن شاء عفا عنهم، فلم يحيروا جوابا، بل سكتوا وتسللوا خارجين.
وحدث أن كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم!! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فقال: "إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله تعالى يريهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" – أخرجه البخاري.
ذلك أن الشخص الذي يحيا في الحقائق لا يتاجر بالأباطيل، فهو غني عنها. وصراحته ووضوحه وصدقه دليل على ثروة عريضة من الشرف، تغني صاحبها عن الدجل والاستغلال وتقيم سيرته على ركائز ثابتة من الفضيلة والكمال.
وقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنبثق من هذا السمو النفسي لأنها تعتمد على مصارحة المخلصين بما فرط منهم ابتغاء محوه ليثبتوا مكانه الصواب والخير. والذي نريد توكيده هنا أن الشخص يجب أن يكون ناقدا للعيوب الفاشية جريئا في الحملة عليها، لا يتهيب كبيرا ولا يستحي من قريب، ولا تأخذه في الله لومة لائم. وفي الحقيقة وعلى مر العصور، نجد من علماء المسلمين من يحقق ويؤكد هذه المعاني العظيمة عمليا؛ هلم بنا لنستمع إلى موقف أحدهم؛ إنه:
أحمد بن بديل الكوفي القاضي، والذي كان يسمى راهب الكوفة رحمه الله تعالى:
فلقد حدث أبو القاسم كاتب موسى بن بغا (أحد القواد الأتراك من ذوي النفوذ الشديد في زمن الخليفة المعتز بالله ومن تبعه) قال: كان لموسى بن بغا أسهم كثيرة في إحدى الضياع، وكان لأحد الأيتام سهم واحد، فأراد أن يجمع ابن بغا الضيعة لنفسه وأن يمتلك أسهمها كلها، فأرسلني إلى القاضي أحمد بن بديل لإتمام ذلك فاستحضرته وخاطبته في أن يبيع لنا حصة اليتيم ويأخذ ثمنها، ينميه لليتيم، فامتنع القاضي ابن بديل، وكان وصيا على مال ذلك اليتيم، وقال: ما باليتيم حاجة إلى البيع ولا آمن أن أتاجر بماله فيحدث علي المال حادثة فأكون قد ضيعته عليه، فقلت له نعطيك ضعف قيمة حصة اليتيم، قال ليس هذا بعذر ولا بحل للمشكلة؛ إذ تستوي كثرة المال وقلته في ذلك عندي. فقلت له على سبيل التهديد: إنه موسى بن بغا!!.
فقال: إنه الله تعالى، فمن أحق بالطاعة، موسى بن بغا أم الله سبحانه وتعالى؟!.
فتركته وذهبت إلى موسى بن بغا وذكرت له ما حدث بيني وبين القاضي فبكى وقال لا تتعرض لهذه الضيعة بعد ذلك. وأرسل إليه الخليفة المعتز مرة فدخل القاعة بنعليه والحجاب يصيحون فيه يا شيخ نعليك فقال أبالوادي المقدس أنا فاخلع نعلي؟!!.
وهكذا تكون عزة العلماء العاملين بعلمهم؛ "لا يخافون في الله لومة لائم"، فقد كره الإسلام أن يضعف الرجل أمام العصاة من الكبراء، وأن يناديهم بألفاظ التكريم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل للمنافق: ياسيد، فقد أغضب ربه" – أخرجه الحاكم. وإنها لجريمة مضاعفة أن ينتهك امرؤ الحرمات المصونة، ثم يستمع إلى من يبجلونه لا إلى من يحقرونه. [..... وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ] (الحج: 18).
ولا تقل مقاومة الفكر المنحرف والمبادئ الهدامة أهمية عن النهي عن المنكر من الأقوال والأفعال، بل قد تكون مقاومة الغزو الثقافي والفكري للعقول، وكذلك محاربة المذاهب الضالة والمضلة والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان أكثر أهمية من الدعوة لصالح الأعمال من صلاة وصيام وزكاة وحسن خلق، لأن فضائل الأعمال يعرفها الناس بالفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، أما المذاهب الضالة والأفكار الداعية للمبادئ الهدامة، فهي تتخذ لنفسها شعارات لامعة وبراقة تجذب إليها العامة من الناس، كما يجذب ضوء المصباح القوي الحشرات الليلية إليه؛ فتكون نهايتها الاحتراق، ولنا في موقف علماء أهل السنة من فتنة خلق القرآن آية وعظة في كيفية مقاومة الفكر الخبيث والتصدي له مع الاعتداد بعزة المؤمن الذي لا يخوض فيما لا يعلم.